٢٢٢٢٢
٢٢٢٢٢
المنوعات

مرفأ قراءة... كيف صوّر نجيب محفوظ وباء هذا الزمان؟!

09 مايو 2020
09 مايو 2020

إيهاب الملاح

-1-

"ماذا يحدث بحارتنا؟

ليس اليوم كالأمس، ولا كان الأمس كأول أمس. أمر خطير طرأ. من السماء هبط أم من جحيم الأرض انفجر؟ وهل تجري هذه الشؤون بمحض المصادفة؟ ومع ذلك فالشمس ما زالت تشرق، وتقوم برحلتها اليومية، والليل يتبع النهار، والناس يذهبون ويجيئون والحناجر تشدو بالأناشيد الغامضة..."

(الحكاية الأولى من ملحمة الحرافيش)

-2-

رغم رحيله منذ أربع عشرة سنة، ما زال الكبير نجيب محفوظ يثير فينا كل كوامن الدهشة والعجب والإعجاب ببصيرته الإبداعية النافذة وقدرته المذهلة على استشراف الواقع والمستقبل والتطلع دائمًا إلى ما لا يحد من النزوع البشري للخلود.. لم تكن وسيلته سوى الخيال؛ الخيال طاقة جبارة أقوى من كل ما اكتشفه الإنسان للسيطرة والهيمنة والنزوع إلى التدمير والقتل وإطلاق قوى الشر من مكامنها!

تتعدد الكتابات والاستقصاءات حول التمثيلات الإبداعية لتيمة الوباء، والطاعون، والأمراض الجائحة في التراث العالمي والأدب العربي؛ يتوقف الكثيرون أمام عناوين الروايات والبعض قد يجاوزها إلى الاستشهاد بفقرة أو فقرتين ترد فيهما كلمات "الوباء" و"الطاعون" و"الموت الأسود".. إلخ

لكنني، وأنا أراجع أعمال نجيب محفوظ المدهشة، وأعاود النظر فيما اكتشفته منها "روايات وقصص وحواريات" بدا لي أن ثيمة "الوباء" من الثيمات الأساسية التي ألحت على محفوظ كثيرا، وكانت عنصرا تكوينيا "جوهريا" في عددٍ من أهم أعماله الروائية والقصصية؛

كنت أتصور، وأنا أراجع رائعة نجيب محفوظ ودرته المدهشة "ملحمة الحرافيش"، أنها العمل المركزي الذي تناول فيه "الوباء" إبداعيًّا، وقدّم له واحدة من أنفذ وأبرع التمثيلات الجمالية في الأدب، ليس الأدب العربي فقط، بل في الأدب العالمي أيضًا.

عندما وسَّعت دائرة البحث، وأعدتُ قراءة نصوصه كلها بما فيها قصصه القصيرة، ونصوصه المكثفة المختزلة الأخيرة التي كتبها قبل وفاته بأعوام قليلة (أحلام فترة النقاهة؛ بجزئيها) ذهلت وشدهت!

هذا الرجل أوتي بصيرة ليس لها مثيل، وأوتي فنا عبقريا وصل إلى الذروة في الجمال والتناغم والصدق والاستشراف! يتأمل محفوظ فكرة "الوباء" فلسفيًّا ووجوديًّا؛ يتأملها من زاوية صيرورة الحياة والموت؛ فإذا كان "الوباء" يحمل في طياته الموت والفناء، فإنه بالضرورة علامة انقطاع وبدء في الوقت ذاته! يصف محفوظ الفترة التي يشهد فيها العالم وباء كاسحا بقوله "فترة كالوباء، وتتجدد بعدها الحياة"! أو وهو يقول "الحزن كالوباء يوجب العزلة"! العزلة هنا بمثابة المعبر أو البرزخ بين الموت والحياة؛ العبور الذي تعقبه بداية جديدة كي تتجدد الحياة وتتواصل الصيرورة.

لكن تبقى "الحرافيش" بفرادتها وانفرادها وخصوصيتها (يكاد يجمع نقاد الأدب العربي ومؤرخوه أنها أعظم ما كتب بالعربية في المائتي سنة الأخيرة) سردية مدهشة تعالج صيرورة الموت والحياة، والبحث عن العدل وحلم البشرية في تحقيق اليوتوبيا الأرضية؛ وسيكون الوباء أو "الشوطة" ثيمة أساسية في دفع أحداث الملحمة طوال حكاياتها العشر الأسطورية..

-3-

عاشور "الناجي"

رغم أن محفوظ قد ألح على الإشارة تاريخيا إلى أكثر من وباء قاتل ضرب مصر وربوعها خلال الفترة من منتصف القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين (في "بين القصرين"، و"حديث الصباح والمساء")؛ فإن "ملحمة الحرافيش" ستظل هي عمله التأسيسي والمركزي الذي حضر فيه "الوباء" أو "الشوطة" كفاعل مؤثر في مسار الأحداث ومغير أساسي في مصير أبطال الرواية.

