أفكار وآراء

المشهد الأمريكي ومستقبل الدولة العظمى

03 يونيو 2020
03 يونيو 2020

عوض بن سعيد باقوير - صحفي ومحلل سياسي -

سوف تظل الولايات المتحدة الأمريكية إحد القوى المتعددة كروسيا الاتحادية والصين وبريطانيا وكندا وألمانيا، كما أن التأثير السياسي سوف ينحسر إلى حد ما مع الدعوات الملحة من الدول النامية لإصلاح هيكلي للأمم المتحدة وتوسيع العضوية الدائمة لمجلس الأمن.

بعد أحداث كبيرة شهدتها الولايات المتحدة خاصة على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي وقضايا العزلة الداخلية امتدادًا لنظرية الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب وهي أمريكا أولا مرورا بانتشار فيروس كورونا والانتقادات المتواصلة حول تعامل إدارة ترامب مع الحدث الصحي الكبير وانتهاء بالوضع الاقتصادي المتدهور وخروج أكثر من ٤٠ مليون من أعمالهم، تأتي حادثة مقتل المواطن الأمريكي من أصول إفريقية جورج فلويد على ضابط شرطة في ولاية مانيسوتا التي قد تشير إلى تآكل الامبراطورية الأمريكية، فالولايات المتحدة الأمريكية لن تخرج عن سياق القوى العظمى والإمبراطوريات القديمة وعلى رأسها الإمبراطورية البريطانية والفرنسية وحتى الألمانية في العصر النازي، حيث إن عوامل تآكل تلك الإمبراطوريات بسبب الحروب والصراعات والاتفاق المالي على القواعد العسكرية ومناطق النفوذ خارج أراضيها يتكرر الآن في الولايات المتحدة الأمريكية، من خلال ما عبرت عنه تلك الاحتجاجات والتي كانت ذات طبيعة تراكمية من خلال شعور الأقليات داخل المجتمع الأمريكي بأن سطوة الجنس الأبيض لا تزال موجودة.

ومن هنا فإن الشرخ الاجتماعي في الداخل سوف يكون له انعكاسات وتداعيات على الدولة الأمريكية وثوابتها التي تغنت بها سنوات طويلة بل وتستخدم تلك المثاليات مثل حرية التعبير وحقوق الإنسان ضد الدول النامية للضغط عليها لتحقيق مأرب سياسية، في حين تغض الطرف عن السلوك الإجرامي للكيان الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة طوال سبعة عقود.

إشكالية الداخل

الولايات المتحدة الأمريكية دولة مترامية الأطراف وكل ولاية تعد دولة في حد ذاتها وقد تشكلت هذه الدولة بعد صراعات وحروب داخلية كان من أكثرها قسوة القضاء على السكان الأصليين وهم الهنود الحمر قبل عدة قرون ثم الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب، وبدأت الهجرات إلى هذا البلد الغني الذي يحلم به الكثيرون من إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وقد لعب المهاجرون دورا بارزا في بناء الدولة الأمريكية وتقدمها المذهل وكانت الحركة المدنية للأمريكيين الأفارقة بقيادة مارتن لوثر كينج دور حاسم في عقدي الخمسينات والستينات لإقرار المساواة بين جميع الأمريكيين وعلى ضوء الدستور الأمريكي.

ولعب التفوق الرياضي للأمريكيين الأفارقة دورا كبيرا في تفوق أمريكا رياضيا خاصة في الدورات الأولمبية وحتى على صعيد رياضة كرة السلة وكرة القدم الأمريكية والملاكمة وما زال العالم يتذكر أسطورة الملاكمة الراحل محمد علي كلاي.

من هنا فإن التوازن الاجتماعي بدا في الاهتزاز منذ وصول إدارة ترامب من خلال النظرة الشعبوية وكتلة ترامب الانتخابية، ولا تعد حادثة مقتل جورج هي الأولى بل كانت هناك أحداث مشابهة لمواطنين أمريكيين من أصول إفريقية، لهذا فالذي حدث هو تمرد على وضع اجتماعي غير منصف وكانت الشرارة الكامنة هو صراخ جورج وهو يقول إنه لا يستطيع التنفس.

إن إدارة ترامب هي الآن في مفترق طرق في ظل الأحداث والتي اقتربت من البيت الأبيض وفي عدد من الولايات الأمريكية، وهذه الأحداث هي جرس إنذار خطير للوضع الإنساني والحقوقي في بلد متعدد الأعراق.

إن الدولة الأمريكية تواجه أشكالا كبيرا وهي تفقد القيادة الدولية، خاصة في ظل تخبط الإدارة الأمريكية وانسحابها من منظمة الصحة العالمية والاتهامات التي توجهها بشكل مستمر للصين بعد عجزها الواضح عن السيطرة على تفشي فيروس كورونا وهو الأمر الذي جعل ولاية نيويورك تعاني الأمرين.

