1476465
1476465
المنوعات

قراءة أدبية في مسرحية (شرفة الشواهد المنسية) للكاتب هلال البادي

09 مايو 2020
09 مايو 2020

  • النص الفائز بجائرة الشارقة للتأليف المسرحي

د. عزة القصابية: توجت مسيرة الكاتب هلال البادي بفوزه بجائزة الشارقة للتأليف المسرحي لعام 2020م. وذلك عن نصه المسرحي (شرفة الشواهد المنسية). وللكاتب البادي إصدارات سابقة، مثل: (مجرد خيال عابر، لا يجب أن تبدو كرواية). كما أصدر عددا من النصوص المسرحية، مثل: (جثة وباب وزلزال)، و (دوران في منطقة الصفر) و (بروفة لاثنين) ... وغيرها من الأعمال المسرحية والقصصية. وفي الأسطر التالية نقدم قراءة نقدية لمسرحية (شرفة الشواهد المنسية)، التي التمست من مكان حدوث الفعل عنوانا لها. حيث ظهرت "الشرفة" كمكان تجتمع فيه شخصيات المسرحية. وظهرت الشواهد أو القبور لتحكي لنا قصة جندي أغفله الزمن، وبقيت أطلال جسده المجهد تندب حظها. حكاية محارب... منسية تظهر في هذه المسرحية مدى مقدرة الكاتب المسرحي على اختيار المواقف الدرامية التي تبرز الحدث المسرحي كعنصر فاعل لدفع الفعل المرتبط بحياة الشخصيات التي تنصبُّ في صُلب بناء الحبكة، "لتنساب جميعا لبناء نسيج الفعل الدرامي الذي ينتشل من ركام الأحداث الكثيرة المتناثرة حوله لإبداع دراما مؤثرة إنسانيا واجتماعيا". كما تبرز مقدرة المؤلف البادي في مراقبته ورصده لحياة المحارب وزوجته، وصياغتها وجعلها تتفاعل مع الأحداث وتلامس وقائع الحياة. يقول تيودور هتلن: "إن الحدث المسرحي في أبسط صوره يعني حركة الممثلين أثناء أدائهم للمسرحية، وهو الحركة الداخلية التي تجسم صراعا عنيفا أمام مجموعة من النظارة". تتحدث مسرحية (شرفة الشواهد المنسية) عن قصة رجل محارب شجاع مخلص لوطنه، أصر على التضحية بحياته الاجتماعية من أجل الدفاع عن وطنه، تاركا أسرته تكابد ظروف الحياة الصعبة في غيابه. وخاض الجندي رداد معارك حربية كبدت العدو خسائر كبيرة، ولكنه في نهاية المطاف تعرض لعاهات مزمنة عندما بترت ساقه وفقعت عينه. إضافة إلى ذلك، إنه فقد ثلاثة من أبنائه الذين قتلوا جميعا في ساحة الحرب، وبقي له ولد واحد. وبعد سنوات عديدة عاد الجندي مريضا لا يمتلك المال الكافي للإنفاق على زوجته، وابنه الوحيد، ليشكل بذلك عبئا ثقيلا على الزوجة، التي وقع على كاهلها رعاية شؤون الأسرة، في حين كان هو مقعد الفراش ... معاقا لا يقوى على الحركة: " الرجل: وهل تظنين أنهم سيتركون رداد؟ رداد الذي صال وجال؟ الذي كانت له مواقفه المشهودة؟ الذي أسر أكثر من مائة من جنود العدو؟ وقتل أكثر منهم؟ الذي ضحى بنفسه من أجل أن ينقذ زملاءه في ساحة القتال؟ إنهم لن يتركونا. لا تنسي أن راتبي ليس قليلا، ثم هناك مكافأة ما بعد الخدمة، فلا داعي للقلق". ولم يحصل الجندي على مكافأة نهاية الخدمة من الجهة العسكرية التي ينتمي إليها، وعوضا عن ذلك منحه القائد نيشانا حديديا، لا قيمة له مقارنة بعمله في ميدان الحرب لسنوات طويلة. وبحث القائد عن أعذار عندما طالب الجندي رداد بحقوقه قائلا: "القائد: الوضع لا يسمح في الوقت الراهن، فنحن في أوج الحرب، ولا مجال لهذا الترف". الزمكانية...