يوسف البلوشي
يوسف البلوشي
أعمدة

فلسفة جديدة للإدارة الاقتصادية والاستثمارية

12 مايو 2020
12 مايو 2020

يوسف بن حمد البلوشي

[email protected]

يعتبر الاستثمار، بشقيه المحلي والأجنبي، المتغير الاقتصادي الأهم في المرحلة القادمة فهو يمثل صلب العملية التنموية ويؤدي إلى زيادة الطاقة الإنتاجية للمجتمع وفق قياسها بالناتج المحلي الإجمالي (محصلة الاستثمار والاستهلاك)، ويضيف إلى تكوين رأس المال، فيوسع القاعدة الإنتاجية بما يزيد العرض من السلع والخدمات، وحيث إن مضاعف الاستثمار أعلى بكثير عن مضاعف الاستهلاك وجب التركيز على الاستثمار وتوجيه الدفة إليه لتحقيق مستهدفات رؤية عمان 2040 في الوصول بالسلطنة إلى مصاف الدول المتقدمة والمحافظة على المستوى المعيشي وتحقيق معدلات نمو مرتفعة وإدارة حصيفة لدورة الأنشطة التجارية والاقتصادية مبنية على الاستثمار والإنتاج والتصنيع والأيدي العاملة الوطنية.

ويكاد يتفق الجميع على أن النجاح في تشجيع وجذب الاستثمار يستوجب تهيئة بيئة الأعمال الممكنة لذلك، ما يبرز أهمية دور إدارة ملف الاستثمار في السلطنة من خلال القدرة على صياغة وتخطيط وتنفيذ سياسات عامه (اقتصادية، مالية، استثمارية، تجارية وغيرها) بشكل منسجم ومنسق بهدف تعزيز تنافسية الاقتصاد والقطاعات وإيجاد منتج استثماري عماني واضح المعالم قادر على جذب المستثمرين وبث الثقة والإجابة عن تساؤلاتهم، مما يتطلب رفع فاعلية السياسات العامة وشمولية نفاذها من خلال أطر الحوكمة ومأسسة عملية صنع القرار في جميع المسائل المتعلقة بالاستثمار والإنتاج والتجارة وتطوير المشروعات وجذب الاستثمار الأجنبي إلى السلطنة وخاصة في ظل المنافسة الإقليمية والعالمية في جذب الاستثمارات ، على أن تكون تلك السياسات قادرة على معالجة البيروقراطية وعدم مرونة قوانين العمل وارتفاع تكلفة خدمة البنية التحتية وتعقد النظام الضريبي، كشروط حاسمة في دورة تشجيع وجذب الاستثمار.

ومن المهم أن تستفيد السلطنة من التجارب العالمية في هذا الشأن بتوفير مظلة واحدة تجمع كل الهيئات المتخصصة في القرار الاستثماري لتحقيق أعلى درجات التنسيق والانسجام ووحدة الهدف فيما بينها لتعميق الاستثمار المحلي واتخاذ القرارات في الأنشطة الخمسة المرتبطة بالاستثمار وهي: أولًا وضع استراتيجية جذب الاستثمارات في القطاعات المستهدفة التي تمتلك السلطنة فيها ميزة نسبية تتعلق بمجالات الاستثمار والتجارة وتنمية الشركات على أن تنفذ هذه الاستراتيجية بالتكامل مع باقي الاستراتيجيات الوطنية ، وثانيًا القيام بالأنشطة والأدوات الترويجية لجذب المستثمر المحلي والأجنبي، ثم ثالثًا التسهيل على المستثمرين في الحصول على التصاريح المطلوبة ، ورابعًا مراقبة بيئة الأعمال وإدخال التعديلات لرفع تنافسيتها إقليميا وعالميا، وأخيرا تزويد المستثمرين بالمعلومات التي يحتاجونها لتوسعة أنشطتهم وإعادة الاستثمار ودعوة الشركات الدولية الأخرى. مع ضرورة أن يترافق ذلك بدعم متواصل للشركات المتوسطة والصغيرة وتسهيل حصولها على التمويل بتكلفة مناسبة وكذلك حصولها على دعم فني لضمان نجاحها، يوازيه الاهتمام بالشركات الكبيرة القادرة على القيام بصناعات وتعزيز فرص تصدير المنتجات المحلية من السلع والخدمات.

