Screen Shot 2020-04-21 at 5.24.37 PM
Screen Shot 2020-04-21 at 5.24.37 PM
أعمدة

البحر وكورونا

19 مايو 2020
19 مايو 2020

عادل محمود

بين الغرق في البحر والاختناق بالكورونا... خيطٌ من الزمن، يخبئ لكل منا مصيره.

في صيف 1974 كنا مجموعة على البحر الأبيض المتوسط، وكان بيننا شاب صديق رقيق لطيف ومهتم لدرجة الهوس بالمسرح تأليفاً وإخراجاً وكاد أن يمثل أيضاً.

عند الغروب قررنا النزول إلى الماء، وأنا لم أسأل هذا الرجل إن كان يجيد السباحة. فسبحت بعيدا ، وبعد دقائق سمعت صراخ النجدة... النجدة. كان صوت صديقي، سبحت وقلت له تعلق بكتفي وإياك رقبتي. وبدأت السباحة الإسعافية التي تعلمناها. وفي لحظة تعلق برقبتي، كاد يخنقني ، وفي هذه الحالة يبدأ تقرير المصير. إما أنا أو هو. ولحسن الحظ كنا قد وصلنا إلى منطقة عائمة قريباً من الشاطئ. قلت له : أنزل قدميك على الرمل... فلم يجرؤ. إلا بعد أن تأكد من وقوفي والماء يغمر نصفي فقط.

مضت سنوات وهو يقول عني معرفا: هذا الرجل أنقذني.

والحقيقة التي لن تغيب أبداً: إن الذي نجا من الغرق في تلك المحنة هو أنا. فأنا الذي يعرف تلك اللحظة الفاصلة بين القدرة، غير المؤكدة ، على النجاة معاً، وإمكانية النجاة المؤكدة، وحدي.

والمسألة تتوقف على التنفس دقائق لنصل إلى الشاطئ، ولقد تخيلت، في تلك اللحظة، أنني عائد وحدي فيما أتفرج على غرق رفيقي. فأوتيت قوة الدلفين الذي يحمل طفلا يغرق... تلك القوة التي تسمى شجاعة اللحظة الأخيرة ، التي تنقذك من الندم أبد الدهر.

ونجونا ... معاً. وأظنني لم أتلقَ في حياتي، بعدها، فرحاً يشبه فرح تلك اللحظة... لحظة التلامس بالوقوف الصلب على أرض البحر الرحيم... فرحة النجاة.

تعانقنا... وبكينا.

مضت السنوات، والتقينا مرة في عرض مسرحي هو مؤلفه ومخرجه في مسرح الحمراء بدمشق. وأهداني كتابه الأول بهذه الكلمات: "إلى عادل... منقذي من الغرق. أرجو ألا يندم على ذلك".

ومضت السنوات الطويلة ولم نلتق. فأنا سافرت طويلاً، وهو أصبح عميداً للمعهد العالي للفنون المسرحية، ثم مديراً عاماً للإذاعة والتلفزيون، ونشر عدة كتب ومسرحيات. ثم أصبح وزيراً للثقافة.

ذات يوم، بعد أن عدت إلى دمشق، التقيت به في الطريق. تعانقنا... وسألني إن كنت سأسافر مرة أخرى. أريد أن أراك وأطمئن عليك. وكان يعتذر بارتباك لأنه مستعجل.

ومرة أخرى قال: تعال بدّي اطمئن عليك. فقلت مداعباً: "ما زلت لم أندم"!

مضت السنوات، وأتاني هذا الأسبوع خبر موته في أمريكا، ليس غرقاً في البحر، وإنما اختناقاً بالكورونا.

أحسست بيدي "رياض عصمت" تضغطان على كتفي ، في خوف، كما في تلك اللحظة على البحر الأسود المتوسط ، في ذلك اليوم من صيف 1974...

ولكننا لا نستطيع ، هذه المرة ، أن ننجو معا !