في أحداث الحرب رغم الانتقال الزمني للأحداث بين الماضي والحاضر، إلا أن الأحداث ارتبطت بواقعية الزمان والمكان. يرى ميخائيل باختين أن العلاقة الزمكانية حتمية في النقد الأدبي، بحيث يصعب الفصل بين زمان ومكان وقوع الفعل، ويعد الزمن البُعد الرابع للمكان. ويكمن أشكال هذه المفردة المركبة في صورها المختلفة دون محاولة تفضيل أحدهما على الآخر. وتتضح "زمكانية" الحدث المسرحي في مسرحية (شرفة الشواهد المنسية) كونها تشكل المحيط الذي تتحرك فيه الشخصيات، والذي يتحول إلى وسيلة طيعة عند اتصال الماضي بالحاضر. وقرن الكاتب المشاهد المسرحية بمكان وقوع الفعل المسرحي عندما عنْوَن مشاهده بظرفية المكان: (السرير: لغم، الشرفة: أضواء غادرة، الصالة: رداد، الصالة : وجبة سمك مشوي، الشرفة: الغاضبون الحزانى، السرير: الرجال المهمون، الصالة: وهم، الشرفة: الدكانة، الشرفة: صفارة) وهذا يؤكد أهمية المكان في حياة الشخصيات، وهو شاهد أعيان على الأحداث التي وقعت في زمن الحرب، وجعل المتلقي يستشعر أجواء الحرب التي عاصرها الجندي وأسرته، بعد وقوع الحريق في منزل الأسرة في زمن الحرب، مما انعكس سلبا على نفسية قاطنيه. الزوج والزوجة.... وبوح الذات المعذبة برز الزوجان في هذه المسرحية كشخصيتين رئيسيتين، تقودان الأحداث، وتحركان الفعل المسرحي بأسلوب حواري مثقل بالكثير من الآهات والوجع الإنساني أيام الحرب. وتكشفت أبعاد الشخصيتين المحوريتين الجسدية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية في النص المسرحي. وسنقدم في الأسطر التالية تحليلا لأبعادهما: شخصية (الزوجة/ سلوى) : شاطرت الزوجة الرجل المحارب رحلة الحياة منذ أن تزوجها وهي شابة حسناء، تغار النساء منها. وأصر الرجل المحارب/ رداد على الاقتران بها، حتى قبلت به زوجا، و يكون بذلك قد انتصر لرجولته وتزوجها. وكانت الزوجة فخورة باقترانها بالجندي البطل، ولكن كان عليها أن تتحمل غيابه الطويل وترعى الأسرة، وهذا ما جعلها تتألم وتكابد الحياة الصعبة، حتى رجوع زوجها كسيحا: "الفتى: لا أجد للأمر تفسيرا! منذ أن انتقلت مع والديّ وأنا أراقبهما. هي امرأة جميلة، ومع ذلك تزوجت هذا الرجل المقعد. وهو رجل ميؤوس من حالته، ومع ذلك يبدو قويا. معادلة ما زلت لا أعرف فك طلاسمها". وتبوح الزوجة بمعاناتها بعد أن أصبح الجندي/ المحارب قعيد الفراش: "الزوجة: صراخك يضايقني، صوتك الفج كرعد بلا أمطار، سنواتي معك لم تمطر إلا الحزن والقرف! لماذا أخلص لك؟ لماذا لا أتركك؟ كالكلاب؟ لماذا لم أفعلها كما الأخريات؟". كابد كلٌ من (الزوجة والابن) الفقر والوحدة وانعدام الأمن، لكونهما يعيشان في ظروف الحرب والحصار، وهذا تسبب في شح مصادر الرزق لديهما. وبعد تقاعد المحارب وعودته للأسرة وهو مصاب ولا يمتلك المال، ولا يقوى على العمل بسبب حالته الصحية. لنستمع لبوحه ومعاناته بعد أن أصبح جسده مثخنا بالجروح والمرض: "الجندي: رداد الذي يقسم من هم أرفع رتبة منه باسمه، وبأنه لم يولد جندي مثل رداد! وها أنا ذا، عاجز وكسيح، لا أملك إلا أن أنادي على سلوى.. أين أنت يا سلوى؟". وندبت الزوجة حظها، لأنها تزوجت من هذا الجندي الذي أصبحت تعيله، وتخدمه، بدل أن يعيلها: "وماذا كسبت سوى رجل مقعد بعد حين من الزمن؟ عين واحدة تعمل والأخرى لا! ساق واحدة والأخرى لا! وفوق هذا لا ينالني منه سوى هذا الصراخ الذي لا ينتهي". ولم تقتصر معاناة الزوجة على خدمة زوجها الذي أصبح عالة عليها، ولكن وضع الأسرة الاقتصادي تردى. و كانت الزوجة سابقا تعمل في حياكة الملابس، لتتمكن من الإنفاق على زوجها وابنها، ولكن بسبب تدهور الوضع الاقتصادي في البلاد فإنها لم تتمكن من الكسب: "الزوجة: لا زبائن يشترون، ولا أحد يمر عابرا هذه الأرض ويفكر أنه يمكن أن يقتني مثل الأثواب التي أحيكها، هدية لزوجته إن كان متزوجا أو أمه أو أخته. لا أحد. من لديه المال كي يشتري؟ ". شخصية الزوج/ الجندي يُعد الزوج/ المحارب الشخصية النضالية، المحبة للوطن، الفدائي الذي ترك أسرته. وكان أمامه خيار بعدم الذهاب إلى ميدان الحرب ولكنه أصر على أن يكون في الخط الأمامي للدفاع عن وطنه، وضحى بزوجته وأبنائه الذين كانوا يعانون من شظف العيش وويلات الزمن. اتضحت أبعاد شخصية (الجندي، الزوج) الجسدية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية في النص المسرحي عبر مرحلتين: مرحلة الشباب: في هذه المرحلة تقدم المحارب لخطبة من يحب. وظهر وهو في ريعان شبابه يتمتع بالقوة والعنفوان، مرتديا الزي الكاكي للعسكرية. مرحلة عودته من الحرب: ظهور الجندي رداد مشلول الحركة، عقب عودته لأرض الوطن من ميدان الحرب. ويظهر وقد بترت ساقه، واقتلعت عينه، وهذا جعل نفسيته سيئة: " الجندي: سلوى، يا سلوى.. سلوى. أف! تبا! إلى متى يمكن أن أعيش هذا الكابوس؟ يا سلوى.. أيتها المرأة! سلوى.. ألا تسمعين ندائي المتكرر؟ أم أنك مشغولة بأشياء أقل أهمية مني؟". وفي مقطع حواري آخر: " القائد: أعرف أن الوضع بالنسبة لك الآن صعب، صعب ولا يمكن تخيل مدى سوء أن تفقد جزءا مهما من جسدك. لقد أعطيت كثيرا للوطن وللجيش! ولن تنسى القيادة ما فعلت من بطولة ". وعانى الجندي/ الزوج أثناء تجنيده، وبعد عودته مريضا مقعد: "الزوجة: كيف بالله عليك ستفعل ذلك؟ ثم ما العمل الذي تعمله وأنت لا تعرف من الدنيا سوى الجيش والمعسكر؟ إنك بالكاد تستطيع التحرك، وفوق ذلك كله تملك عينا واحدة! حتى لو افترضت معك أنك يمكن أن تخرج خارج البيت دون مساعدتي، فلن تكون أكثر من رجل يثير الشفقة أو الخوف في عيون الأطفال". تصف الزوجة الحالة المادية المتدنية للجندي رداد، قائلة: "الزوجة: ولم يفكر لحظة أن كل ما كان يقوله وهم سراب. راتبه التقاعدي؟ نتفه نتفا فما عاد يكفي حتى منتصف الشهر، وأما مكافأة نهاية ما بعد الخدمة فإنها لم تصل بعد، قالوا: عندما تنتهي الحرب، ولا وقت لمناقشة المشغولين بما هو أهم من حقراء مثلنا". ولم تتكفل جهة عمل الجندي بتعويضه عن سنوات الخدمة في الحرب: "القائد: قلت لك: مصلحة الوطن فوق كل شيء آخر. وعموما سيتم تكريمك لاحقا ضمن الذين قدموا واجبات عظيمة من أجل الوطن". وفي النهاية، اكتفى القائد بمنحه نيشان حديدي لا قيمة له، وكان يفترض أن يحصل على التعويض المالي، بدلا ذلك: "الرجل: في الختام خسرت كل شيء، وعدت من أرض المعركة بنيشان حديدي لا قيمة له في السوق. كان يمكن أن أشتري تذكرة سفر لو أنني وجدت مشتريا للنيشان، لكن للأسف خدعونا بنياشين البلاستيك". وظل الجندي يحلم بمكافأة نهاية الخدمة كنوع من التعويض: "الرجل: اهدئي، سينتصرون وتنتهي الحرب، ونعود كما كنا. سيأتون إلينا وسيعطونني مكافأة نهاية الخدمة، وساعتها سنسافر أنت وأنا، ليس للعلاج وحسب، بل لنكافئ أنفسنا على هذا الانتظار الطويل. صدقيني يا سلوى، ما زال أمامنا الكثير كي نفعله". وهذا تسبب في تدهور حالة الجندي النفسية بعد أن اكتشف أنه كان مجرد أداة لتنفيذ مخططات الحرب، وهذا ما يتضح من مونولوج الابن: "الفتى: أبي أيضا غاضب. غاضب لأنه يشعر أن حياته بلا قيمة، ولأنه فقد ثلاثة من أبنائه في حرب لا علاقة له بها. وحزين أيضا للأمر نفسه. حزين أن كل ما بناه لسنين تهاوى في ليلة واحدة، ولا يستطيع فعل شيء، حتى أن يهاجر، ما عاد بمقدوره فعل ذلك". الرؤى الاجتماعية .. في حياة الجندي تفوق الخطاب الاجتماعي على الخطاب السياسي في مسرحية (شرفة الشواهد المنسية) وآثر الكاتب البادي التغلغل في نفوس شخصياته عوضا عن سرد خلفيات وقوع الحرب، ساردا حكاية قصة أسرة الجندي رداد معبرا عن معانته. وغالبا يتوافق هذا مع واقع الشعوب التي تعيش أزمنة الحرب، حيث الفقر وترمل النساء، ويُتم الصغار. واتضح ذلك من خلال المونولوجات التي يسردها الكاتب في كل مشهد، للتعبير عن الشخصيات بأسلوب يتلاءم مع طبيعتها، وساهم ذلك في تطور الموقف الدرامي ونمو الحدث. لقد تمكن المؤلف في هذه المسرحية من سبر وجدان رموزه الوطنية، والنفاد إلى ذواتها المهزومة، والتحدث بلسان الجندي الذي قدم حياته فداء للوطن، في حين أنه لم يجد من يقدره حتى يضمن لنفسه حياة اجتماعية مستقرة بعد عودته. تمكن المؤلف البادي من محاصرة الزوجين، والتنقل الزمني في عوالمهما، موزعا الأحداث حسب أهميتها؛ نجد الحدث في البداية ينطلق من سرير الزوجية حيث الماضي الجميل للزوجين في بداية حياتهما، ويسرد الزوج/ الجندي ذلك قائلا: "كنت أتخيل أن كل شيء يمكن تعويضه، إلا أن أفقدك أنت! هل تذكرين عندما كنت أعود من المعسكر؟ بمجرد أن أمر عليك أنت وزميلاتك جوار منزلكم القديم؛ كانت تشرق الحياة في وجه رداد. كنت أنت الشمس التي تضيء أيامي تلك! أنا لم أخترك لأن أمي أشارت عليّ أن تكوني أنت من أتزوجها، بل لأني كنت أرى فيك شمسا دافئة يمكن لها أن تمدني بالحياة. هل تعلمين هذا الأمر؟!". ولكن الجندي اضطر للسفر إلى ساحة الحرب للدفاع عن وطنه والتضحية بنفسه. وبعد إصابته أصبح كائنا ضعيفا أمام زوجته وتهاوت رجولته أمام ناظريها: "الرجل: هل تعايريني؟ ما زلت رجلا يا امرأة! الزوجة: وهل تظن أن الرجولة ذلك السرير وحسب؟ هل تظن أن الحياة هي ما نحياه نحن هنا؟ الرجل: لأنني بت مشلولا لا أقدر على الحركة؟ ألأنني بعين واحدة؟ ألأنني فقدت كل شيء ما عدت رجلا في نظرك؟ لماذا إذن لا تتركينني وترحلين هكذا بكل بساطة؟ ". وتسبب مرض الزوج في شلل الحياة الاجتماعية، وتدهور العلاقة بين الزوجين: "الزوجة: وكيف نعيش ونحن في وضع كهذا؟ أخبرني؟ كيف؟ كيف ينبت الحب في أرض قاحلة محروقة؟ كيف يمكن لنا أن نعيش ونحن ندرك أن نارا ستُلقى علينا بعد حين؟ أخبرني كيف؟ ". وندبت الزوجة حالها، بعد أن ذبل جمالها مع الأيام والسنين: " الزوجة: أشعر أننا هرمنا فجأة، وفي غفلة من الزمن. لم تعد تلك البنت التي يمر عليها رداد فتبتسم له، ولم تعد أنت رداد الذي يعود كل أسبوعين أو ثلاثة من المعسكر حاملا حقيبة عسكرية صغيرة، تنزل من الشاحنة الكاكية، وتأخذ نفسا عميقا، وتمضي تجاه القرية". وتصل الحياة الزوجية إلى مفترق الطرق، بفعل تدني الأوضاع المادية، وصولا إلى مرحلة بلوغ الحدث الذروة، بعد أن باعت الزوجة جسدها للغريب! في حين كان الجندي/ الزوج يدافع عن شرف الوطن! ولكنه في نهاية الأمر أصبح لا يقوى على رعاية زوجته أو الإنفاق عليها. لنستمع للابن وهو يصف أمه: "الفتى: ما الذي تبيعه؟ امرأة مثل أمي لا تجيد لا الحياكة ولا التطريز ولا حتى الطبخ، فما الذي ستبيعه؟ ثم إنها لا تعرف كيف تبيع، ولو حدث أن وقفت كهذه المرأة، كيف سيكون موقفي لو رأيتهم يساومونها على أمور أخرى؟ ...وسيلحق بي أبي، سيبادرهم بمثل ما أبادرهم، ولو كانت لدينا بندقية لكنت أخذتها وأطلقت النار عليهم كي لا يفكروا أن يعودوا مرة أخرى". هكذا تمكن النص من اختراق نسيج الحياة الزوجية، ليصف واقع الأسرة في ظل الحرب، والحال الذي آلت إليه المرأة التي ظلت تضحي وتناضل، حتى فقدت سيطرتها على نفسها، ووقعت في فخ الخيانة، بعد أن أصبح زوجها لا يقوى على تأدية واجباته الزوجية. تحدث الابن/ الفتى بلغة الأخذ بالثأر من الزبائن الذين هتكوا شرف أمه، عندما يساومونها على شرفها مقابل حفنة زهيدة من النقود. تحديات الواقع.. وصراع الذات يُعدُّ الصراع عنصرا مهما في العملية المسرحية، ودافعا ومحركا للأحداث الدرامية والشخصيات، فبدونه يصعب قيام العناصر الأخرى بدورها الفعلي. ويقومُ الفعل الدرامي بتوليد الصراع وبلورة خصائص الشخصية، بما تحويه من سلوكيات وأفعال متناقضة، وتبيان النوازع الداخلية بأشكالها حسب طبيعة الحدث، وهو وسيلة مهمة لصنع الأزمات ودفع الأحداث إلى الأمام . يساهم الصراع مع الفعل الدرامي في بناء الأحداث والحبكة والشخصيات، وتكمن أهمية الأول في دوره الفاعل في المضي بالفعل المسرحي بما يحويه من توترات ودلالات. لقد عاشت شخصيات مسرحية (شرفة الشواهد المنسية) نوعين من الصراع: الصراع الداخلي، والصراع الخارجي. وكانت مساحة الصراع الداخلي، أوسع بكثير من نظيره الصراع الخارجي. وعاش الزوجان صراعا داخليا بسبب ظروف الحرب، وما تخلفه من دمار وتغريب الأفراد عن أوطانهم، يصف الابن/ الفتى ذلك: "الفتى: وما ذنبي أنا إن كانت نيران الحرب وقذائف السماء قد أحرقت منزلنا وقتلت إخوتي؟ ثم إنني لم أعد صغيرا يا أمي، لقد كبرت!" 27. ويستطرد الفتى واصفا تحديات العيش في ظل الحرب، بعد احتراق جزء من منزل الأسرة : " الفتى: كانت ليلة غاضبة، عندما استفقنا على صوت الصافرات؛ كان بيتنا بات كومة محترقة. بيتنا الصغير احترق. كنت أتلفت يمينا ويسارا، يسارا ويمينا أبحث عن أي شيء يجعلني أصدق أن ما أراه ليس سوى كابوس فحسب. لكنني رأيت الجثث الثلاث محترقة بالكامل، فيما كان أبي يولول ويبكي كملدوغ". وعاشت الشخصيات صراعا داخليا نفسيا بسبب ظروف الحرب، وتدني الأوضاع الاقتصادية وتقلص الحياة الاجتماعية، فالزوجة كانت تعيش صراعا داخليا مع ذاتها عندما باعت شرفها من أجل لقمة العيش، وعاشت صراعا آخر مع ذاتها، عندما كان عليها أن تقوم بخدمة زوجها ورعايته بعد أن أصبح يلازم الفراش. كما عانت الزوجة وتحملت شظف الحياة، وكانت تحلم أن يعوضها زوجها عن سنين الحرمان والانتظار، ولكنه عاد وهو يحمل نيشانا من الحديد، لا يغني ولا يسمن من جوع! أما الزوج/ الجندي، فقد عاش نوعين من الصراع: الصراع الخارجي: اتضح هذا الصراع من خلال قتال الجندي في الميدان ضد العدو، وتمكن الجندي رداد من تحقيق الانتصارات عليه في البداية. ولكنه سرعان ما استهدفوه وأصيب بعدد من العاهات الجسدية. الصراع الداخلي: عاش الجندي صراعا ذاتيا بعد عودته وهو مشلول وقعيد، وساءت حالته النفسية، وأصبح يعاني الأمرين: المرض والفقر. واتضح جليا أن حياته ضاعت سدى، وأنه ناضل لسنوات طويلة دون أن يكرم أو يحظى بالرعاية من القائد، وعندما أصبح عاجزا لا يقوى على خوض غمار الحرب، طلب منه العودة دون أدنى تعويض! وبعد عودته إلى المنزل عاش صراعا ذاتيا مع نفسه، وأمسى قعيدا لا يقوى على فعل شيء، يعتمد على زوجته لتوفير احتياجاته المعيشية، واثر ذلك على تدهور العلاقة الزوجية بينهما. قبل أن يسدل الستار على (شرفة الشواهد المنسية) التي تشكل جزءا من الذاكرة الجمعية للشعوب المقهورة في أي زمان ومكان، فكم من الأسر تشتت من جراء الحروب والصراعات، وانتهكت حقوق الإنسان، وعانى الذين يعيشون على خطوط النار من الفقر والتشرد وعدم الاستقرار. هذه دعوة لقراءة مسرحية (شرفة الشواهد المنسية)، التي رصدت حال "الإنسان" دون تخصيص أو تحديد مكان معين لوقوع الحدث. وقدمت تجربة المحارب رداد الذي هزمته الأنظمة السياسية قبل أن تهزمه الحياة، عندما وجد نفسه، مريضا مقعدا. ولم يلتفت أحدٌ لذلك الجندي المناضل الذي دفع حياته ثمنا لوطنه في يوم من الأيام !

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* المراجع: 1-    مسرحية (شرفة الشواهد المنسية)، هلال البادي الذي فاز بجائزة الشارقة للتأليف المسرحي 2020م 2-    القط، عبد القادر، فن المسرحية، مكتبة لبنان، الشركة المصرية العالمية للنشر، بيروت، 1997م، ص10 3-    سرحان، سمير، كتابات في المسرح، دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 1998م، ص57 4-    الرويلي، ميجان والبازغي، سعيد، دليل النقد الأدبي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الخامسة،2007م.