إن القدرة على تحفيز وتشجيع الاستثمارات المحلية واجتذاب أكبر قدر ممكن من الاستثمارات الأجنبية المباشرة ليس ضرورة مالية لسد الفجوة الحاصلة في إيرادات السلطنة نتيجة لجائحة كورونا وتراجع أسعار النفط ، بل هي كذلك ضرورة تنموية لربط الموارد والمقومات ومواجهة النقص في التكنولوجيا والمعرفة والوصول إلى الأسواق التي تمثل جميعها عناصر ضرورية لتعظيم الاستفادة من الجاهزية وتركيز كل الجهود لعمل اختراق للوضع الراهن والدفع نحو مزيد من التنويع الاقتصادي وتوفير فرص العمل للشباب وتعزيز القدرة التصديرية للسلطنة.

ولأن العالم في تغير مستمر ومشكلاته وفي مقدمتها الاقتصادية (كورونا وتدهور أسعار النفط) في تغير مستمر أيضا، فإن التغيير الناجح في ملف إدارة الاستثمار الذي سيحقق نتائج إيجابية على مختلف القطاعات لن يحدث - كغيره من الظواهر- من تلقاء نفسه، بل يتطلب قيادة اقتصادية وتخطيطا متكاملا وأساليب ذكية لإنضاج القناعات بين كافة الفاعلين بضرورته، وتضافرهم على مستوى الاقتصاد والمجتمع ومؤسسات الأعمال، كما يستدعي تطوير مقاربات مختلفة للقضايا الاقتصادية والاستثمارية، فالمعالجات الحالية رغم أنها ساهمت في نهضة الاقتصاد في حقب مختلفة إلا أنها مع التطور العالمي السريع والتحديات المحلية الجسيمة ستقف عاجزة، فإذا كنّا نمارس الأعمال نفسها ونؤمن بالقناعات نفسها ونطبق السياسات نفسها سوف نحصل بالتأكيد على النتائج نفسها التي قد لا تؤهلنا للمرحلة القادمة القائمة على المهارات الجديدة والقناعات المتغيرة، والتحول الذي تؤديه منظومة الكل لا الجزء.

لقد قطعت السلطنة شوطا جيدا في تهيئة بيئة الأعمال وتم إصدار العديد من القوانين المساعدة على تشجيع وجذب الاستثمار الأجنبي للدخول في شراكات مع العديد من القطاعات، إلا أن هذا الجهد هو جزء من وصفة النجاح التي لا تكتمل إلا بعناصر أخرى تتعلق بإحداث تغييرات كبيرة في حوكمة وإدارة ملف الاستثمار والآليات المتبعة لتشجيع وجذب الاستثمار، ولا يخفى أن نجاحنا في إدارة ملف الاستثمار مرتبط بشكل مباشر بنجاحنا في إدارة الملف الاقتصادي بمعناه الواسع الذي يستوجب وجود وحدة لإدارة السياسات العامة تملك الإلزامية المطلوبة، حيث إن حجر الزاوية في المرحلة المقبلة هو صياغة وتنفيذ سياسات عامة مناسبة في الوقت المناسب، كما أننا نحتاج إلى إدارة مرنة للسياسات العامة نابعة من فهم السياق الأوسع لهذه السياسات، ما يتطلب ضرورة الغوص في التداخلات والتشابكات بين المتغيرات الكلية لاستيعاب وفهم هذه الروابط والتشابكات (التقاطعات) التي تحكم العلاقة بين المتغيرات (من يؤثر ومن يتأثر) قبل الشروع في صنع السياسات العامة ووضع حلول للاختلالات الواضحة التي يرزح تحت وطأتها الاقتصاد العماني التي تمس جميع عوامل الإنتاج، وتقف عثرة في طريق قاطرة التحول المنشود. يتحفز العالم إلى الانطلاق بعد جائحة كورونا في عالم الاستثمار مجددا لاقتناص الفرص المتوفرة على مستوى العالم ولكن لن تفوز بها إلا تلك الدول التي جهزت منتجاتها وفرصها الاستثمارية في قوالب جاهزة تشد انتباه المستثمرين وتحمل إيجابات لكل هواجسهم، فأين نحن من تلك الدول؟

من الإنصاف أن نقر بأن التحديات التي تواجه السلطنة ليست فريدة فقد واجهت السلطنة في بداية نهضتها الحديثة في بداية السبعينيات تحديات جسيمة وتغلبت عليها بعزيمة وإصرار أصحاب العزائم، ولكي نسطر عنوانا آخر لهذه العزيمة في هذا الوقت لا بد أن ننجح نحن أبناءَ عمان في إدارة ملف الاقتصاد والاستثمار الذي يمثل السلاح الأول في معركة التحول الاقتصادي ومواجهة رياح التغيير الشديدة في المرحلة القادمة واثقين بالمستقبل وما يحمله من فرص، وشغوفين بتوليد المعرفة والابتكار بما يحقق مستقبلا أفضل بفلسفة جديدة للإدارة الاقتصادية والاستثمارية.