image
image
كورونا

"عُمان" تستقصي حكايات مصابين بفيروس كورونا ورحلتهم مع الشفاء أحدهم صلى صلاة مودع وآخر أكمل نومه ثم عاد يقرأ "نظرية الفستق"

05 مايو 2020
05 مايو 2020

أحدهم نقل العدوى لـ 50 وآخر أدخل 50 للحجر الصحي

استقصى حكاياتهم ـ عاصم الشيدي

لم يكن "ن.ح" يعرف وهو في طريقه للدوام مساء السبت أنه يحمل معه فيروس كرونا المستجد "كوفيد19" وأنه استحكم في خلايا رئته وبات يتكاثر فيها بكثير من الهدوء. كان يقطع المسافة بين السوادي في ولاية بركاء وجهة عمله بكثير من الأمل في غد أفضل. كانت تمر عليه وهو في طريقه للعمل نوبات سعال خفيفة. لم يأبه بها كثيرا، فكثيرا ما يصاب بهذه النوبات بسبب عمله في الشمس. لم يفكر مطلقا بفيروس كورونا، ولم يدر الأمر في خلده أبدا.

قبل ذلك بيوم كان "ن.ح" قد زار عمه في البيت، وهناك التقى بابن عمه. لم تطل هذه الزيارة على ما يذكر "ن.ح" أكثر من نصف ساعة، ونصف ساعة في الزيارات العائلية والالتقاء بأبناء العمومة قصيرة جدا، ولكنها في وقت الجائحة كفيلة بصناعة الفارق.

وصل "ن.ح" إلى دوامه وباشر عمله، وفي مساء الأحد 12 أبريل عادت له نوبات السعال من جديد، ومع منتصف الليل زارته حمى باردة واستمرت في جسده لمدة ساعتين تقريبا. وحتى هذه اللحظة لم يكن ليتوقع أنه مصاب بفيروس كورونا المستجد أبدا. حتى جاء مساء الاثنين 13 أبريل عندما وصله خبر أن ابن عمه "ن" قد أصيب بالفيروس وتم تشخيص ذلك مخبريا. في تلك اللحظة سرت في جسده مثل الكهرباء، وتسببت في

استفاقة وسؤال: ماذا لو كنت مصابا بالعدوى عن طريق ابن عمي؟

كشف التقصي الوبائي أن ابن عمه أصيب بالفيروس من ولاية مطرح حيث كان يباشر بعض عمله هناك.

كان "ن.ح" قد مارس حياته الطبيعية قبل هذا الخبر، وخالط زملاءه، والتقى بهم كلما كان الوقت مناسبا، سواء في مقر العمل أم في السكن، وكان محبوبا بينهم وصاحب ابتسامة جميلة. لم يكن يعرف أن ثمة فيروس في صدره وبدأ في الانتقال للآخرين.

وصباح الثلاثاء 14 أبريل ذهب "ن.ح" للمستشفى وأخبرهم أن الفحوصات المخبرية أثبتت إصابة ابن عمه بفيروس كورونا وسبق له أن جلس معه مساء الجمعة الماضي وأن نوبات سعال تأتيه منذ يومين.

وعلى الفور أجرى له المستشفى الفحص اللازم، وطلبوا منه أن يلزم بيته وألا يخالط أحدا حتى تظهر نتيجة فحصه.

وعاد "ن.ح" لبيته في السوادي والتزم غرفته ولم يخالط أسرته. ومساء الأربعاء وكان الوقت يقترب من وقت صلاة العشاء جاءه اتصال من المستشفى، تلقى عبره تأكيدا أن نتيجة فحصه "إيجابية". في هذه اللحظة سرت قشعريرة حقيقية في جسده، وأيقن أن الأمر صار جديا. حاول المتصل أن يطمئنه، وأن يبعد عنه أي وسواس يمكن أن يضعف عزيمته فتنهار في طريق مقاومته للمرض. ولكنه تذكر في تلك اللحظة، بالذات، جميع من خالطهم خلال الأيام الماضية. وعلى الفور أفصح عن جميع من التقى بهم منذ مخالطته لابن عمه وإلى لحظة وصوله إلى المستشفى. كان العدد كبيرا. فالرجل كان يمارس حياته بشكل طبيعي. وفي اليوم التالي، الخميس، 16 أبريل، أجرى سبعة من أفراد أسرته فحوصات مخبرية جاءت نتيجة 6 منهم إيجابية. كان بينهم زوجته ووالده ووالدته وثلاثة من اخوته وزوجة أخيه، أما أطفاله الصغار فظهرت عليهم الأعراض ولكن سرعان ما اختفت، ولم تؤخذ منهم مسحة الأنف. فيما كانت نتيجة فحص أحد اخوته سلبية، وطُلب منه أن يدخل عزلا مؤسسيا ويأخذ معه الأطفال الصغار. الغريب أن ابنه الكبير وعمره 6 سنوات لم يصب بالفيروس رغم أنه كان قريبا منه، وكان يحضنه ويلعب معه!

