١١٢٢
١١٢٢
أعمدة

صخرة المحال

07 مايو 2020
07 مايو 2020

د. سالم محاد المعشني

مرت الشاعرة نازك الملائكة في رحلتها الخيالية - وهي تبحث عن اليوتوبيا الضائعة - بمحطات كثيرة، كان من ضمن هذه المحطات، شاطئ من حصى ورمال، لونه غريب كلون الأثير، ويحف به أفق من الخيال، وفي نهايته صخرة ملساء راسخة في المحال، تتزحلق من عليها الظلال!

فما دواعي هذا التصوير المتماهي مع الضياع والعدم؟ كل شيء في هذه الصورة يحيل إلى (اللاشيء)؛ شاطئ من الأثير، وأفق من الخيال، وصخرة من المحال. نحن أمام لوحة خيالية نسجتها الأحلام، وهي على كل حال تعكس الحالة النفسية والشعورية شديدة القلق والانفعال. ولو تمعنا في أهم المفردات التي تشكل عصب النص، لتبين لنا كم هي مخيبة للآمال، وكم هي عصية على التحقق!!

تتصدر هذه المفردات لفظة (الأثير) ولا شك أن وظيفتها في الحياة عظيمة؛ فالهواء مصدر الحياة، لكننا لا نعرف له لونا في عالم الواقع، والشاعرة هنا تفجئنا بهذا التركيب الصادم (لون الأثير) وهي تصف الشاطئ الذي كانت تمشي عليه، والمكون من (حصى ورمال) على أنها تبدو متوترة، مستهجنة هذا المنظر الذي أمامها؛ بدليل تكرارها لفظة (غريب) مرتين. ثم تتضاعف الحيرة، ويزداد الموقف غرابة، عندما يكتسي الشاطئ بلون الأثير، و يحف به أفق الخيال. ويراد بهذا التشبيه تعميق حالة الضياع، ثم تأتي الصخرة الراسخة كالمحال، والمحال هو المستحيل فتكون صخرة المستحيل الآن عقبة كؤود لا يمكن تجاوزها. ولو تجاوزتها الشاعرة لربما استطاعت الوصول إلى البلد (المتمنى السحيق) إلى جنة (يوتوبيا) لكن تسلقها أمل مضمحل ما دامت (الظلال) تتزحلق من عليها!!.

والسؤال هنا ما السر الذي حدا بالشاعرة نازك الملائكة إلى تكريس هكذا حالة من الضياع، والدخول إلى هذا العالم الهلامي الذي يستفز مفردات الغيبي، ويربك حتى مرادفات الخيال؟!

قبل أن نجيب على هذا السؤال نترك القارئ الكريم مع لوحة الشاعرة، لوحة (صخرة المحال):

وفي حلمٍ آخرٍ كنتُ أمشي

على شاطئٍ من حصىً ورمالْ

غريبٍ غريبٍ بلونِ الأثيرِ

يحفُّ بهِ أفقٌ كالخيالْ

تناهى بأقدامي المتعباتِ

إلى صخرةٍ رسختْ كالمحالْ

تسلُّقُها أملٌ مضمَحِّلٌ

فقد تتزحلقُ حتى الظِّلالْ

يعيش الإنسان في أجزاء من هذا العالم تحت نير الظلم، وسطوة القوي، وعبثا يحاول تحريك هذه السكونية المطبقة، لعله يفتح نافذة من ضياء في هذا النفق المظلم، وعندما يجد نفسه عاجزا، وقد احتله اليأس من الجهات الأربع، يلجأ إلى التعبير عن حالة الضياع هذه بتوظيف أقوى طاقات الخيال، على اعتبار أن المشهد الذي يقوم بتصويره مشهد (غرائبي) ولا تستطيع الصور الشعرية المأنوسة في مجال التحليل الأدبي - وإن كانت عصية المنال، وبعيدة عن العلمية والتقريرية- لا تستطيع أن تستجلي كل أبعاده، من هنا لابد من تجاوز المنظور إلى المتخيل، ومن ثم السير بالمتلقي إلى ما هو أبعد إدراكا في عالم ما فوق (الخيال) مما يمكن تسميته (خيال الخيال) كالذي نقراؤه في مناهج تحليل الأدب وعلم الدلالة تحت مصطلح (معنى المعنى). وهذا التصوير الذي لجأت إليه الشاعرة لا شك أنه وليد معاناة يصعب تحديد أبعادها ووصف أهوالها في عالم الحقيقة، وعليه يكون ما فوق الخيال هو الأنسب للتعبير عما هو كارثي في عالم الشهادة والحقيقة.

وحتى نقوم بتبسيط هذه القراءة التحليلية سنعود قليلا إلى اللوحة الشعرية السابقة، ومن خلالها سنعثر على مستندات تركيبية/ لغوية مهمة يمكن لنا من خلالها تعضيد الرؤية التحليلية بالدليل على صحة ما ذهبنا إليه من أن الشاعرة تجاوزت (الخيالي) إذ لا غيره الأنسب في التعبير عن (الفجائعي). فالشاعرة بداية كتبت النص من خارج عالم الحقيقة واليقظة، فالمشهد الذي تصوره كانت تلتقطه بعدسة (الأحلام)، ومن خلال الحلم وجدت نفسها أمام إرادة جبرية تفرض عليها توظيف ما يتناسب لغة وتركيبا مع كل ماهو متماهي مع الضياع و(اللاشيء)، أو ما يتجاوز حدود الخيال. وعندما نقول الإرادة الجبرية نعني بها أن الإنسان أثناء النوم لا خيار لديه، إذ لا تصدر أفعاله ورؤاه من لدن عالم حقيقي مؤطر بضوابط العقل. فلننظر إلى أدوات الأحلام (التراكيب اللغوية) التي من تآزرها ونسجها تشكلت الصورة الشعرية في اللوحة السابقة، ولنقف أمام طرفين متجاورين في المشهد، متقابلين في الرؤية والحركة. الأول نبصر فيه (لون الأثير، أفق الخيال، صخرة المحال، تزحلق الظلال)، وفي الثاني نسمع حركة (الأقدام المتعبات، ووقع التسلق المضمحل) مما يشي باستحالة العبور، ناهيك عن اجتراح فعل التغيير، لقد وقفت صخرة المحال حائلا دون تحقيق أي تقدم أو نجاح، وليست صخرة المحال في حقيقة الأمر سوى تلك القيود والسلاسل، وذلك اللجام القوي، وما يضاف إليها من أشكال القمع والاضطهاد، مما يرزح تحت وطأتها الإنسان، خاصة في العالم الثالث، ومنه عالمنا العربي. والشاعرة كتبت هذا النص في خمسينات القرن المنطفئ، وحينها لم تكن الأهوال والشدائد كما هي الآن، فليت شعري لو رأت الشاعرة "الملائكة" أحوالنا اليوم من أي عالم متخيل ستكتب الشعر؟!!