1478184
1478184
المنوعات

مرفأ قراءة ... مقالات سهير القلماوي .. ثروة ثقافية وأدبية

16 مايو 2020
16 مايو 2020

إيهاب الملاح -1-

أعترف بأنني من المولعين بتتبع التراث المجهول أو الأعمال التي لم يسبق جمعها بين دفتي كتابٍ لأحد أعلامنا الكبار في الأدب أو الفلسفة أو التاريخ (أو الإنسانيات عمومًا)، ذلك أنني وعلى مدار أكثر من ثلاثة عقود بتُّ على يقين بأن ثمة كنوزًا وروائع مبثوثة في بطون الصحف والمجلات والدوريات القديمة، قابعة في انتظار من ينفض عنها الغبار، ويستخرجها ويرتبها ويصنفها، ثم يعيد نشرها في كتاب أو أكثر لتكون بين أيدي الباحثين والمتخصصين، وعموم القراء. وهذا بالضبط ما قامت به الهيئة المصرية العامة للكتاب بإخراجها هذا المجلد القيم الذي يضم مقالات الكاتبة والناقدة والأكاديمية المرموقة، الرائدة الراحلة سهير القلماوي (1911-1997)، تلميذة طه حسين التي افتتحت حقل دراسات "ألف ليلة وليلة" في الثقافة العربية برسالتها التأسيسية عنها والتي ناقشتها في جامعة القاهرة عام 1941. قدَّم للكتاب الدكتور جابر عصفور الناقد والأكاديمي البارز، وأحد أنبغ من تتلمذوا على يد سهير القلماوي بشكل مباشر. -2- كانت سهير القلماوي بطبيعة تكوينها وثقافتها تجمع بين القديم والجديد، تعلمت الجديد في المدارس الأجنبية التي درست بها قبل أن تلتحق بقسم اللغة العربية بكلية الآداب، وأتقنتِ العديد من اللغات الأوروبية، وكانت تتأهب لدراسة الطب، ولكن كلية الطب لم تقبل أوراقها لأنها فتاة، فقد كانت الجامعة المصرية تتردد في قبول الطالبات حتى عام التحاق سهير القلماوي بها. وذهب والدها الطبيب الشهير إلى طه حسين ليعينه على حل مشكلة ابنته، ولكن طه حسين صرف نظر الطالبة عن كلية الطب، وأقنعها بالالتحاق بكلية الآداب، والدراسة في قسم اللغة العربية الذي كان أشهر أساتذته. ويبدو أن شخصية طه حسين الساحرة جذبت الفتاة سهير القلماوي إليه، فتعلقت به، واتخذته أبًا ثانيًا وأستاذًا ومشرفًا ورائدًا ومثلًا أعلى في الحياة، وأجلّها الأستاذ وأعجب بها، ووجد فيها نموذجًا للمرأة الجديدة التي كان المثقفون المصريون يحلمون بها منذ أن كتب قاسم أمين كتابه الشهير "المرأة الجديدة" ونشره سنة 1900. تزوجت سهير القلماوي من المرحوم يحيى الخشاب الأستاذ الرائد في اللغات والآداب الشرقية (اللغة الفارسية وآدابها)، وصاحب الترجمة المهمة لرحلة ناصر خسرو الشهيرة "سفرنامة"، وصاحب الكتب والدراسات المرجعية في الأدب الفارسي.. -3- أما هذا الكتاب (الذي يقع في 776 صفحة من القطع الكبير) فهو حصيلة للجهد الكبير الذي بذلته الراحلة سهير القلماوي طوال ما يزيد عن نصف قرن، اضطلعت فيها صاحبة "أدب الخوارج" بتدريس الأدب الحديث، ومناهج النقد المعاصر في قسم اللغة العربية بجامعة القاهرة، وكانت طوال هذه الرحلة عماد الحداثة والتحديث بهذا القسم، ولقد حققت بالفعل ما أراده طه حسين لهذا القسم "التنويري"، فأصبح جسرًا حقيقيًّا بين الثقافة العربية والثقافة العالمية، وخلال السنوات التي درَّسَت فيها القلماوي، وترأست هذا القسم العريق، يمكن القول إنها أسست بالفعل مدرسة لاكتشاف ورعاية أجيال جديدة من الباحثين، الذين مضوا يدعمون -داخل الجامعة وخارجها- قضيتها، وقضيةَ أستاذها طه حسين، وهي "عالمية الأدب العربي، وانفتاحه على الثقافات العالمية". وتخرج في مدرسة سهير القلماوي مجموعة من أنبغ تلاميذها في كافة التخصصات، حملوا شعلة النهضة والتحديث في الجامعة والثقافة العربية، منذ منتصف الأربعينيات من القرن الماضي وحتى وفاتها عام 1997 (من تلاميذها المباشرين، عبدالمحسن طه بدر، "مؤرخ الرواية العربية الحديثة"، وعبدالمنعم تليمة صاحب أول رسالة أكاديمية في "نقد النقد والنقد المقارن"، وجابر عصفور الذي فتح باب الدراسات النقدية بدراسته التأسيسية "الصورة الفنية"، وسيد البحراوي في "إيقاع الشعر وموسيقاه"، ونصر أبو زيد في "دراسة المجاز في القرآن عند