وفي مقر عمله أجري لخمسة من زملائه فحوصات مخبرية جاءت نتيجة أربعة منهم إيجابية، فيما تسبب في دخول قرابة 50 شخصا منهم في الحجر المؤسسي. لكن الغريب أن الخمسة الذين جاءت نتائجهم إيجابية لم يكونوا بين من اقترب منهم بشكل كبير وخالطهم مدة أطول. يقول "ن.ح" هناك خمسة خالطتهم كثيرا، وأكلنا وشربنا مع بعض لأيام على نفس المائدة ! فيما انتقلت العدوى لأشخاص كانت مخالطتي بهم أقل بكثير من الآخرين.

الأعراض الحقيقية

وفر لـ "ن.ح" حجر مؤسسي، بدءا من يوم الجمعة، وهو اليوم الذي بدأت تظهر عليه الأعراض الصعبة. فقد تمكن منه الإسهال، وأصيب بصداع قوي جدا، تبعه دوار شديد. في تلك الليلة شعر "ن.ح" أن الأمر قد وصل لمنتهاه، وأن الأجل قد دنا منه كثيرا. لم يستطع النوم، ولم يستطع الحركة بسبب الدوار والصداع. تلمس طريقه في الغرفة إلى المصحف، واحتضنه وبدأ في القراءة. وعند الفجر صلى صلاة مودع وانتظر اللحظة الفارقة في حياته، وفي النفس أن شمسا لن تشرق عليه ثانية. لكن الشمس أشرقت كعادتها، وبدأت الأعراض في التلاشي يوما بعد آخر. وخلال 14 يوما التالية لم يحتج "ن.ح" للدخول إلى المستشفى، كان الطبيب يتواصل معه بشكل مباشر، ويصف له بعض الأدوية التي تخفف الأعراض التي تظهر عليه.

نقل الفيروس لـ50

يتحدث "ن.ح" عن ابن عمه "ن" الذي نقل له العدوى فيقول: ابن عمي هذا أصيب بالعدوى من ولاية مطرح وفق التقصي الوبائي، وتسبب في نقل العدوى لأكثر من 50 شخصا من أفراد عائلته كانت إصابة أغلبهم بين الخفيفة والمتوسطة فيما احتاجت امرأة واحدة فقط للدخول للعناية المركزة. فيما دخل ثلاثة أضعاف هذا الرقم للحجر الصحي المنزلي والمؤسسي! يضحك "ن.ح" وهو يتحدث عبر الهاتف ويقول: تصدق حتى ما طلب منا نسامحه!

أما "ن.ح" فهو مصاب بندم كبير، رغم أن لم يكن يعلم بإصابته بالفيروس وفور معرفته أن ابن عمه قد أصيب ذهب للمستشفى مباشرة وأبلغهم بالأمر. "ن.ح" حزين من أجل والده الذي ما زال يعاني من المرض ولم يتماثل للشفاء حتى الآن، وتسبب له المرض في مضاعفات كثيرة حيث أصيب بحصر في البول، وهو متعب نفسيا جدا جدا بسبب عدم قدرته على الصوم من بداية الشهر الفضيل.

عندما جاءت الصاعقة

"م.ك" يعمل في نفس المكان الذي يعمل فيه "ن.ح"، وقد نقل هذا الأخير له العدوى. ويحكي "م.ك" الطريقة التي اقترب بها من "ن.ح" وتسببت في نقل العدوى له.

يقول "م.ك" عبر الهاتف: كنت مصابا باحتقان خفيف في الحلق، وكنت قلقا منه، وذهبت للمركز الصحي، ولكن لم تكن الأعراض التي أعاني منها تستدعي إجراء مسحة للأنف، فأنا أعمل في البحر وأتعرض للشمس فمن الطبيعي أن أصاب باحتقان في الحلق.

