يوسف البلوشي copy
يوسف البلوشي copy
أعمدة

الشركات المجتمعية.. وإعلاء المصلحة الوطنية

17 مايو 2020
17 مايو 2020

يوسف بن حمد البلوشي

[email protected]

إن العالم يمر بتغيرات وديناميكيات غير مسبوقة، وأننا أمام حراك اقتصادي وتحديات جسيمة على مختلف الأصعدة، ومن جانب آخر أننا نمتلك جاهزية وبلدا زاخرا بالخيرات والطاقات والقدرات البشرية وهناك إرادة رسمية حقيقية للحفاظ على مستوى معيشة كريم لجميع أفراد المجتمع.

وفي السياق نفسه أن نهضة الأمم لا تحدث تلقائيا وإنما هي وليدة إرادة وشراكة حقيقية بين المجتمع والحكومة ومؤسسات الأعمال، والإيمان بوجود حاجة ملحه لتغيير في النموذج التنموي بما يتناسب مع المعطيات والواقع الجديد.

يتبنى المقال أحد الأفكار التنموية الرامية إلى معالجة أحد أهم التحديات الاقتصادية المتمثل في عجز الحساب الجاري في ميزان المدفوعات الناجم عن ضعف دورة الأنشطة التجارية المحلية المعتمدة بشكل كبير على استيراد السلع والخدمات لتلبية الطلب المحلي وما يسفر عنه من خروج رؤس أموال كبيرة مقابل الاستيراد للسلع والخدمات والعمالة وأرباح الشركات الأجنبية ومن بينها المراكز التجارية المنتشرة في ربوع الوطن.

إن معالجة اختلالات دورة الأنشطة التجارية وتشجيع الإنتاج والتصنيع المحلي وتدوير الأموال في المجتمع المحلي لن يتأتى بدون إعطاء الأولوية لكل ما هو محلي والحد من خروج العملة الصعبة وتلك أهداف الوطنية لا تعني الكثير للمراكز التجارية الأجنبية والمرتبطة بسلاسل توريد عالمية، وتسمى هذه المراكز في بعض المجتمعات بشركات الزومبي (الأحياء الأموات) لكونها صغيرة الإمكانيات ولكن لديها قدرة عالية على السيطرة على الأسعار وتحقيق الأرباح الطائلة، من خلال جنيها لعدد من الرسوم جراء عرض سلعة معينة في ذلك المتجر على سبيل المثال وليس الحصر: بدءًا من رسوم البناء على أي شركة تعتزم البيع في المركز التجاري، رسوم العرض تصل إلى 2000 ريال عماني، رسوم استئجار الرف حدود 600 ريال عماني، ورسوم عمولة البيع (12-20%) من المبيعات، رسوم للأكياس المستخدمة في المتجر ورسوم العامل مسؤول عن البضاعة المعروضة ورسوم على سحوبات المتجر وغيرها من الرسوم.

ويجب التنويه أن هذه المراكز التجارية تعتمد على تسهيلات مالية كبيرة من البنوك المحلية، والذي له تداعيات وخيمة في حالة فرار أصحاب تلك المراكز وهي تجربة عادة ما تتكرر ونسمع عنها، ولا يخفى أن تركز حركة البيع والشراء في عدد محدود من المراكز له عواقب سلبية على ارتفاع الأسعار وجودة المنتجات يتضرر منها المستهلك والمجتمع.

إن مثل هذه المراكز تجد بيئة خصبة لها في الدول النفطية ذات الدخول المرتفعة ويعمل معظم مواطنيها في القطاع العام، في حين تشترط الدول المتقدمة وجود هذه المراكز العملاقة في أطراف أمهاة المدن تجنبًا لمزاحمة المؤسسات الصغيرة والمتوسطة وتحقيق فوائد تنموية أخرى.

أن التصدي لمثل هذه الممارسات وإعادة هندسة الاقتصاد العماني يفرض علينا تبني ممارسات جديدة وإن كانت مطبقة بشكل واسع في مختلف دول العالم وتتسم تلك الممارسات بإعلاء المصلحة الوطنية والعمل بروح الفريق الواحد والإيمان بأن المستقبل تجب صناعته من خلال أنماط سلوكية واستهلاكية جديدة الكل فيها مستفيد سواء كان مجتمعًا أو اقتصادًا وطنيًا أو شركات أو منتجات محلية.

وتتعدد العوامل التي تعزز نجاح هذا المسار. الحديث هنا عن الشركات المجتمعية في الولايات والمحافظات في نشاط المراكز التجارية، فرؤوس الأموال والقوى العاملة والطلب المحلي متوفر في الولايات، المعرفة والإدارة متوفران لدى الشريك الاستراتيجي، وبقي على الحكومة وضع الإطار والحوكمة المناسبة والبدء بالتنفيذ، وعلى الجميع أن يتحلى بالمرونة المطلوبة في المراحل الأولى.