المعتزلة"، ونبيلة إبراهيم في "السيرة الشعبية والأدب الشعبي".. وغيرهم في مصر، وخارج مصر الكثير). ورغم عديد الأنشطة التي انخرطت فيها القلماوي أكاديميا، وفي المجال العام، فإنها كانت غزيرة الكتابة، ولم ينقطع إنتاجها الأدبي في أثناء ذلك كله، تأليفًا وترجمة، إشرافًا ومراجعة وتقديمًا، إبداعًا ونقدًا، وفي موازاة ذلك كله لم تتوقف سهير القلماوي عن كتابة المقالات الأدبية والنقدية والثقافية العامة في الصحف والمجلات المختلفة، وتركت ثروة أدبية وفنية ونقدية معتبرة، تعد كنزا بكل المقاييس كما سيكتشف قارئ مقالاتها في هذا الكتاب. -4- دون مبالغة، فإن المطالع لـ"مقالات سهير القلماوي في الأدب والثقافة" سيجد نفسه إزاء موسوعة أدبية ونقدية وثقافية شاملة ومكثفة وتغطي مساحة هائلة من التنوع والتعدد في الموضوعات والقضايا التي عالجتها، وهي في النهاية صدى مباشر لتكوين وثقافة سهير القلماوي الموسوعية المنضبطة الرصينة، التي تجمع بين القديم والحديث، بين التمكن من فنون التراث العربي، والانفتاح على أحدث التيارات العالمية في الأدب والنقد. سيفاجأ قارئ الكتاب بهذا التنوع المدهش، وهذا العمق الرصين في التناول فضلًا على السلاسة الأسلوبية التي عرفت بها سهير القلماوي، وجملتها البسيطة المعبرة التي تصل إلى المعنى بأقصر الطرق وأسلسه. من الأدب القديم، والشعر والجاهلي، والموضوعات والقضايا المتصلة به، إلى الأدب الشعبي بثرائه وغزارة مادته، والثقافة الشعبية بتمثيلها الدقيق لروح المجتمعات والشعوب، إلى الآداب العالمية والتراث الإنساني، وصولًا إلى تيارات حديثة في الرواية الأوروبية.. كل هذه المحاور غطتها سهير القلماوي بمقالاتها الممتازة التي ستجد فيها روح المنهج والانضباط الأكاديمي، وتوثيق المعلومة ودقة التحليل، ولعل هذا ما يجمع بين ما كتبته مثلًا عن المنفلوطي في ذكراه، وعن أستاذها طه حسين في بعض كتبه، وبين ما كتبته عن روائية جزائرية حداثية المنحى والاتجاه مثل آسيا جبار، وبين مقالاتها عن الروايات الأولى (زينب) لـهيكل وروايات محفوظ الواقعية. الأمر ذاته في تناولاتها لبعض القضايا النقدية، والتيارات الحداثية مثل النقد الجديد، وما يناظرها من قضايا في الأدب القديم، المسرح عند أرسطو، أو الدراما اليونانية، ولن تغفل سهير القلماوي في مقالاتها معالجة الأنواع الأدبية الحديثة مثل الرواية والقصة القصيرة، بل إنها ستلتفت إلى "المقال" باعتباره نوعًا أدبيًا جديرًا بالدراسة والتحليل. إن هذه المقالات على كثافتها وغزارتها وتعددها وتنوعها لا تمثل إلا عينة من تراث سهير القلماوي العامر، لم تقصر ولم تتوان في الكتابة عن كل ما كان يمثل لها اهتماما جديرا بإلقاء الضوء ونشر الوعي به، كتبت عشرات المقالات المدهشة في النقد الأدبي بشقيه النظري والتطبيقي، قديمًا وحديثًا، وخصت الشعر من بين الفنون الأدبية باهتمامها، وكتبت عن نظرية لاؤوكون الشهيرة في اللغة، كما كتبت في التراث الأدبي العربي والعالمي والمأثورات الشعبية، وكتبت في الأنواع الأدبية الحديثة، وفي قضايا المرأة (التي خصص لها محرر الكتاب قسمًا خاصًا أطلق عليه نسويات). وكانت سهير القلماوي تنشر مقالاتها طيلة ما يقرب من نصف قرن في أشهر المجلات والدوريات المصرية والعربية، (الرسالة)، و(الثقافة)، و(الكاتب المصري)، و(الكتاب)، و(أبوللو) و(الهلال)، وكتبت في (العربي) الكويتية، و(الآداب) البيروتية.. وغيرها من الدوريات العريقة والمجلات الزاهرة. -5- إن هذا المجلد الضخم (الذي سيلتهمه قارئه التهاما بكل يسر وشغف) مثال ساطع على أستاذية حقيقية، متعددة الوجوه والجوانب، متنوعة الاتجاهات والإسهامات، وبما يجعل من صاحبتها علامة ساطعة في تاريخ الثقافة العربية التي تدين لها بالكثير. كانت أستاذة جليلة وكبيرة، تركت تلاميذ وكتبًا ودراسات تشهد بأنها كانت رائدة حقيقية من رائدات ورواد التنوير في مصر والعالم العربي.. رحم الله الأستاذة الجليلة سهير القلماوي..