أعمدة

الصحفيون لا يتقاعدون

13 يونيو 2020
13 يونيو 2020

عاصم الشيدي

[email protected]

لا أحب لحظات الوداع، ولا أختارها رغم أنها تختارنا في بعض الأحيان؛ فنرضخ لتفاصيلها ولأثرها في نفوسنا لزمن طويل.

الأسبوع الماضي كان حافلا بلحظات الوداع في جريدة $. ودعّنا الكثير من الأصدقاء الذين «كُرموا» بالتقاعد بعد سنوات من العطاء الباذخ في ساحات وميادين «صاحبة الجلالة» الصحافة. كان بعض هؤلاء يتحين الفرصة لقرار التقاعد فجاء القرار وسهّل عليهم الذهاب نحوه، فيما كان آخرون يؤجلون مجرد التفكير به في انتظار الخلاص من الديون المتراكمة عليهم عبر الزمن.

لم يكن سهلا النظر في عيون الزملاء وهم يتركون «البيت» الذي عاشوا فيه سنوات طويلة من الزمن بحثا عن «الحقيقة» التي يقضي الصحفي عمره في تقصيها. لا أعرف كيف يمكن أن يكون هذا اليوم في صالة تحرير جريدة $ وسيف المحروقي رئيس التحرير غير موجود فيها، ولا سالم الجهوري نائب رئيس التحرير للشؤون الدولية ولا عميد الصحفيين الرياضيين في السلطنة ناصر درويش نائب مدير التحرير للشؤون الرياضية ولا خالد الحارثي رئيس القسم الدولي ولا هلال الهنائي ولا راشد شنون ولا خالد الوهيبي وسيف الفضيلي وسالم الحسيني وشيخان العوفي ولا محمد الحارثي ولا سالم الشهومي ولا بدر الجابري وسيف السليماني وزايد السعدي وراشد المعمري وناصر الحسني وسعيد المحروقي وصالح المحروقي وسعيد المعمري وصالح العزري وخلفان التوبي وسالم المحاربي وفي مكتب الجريدة بولاية نزوى الأخ والصديق محمد الحضرمي الذي تزاملت معه طويلا في القسم الثقافي وتعلمت منه الكثير، وتناقشت معه طويلا في الشأن الثقافي العماني والعربي ومعه من المكتب نفسه سيف العبري ومن مكتب الجريدة في صلالة الدكتور خالد مقيبل ومحاد المعشني وآخرون كثر من دوائر الجريدة الإدارية والفنية. كان هؤلاء يشكلون الخط الأول في كتيبة التحرير بجريدة $ وهم الذين رسموا تفاصيل الزمن الجميل من عمر الجريدة خلال العقود الماضية ونقشوا أسماءهم على صخر الصحافة يوم لم يكن لأوهام شخصيات السوشل ميديا أي وجود.

ليس سهلا أن يبدأ هذا اليوم في صالة التحرير والتفاصيل التي كانوا يصنعونها صحفيا لسنوات طويلة غير موجودة، ليس سهلا أن لا تكون المفارقات التي يصنعونها يوميا من أجل أن يكون للحياة طعمها وذكرياتها غير موجودة، ليس سهلا أن لا يكونوا في مشهد الأحداث جنبا إلى جنب مع بقية الزملاء.

لكن الحقيقة التي أريد أن أقنع بها جميع هؤلاء الزملاء، وأنا مؤمن بها تماما، أن الصحفيين لا يتقاعدون أبدا. الصحافة ليست وظيفة تنتهي بانتهاء عقد العمل بين الموظف والمؤسسة التي يعمل بها بالتقاعد. وليست الصحافة مجرد كتابة خبر في جريدة يومية أو مجلة أسبوعية، الصحافة مهنة يمكن أن يمارسها الصحفي حتى بعد انتهاء ارتباطه اليومي بالصحيفة التي يعمل بها. ولا يمكن لذلك الشعور الذي يدفع الصحفي للمغامرة أو يحرك فيه هاجس الكتابة والبحث عن الجديد ينتهي باستلامه رسالة التقاعد. وإلا لا يكون صحفيا وإنما موظف عادي.

لا يمكن أن نتجاهل في هذا السياق الكاتب والصحفي الأستاذ محمد حسنين هيكل الذي لمع نجمه بعد خروجه للتقاعد حيث تفرغ للكتابة والتأليف من منطلق كونه صحفيا. واستطاع أن يرفد المكتبة العربية والعالمية بكتب تعد الأهم في مجالها. ونستذكر هنا أن (هيكل) عندما حاور الخميني في عام 1978 لصالح جريدة الديلي تلجراف وغضب السادات لذلك وسأل: بأي صفة يحاوره. رد هيكل على مبعوث السادات وقال: بصفتي صحفيا. كان السادات يعتقد أنه بمجرد خروج هيكل من الأهرام قد انتهت علاقته بالصحافة.

ولذلك أدعو الزملاء والأصدقاء إلى الكتابة أولا عن تجربتهم الحياتية والصحفية، فقد عاشوا في الصحافة في فترة مفصلية وشهدوا كيف تطورت هذه المهنة على مدى العقود الخمسة الماضية إلى أن أصبحت أدوات صناعتها سهلة وميسرة للجميع. لا نريد ولا نتمنى أن يكون التقاعد نقطة النهاية، بل نقطة البداية لمرحلة من الكتابة تكون أكثر عمقا.. فإذا كانت الكتابة الصحفية نظرا لارتباطها بعامل السرعة تفتقد أحيانا للعمق والتأمل فإن الكتابة التي ننتظرها من الزملاء في المرحلة القادمة تحتاج أن تكون عميقة متأملة تستقرئ التجربة بشكل دقيق ومهني. وكذلك الحال بالنسبة للكتابات الأخرى التي ننتظر استمرارها منهم، فالزمن بأيديهم الآن ولن يتسابقوا معه في الطريق إلى المطابع.

لذلك ليس هذا مقال وداع ولا هذا أوانه؛ إنه مجرد وقفة لتحية في لحظة مفصلية في حياة الإنسان سنمر بها جميعا ذات يوم لا محالة لنعبر من المستعجل إلى المتأني والعميق.

فتحية لكم يا أصدقاء المهنة وأنتم تنتقلون إلى المتأني والعميق تاركين لنا الصراع من المستعجل من الأخبار والملتبس من المشهد.