وللنجاح في مسار الشراكة المذكور يجب على أفراد المجتمع والقطاع الخاص ترتيب أوراقهم بطريقة تضمن نجاح هكذا مبادرات تحولية. وعلى الحكومة كونها المحرك الأول ومن يمتلك الإمكانيات وتهمها إعادة هيكلة الاقتصاد أن تبادر من خلال إحدى شركاتها في تبني نموذج تجاري وتوليفة مغايرة لما هو قائم لتكوين شركات في مختلف المحافظات كمرحلة أولى من خلال توفير إطار كلي واضح لتهيئة الأرضية المناسبة للشراكة، واتباع نموذج شراكة بحيث تمتلك الشركة المجتمعية من المحافظة ما لا يقل عن 60%، وشريكا استراتيجيا دوليا يملك معرفة وخبرة ومهنية عالية في أنشطة المراكز التجارية يمتلك 20%، وإحدى الشركات الحكومية تمتلك 20% من الأسهم تقوم بالتخارج منها بعد فترة زمنية محددة) والفيصل في النجاح هو وجود إدارة وحوكمة فاعلة تضمن تحقيق التوازنات والأهداف الاقتصادية وحفظ الحقوق.

إن إعادة هندسة الاقتصاد العماني وشق مسار جديد للتنمية العمانية يحتم علينا تبني أفكار ونماذج جديدة تتناسب مع النسيج الاقتصادي العماني ومقومات تنميته التي تستوجب إطلاق طاقات الإنتاج المحلي والذي سيجد الأفضلية في النموذج المقترح في هذا المقال، والذي يمكن أن يبدأ في نشاط المراكز التجارية ومن ثم ينتقل إلى القطاعات ذات المزايا النسبية في الولايات والمحافظات ومن ثم إنشاء شركات مجتمعية في أنشطة تهم المجتمع مثل مستشفيات مجتمعية، وجامعات مجتمعية وهكذا.

وهذا التحول المنشود في النموذج التنموي الذي ينحسر فيه دور الحكومة مقابل دور فاعل للأفراد ومؤسسات الأعمال. وهناك العديد من التداعيات الإيجابية للنموذج المقترح في التنمية الإقليمية وإيجاد فرص عمل وتحفيز الاقتصاد وتعظيم الاستفادة من الموارد والبنية الأساسية وتقاسم الأرباح والمنافع وتعزيز مكانة عمان التجارية كمركز للتوزيع وإعادة التصدير للدول العالم بعد اكتساب تلك المتاجر المجتمعية للخبرات والمعرفة في بناء سلاسل التوريد وهناك العديد من الأسواق التي يمكن الولوج إليها سواء بمنتجات عمانية صرفة أو منتجات يعاد تصديرها، حيث تعتبر إعادة صياغة العلاقة بين القطاعين العام والخاص وتعزيز مبدأ الشراكة وجذب الاستثمار الأجنبي أبرز عناوين المرحلة القادمة ورؤية عمان 2040.

إن نجاح الشركات المجتمعية في الولايات والمحافظات من أبرز أدوات التحول إلى نسق تنموي يتماشى مع تحديات الوضع الراهن المتسم بالانكفاء إلى الداخل، إلا أن الأمر مشروط بإيمان القائمين على هكذا مبادرات بالأهداف الوطنية من إنشائها، ووجود قيادات تمتل مهارات تمكنها من بناء فرق عمل واستنهاض وحشد هممها للتعامل مع التحديات مهما عظمت، وابتكار الحلول، وتعمل بشغف وطاقة كبيرة وقادرة على فهم ومواكبة التغيرات في الاحتياجات الوطنية.

ومن المهم أن تتحلى هذه الشركات المجتمعية بديناميكية كبيرة حسب معطيات كل مرحلة تنموية، فلكل مجتمع نسيجه واحتياجاته التي تختلف في كل مرحلة من مراحل نموه.

ولن تنجح هذه الشركات بالعمل في جزر منعزلة وتحتاج إلى تبنٍ صريح من الحكومة لتكون بين برامج التحول الوطني للمرحلة القادمة لضمان التحول في نسق وطور التنمية الحالي، ما يتطلبه من تغيرات مهمة في عناصر الإنتاج بالمجتمع بدءًا بالإنسان وأهمية إيمانه بقيم الإنتاجية والادخار وريادة الأعمال وتغيير أنماط سلوكه. وكذلك رأس المال والدور الجديد للبنوك وشركات التمويل لإعادة توجيه الائتمان والمدخرات إلى القطاعات الإنتاجية.

والفيصل في نجاح الشركات المجتمعية قدرات القائمين عليها، والتفريق بين من ينفذها ومن يرعاها، ومن يخطط لها ومن يعنى بتحقيق مستهدفاتها.

إن مثل هذه المسارات لن تنجح بدون تبنٍ صريح من أعلى قمة الهرم لإذكاء الشعور بالانتماء وشق طريق الإنتاج والتصنيع والتصدير، حيث إن التغيير الناجح كغيره من الظواهر لا يحدث من تلقاء نفسه، بل يتطلب قيادة وتخطيطًا متكاملًا وأساليب ذكية لإنضاج القناعات بين كافة الفاعلين بضرورته، وأن أي معادلة للتنمية العمانية يجب أن تتميز بالتجديد والابتكار، وأن صناعة مستقبل أفضل للجميع مرهونة بتعاون الجميع.

وختامًا، السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة، ونحن في معركة اقتصادية حامية الوطيس، لنتوقف عن الكلام ونبدأ العمل فعملية التنشيط والتحول الاقتصادي لا تحدث بين ليلة وضحها وستكون على مراحل، ولكن يجب أن نبدأ، ولنؤمن بأن مستقبل ومنعة عمان بأيدي أبناء عمان ومرهون بأخذهم بالأسباب وإدارة مؤسسية للملف الاقتصادي.