المشهد إلى أين؟

نعود إلى عنوان المقال.. هل بدا تآكل الإمبراطورية الأمريكية لتصبح إحدى القوى الدولية بعيدا عن الهيمنة الفردية أو القطب الواحد؟

يبدو أن كل المؤشرات وتحليلات كبار المفكرين في الولايات المتحدة الأمريكية تتحدث عن ذلك ليس فقط لأسباب اقتصادية، ولكن لأسباب تاريخية وجيوسياسية، وفي ظل إطلالة قوى صاعدة في المشهد الدولي كالصين والهند وألمانيا والبرازيل وكندا علاوة على التكلفة الباهظة للبقاء طويلا على التحكم دوليا، وقد عبر ترامب عدة مرات بأن الولايات المتحدة الأمريكية سوف تتخلى عن دور الشرطي في العالم وهو يتحدث هنا عن التكلفة الاقتصادية بسبب الحروب والصراعات التي تتواصل في عدد من الدول في الشرق الأوسط وإفريقيا علاوة على قضايا الهجرة والشعبوية التي تزداد وتيرتها وهو ما يحدث الآن في عدد من الولايات الأمريكية.

الولايات المتحدة الأمريكية تعيش مرحلة فارقة في تاريخها الحديث خاصة من خلال القيم القانونية والفلسفية التي جعلتها دولة إمبراطورية خلال القرن الماضي، ولكن هناك عوامل موضوعية تجبر الولايات المتحدة الأمريكية على التنازل عن ذلك الكبرياء الذي يعتمد على القوه العسكرية والتفوق التقني.

ومن هنا فإن انسحاب واشنطن من عدد من المنظمات الدولية هو جرس إنذار على التقوقع الداخلي، بالإضافة إلى المشكلات الاقتصادية ومشكلة فيروس كورونا.

يتطلب ذلك الانعزال وفق شعار أمريكا أولا وعلى ضوء أحداث مقتل جورج وبالنظر إلى التحول الاجتماعي فرض قوانين رادعة ضد تصرفات الشرطة الأمريكية وتقدير حقوق الأقليات، وسوف يكون ذلك أحد المتغيرات داخل المشهد الأمريكي الداخلي في ظل المشهد الانتخابي والاتهامات المتبادلة بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري حول إدارة الأزمات الداخلية في الولايات المتحدة الأمريكية وانعكاسها على حظوظ مرشحي الحزبين وهم الرئيس الحالي الجمهوري ترامب ومنافسه الديمقراطي جو بايدن والذي يتقدم في استطلاعات الرأي العام بعشر نقاط على منافسه ترامب.

من هنا فالولايات المتحدة الأمريكية تعيش في هذه الأيام أوضاعا داخلية صعبة وسوف تكون هناك متغيرات حاسمة سوف تدفع بالناخب الأمريكي في نوفمبر القادم إلى حسم المعركة الانتخابية.

مسار الدولة العظمى

عند الحديث عن تآكل الإمبراطورية الأمريكية فهذا يعني أن أمريكا لن تظل الدولة الأولى اقتصاديا وتكنولوجيا وحتى عسكريا، ولكن سوف تظل الولايات المتحدة الأمريكية إحدى القوى المتعددة كروسيا الاتحادية والصين وبريطانيا وكندا وألمانيا، كما أن التأثير السياسي سوف ينحسر إلى حد ما مع الدعوات الملحة من الدول النامية لإصلاح هيكلي للأمم المتحدة وتوسيع العضوية الدائمة لمجلس الأمن، كما أن الانسحاب الأمريكي من منظمات واتفاقات دولية يفقد واشنطن نسبة من هيبتها الدولية في ظل الفكر المالي لإدارة ترامب والذي يطالب الجميع بدفع مزيد من التكاليف المالية حتى على صعيد حلف الأطلسي على الضفة الأخرى.

إن التناقضات الداخلية للسياسة الأمريكية وما تشهده من أحداث دراماتيكية يفرض تساؤلات مشروعة حول وضع الإمبراطورية الأمريكية، كما أن المشكلات الداخلية أصبحت أكثر التحديات على تماسك الدولة الأمريكية خلال السنوات القليلة القادمة وما يحدث الآن من إرهاصات اجتماعية والعنف والاحتجاجات هو تطور غير مسبوق على صعيد الساحة الداخلية، وهناك انعكاسات سوف تطل برأسها على الدولة الأمريكية من خلال اختلاط الأوراق في الداخل مع قرب المعركة الانتخابية والتي سوف تحسم الكثير من الجدل بين المشروع الشعبوي لترامب واليمين المتشدد وبين المشروع الليبيرالي الذي يمثله الحزب الديمقراطي.