تتكون "الحرافيش" من عشر حكايات مسلسلة، تتناول سيرة أبطال أسطوريين؛ فتوات أخيار وأشرار، رأس هذه الأسرة ومؤسسها هو عاشور أو عبد الله الذي سيلقب بـ "الناجي".. فلماذا لقب بهذا اللقب؟ وما دلالته؟

سيسرد محفوظ أحداث الشوطة العظيمة؛ وآثار هذا الوباء القاتل على الحارة وتداعياته الكبرى؛ في الوحدات السردية المرقمة من (30) إلى (40)، احتلت الصفحات من 53 وحتى 66 (طبعة مكتبة مصر). محفوظ لم يكن يقصد الوباء في ذاته تأريخا أو تسجيلا، إنما كان يعنيه دلالته الرمزية في المقام الأول، من حيث إنه حالة انقطاع في سيرورة الحياة؛ نهاية لمرحلة، وبداية لمرحلة جديدة في إشارة أو تناص مع حدث "الطوفان العظيم" المذكور في الكتب السماوية المقدسة؛ طوفان نوح الذي أغرق الأرض ومن عليها ولم ينج منه إلا من كتب الله له السلامة على سفينة نوح الذي أخذ من كل زوجين اثنين؛ في دلالة على انقضاء الحياة على سطح الأرض، وبعثها من جديد.

-4-

أثناء الوباء الذي سيضرب الحارة (المعادل الموضوعي للكون والحياة على الكرة الأرضية)، رفضت زينب زوجة عاشور الأولى اقتراحه بالهجرة من الحارة إلى الخلاء، وهو الموقف نفسه الذي سيتخذه أبناؤها أيضًا، سيأبى حسب الله وإخوته (هبة الله ورزق الله) أن يهاجروا إلى الخلاء بصحبة أبيهم، والمنطق الذي يواجه به الابن الأكبر والده: "أرزاقنا هنا، ولا مجال لنا سواه"، ويضيف في تصميم: "عفوًا يا أبي، نحن باقون ولتكن مشيئة الله".

وكانت المشيئة الإلهية أن يهلك الجميع، ومنهم آل عاشور الناجي من زوجه الأولى "زينب"! لن ينجو من الهلاك سوى عاشور "الناجي"، وابنه الوليد "شمس الدين عاشور عبد الله الناجي" من زوجه الثانية فلَّة، إنه الوحيد الذي سيعيش بعد هلاك إخوته غير الأشقاء في الوباء الذي اجتاح الحارة.. لقد هلك الجميع ونجا عاشور ولذا سمي بـ "الناجي"!

أما من أطلق عليه هذا اللقب فهم الناس من سكان الحارة الذين وفدوا إليها واستقروا بها بعد الوباء؛ هم من سيطلقون عليه لقب "الناجي"؛ بعد أن خرج سليمًا معافى من "الشوطة"؛ يستخدم نجيب محفوظ مصطلح "الشوطة" للتعبير عن حصد الوباء لأرواح الناس مستعيرا إياه من القاموس الشعبي؛ كان الناس يطلقون على الوباء القاتل الشوطة لأنه "يشوط" أرواح الناس فلا يبقى منها على شيء!

-5-

العزل والحجر الصحي.. استشراف مستقبلي!

من المدهش، وفي ثنايا الوحدات السردية من الحكاية الأولى من "الحرافيش" التي يخصصها نجيب محفوظ للوباء الذي اجتاح الحارة وقضى على من فيها بالهلاك؛ المشاهد التي عرض فيها للإجراءات الحكومية أو الرسمية بشأن مواجهة هذا الوباء؛ إنه يكاد يكون معاصرا لنا لم يغادرنا ولم يفراقنا منذ ما يقرب من 14 سنة! الحجر والعزل والنظافة وتجنب الزحام والامتناع عن المخالطة.. أليست هذه هي التعليمات التي تعممها منظمة الصحة العالمية لكل دول العالم؟!

اقرأ هذا المشهد من الحكاية الأولى من "الحرافيش"، وتأمل:

"ووقف شيخ الحارة عم حميدو أمام دكانه، وضرب الطبلة براحته فهرع الناس إليه من البيوت والحوانيت.

وبوجه مكفهر راح يقول:

ـ إنها الشوطة، تجيء لا يدري أحد من أين، تحصد الأرواح إلا من كتب اللَّه له السلامة..

وسيطر الصمت والخوف فتريث قليلًا، ثم مضى يقول:

ـ اسمعوا كلمة الحكومة..

أنصت الجميع باهتمام، ترى أفي وسع الحكومة دفع البلاء؟!

ـ تجنبوا الزحام!

فترامقوا في ذهول. حياتهم تجري في الحارة. والحرافيش يتلاصقون بالليل تحت القبو وفي الخرابات، فكيف يتجنبون الزحام؟ ولكنه قال موضحًا:

ـ تجنبوا القهوة والبوظة والغرز!

الفرار من الموت إلى الموت! لشد ما تتجهمنا الحياة!

ـ والنظافة.. النظافة..

تطلعت إليه في سخرية أعين الحرافيش من وجوه متوارية وراء أقنعة من الأتربة المتلبدة.

ـ اغلوا مياه الآبار والقِرَب قبل استعمالها.. اشربوا عصير الليمون والبصل..

ولشدَّ ما يذهلنا الإبداع الأصيل، ويدهشنا باستبصاراته النافذة، واستشرافاته المصيبة، وتنبؤاته الدقيقة!