وفي طريق عودتي من المركز الصحي التقيت بالزميل في العمل "ن.ح" وطلب مني أن أساعده في اصلاح إحدى السيارات المسؤول عنها بحكم عمله. ركبت إلى جواره في السيارة، ودار بيننا بعض الحديث.

وبعد أن أصلحنا السيارة قدت أنا سيارته وقاد هو السيارة التي تم إصلاحها وعدنا إلى مقر عملنا. ثم عدنا إلى السكن. وكان هذا حدود المخالطة التي كانت بيننا. كان هذا يوم الأحد 12 أبريل تقريبا، وظهرت نتيجة فحص "ن.ح" الإيجابية مساء الأربعاء 15 أبريل. يكمل "م.ك" عندما وصلنا خبر إصابته وقع علينا الأمر كالصاعقة! ثم يصمت قليلا قبل أن يعود للقول: لا أعرف حقيقة المشاعر التي أصابتني في تلك اللحظة ولكن كانت مزيجا من الخوف والرجاء، وشعرت أن جسمي مرهق جدا وأنني لا أستطيع الحركة ولم أستطع ليلتها النوم أبدا، كنت أنتظر الصباح حتى أذهب للمستشفى وأجري الفحص اللازم.

يضيف "م.ك": كانت المجموعة كبيرة التي خالطت "ن.ح" ولذلك طلب منا أن نأخذ الحيطة والحذر ولا نخالط أي أحد أبدا. وفي الصباح أخذت منا مسحة الأنف، وبعد يوم كامل جاء الخبر. كانت النتيجة إيجابية!

هنا توقف "م.ك" عن الحديث لوقت ليس بالقصير. قبل أن يعود ويقول: اظلمت الدنيا في وجهي. أصبت بصاعقة. "أنا وحيد أمي وأبي، وأنا المعيل الوحيد لهم، وهذا الفيروس مميت، في تلك اللحظة تذكرت الأخبار التي تصل عبر جروبات الواتس أب، حالات الوفاة التي نسمع عنها، شعرت أن الدنيا صارت ضيقة عليّ وأن موعد الرحيل قد حان". لم أستطع الخروج من هذه الأفكار التي دارت في ذهني في تلك اللحظة، وشعر الطبيب الذي كان يتحدث معي من المستشفى عبر الهاتف بما جرى في نفسي، وحاول جاهدا أن يهدئ من روعي، وأخبرني أن ملفي الصحي جيد، وأنا رجل رياضي، وأنني لا أعاني من أي أمراض وهذا في حد ذاته مؤشر إيجابي.

يضيف: عرفت أنه يواسيني ولكن لا أنكر أن ذلك خفف عني الكثير مما دار في ذهني من خوف وتوتر.

من يواسيني

كان "م.ك" يحتاج أن يخبر أحد من أفراد أسرته بالخبر، كان يريد من يواسيه. أبلغ زوجته فقط. ووصله من البيت وهو في الحجر المؤسسي الكثير من الوصفات الشعبية التي تساعد في علاج الأعراض. هو يعرف أن لا علاج للمرض، ولكن هناك علاج لبعض أعراضه أو تخفيفها على أقل تقدير.

كان "ن.ح" مصدر إلهام لزميله "م.ك" فقد حاول كثيرا تخفيف صدمته، وهو ما تحقق بعد أيام وبعد أن تيقن "م.ك" أن أعراضه خفيفة ولم تزد عن صداع كان قدارا على احتماله، واحتقان في الحلق، وآلام في العضلات وجفاف شديد في الحلق بسبب أنه كان يتنفس من حلقه لا من أنفه عند النوم.

يقول "م.ك" الحمد لله أن التجربة مرت هكذا، كانت صورة أبي وأمي في اللحظة التي عرفت فيها أنني مصاب بالفيروس صعبة جدا، فكرت لمن سأتركهم، ومن سيعتني بهما.

كيف جاءتني العدوى

"إ.خ" ما زال يتساءل إلى الآن كيف انتقل له الفيروس من "ن.ح" فهو لم يلتقِ به عن قرب، ولم يخالطه للدرجة التي يمكن أن تنقل له الفيروس. وعندما سألته عن توقعاته قال: ربما مسكت مقبض باب كان قد مسكه، أو لامست سطحا كان قد مر عليه وإلا فإنني لم أقترب منه أبدا طوال ذلك الأسبوع.

وكانت الأعراض قد ظهرت على "إ.خ" يوم الخميس 16 أبريل، أي بعد يوم واحد فقط من تأكد إصابة "ن.ح" بالفيروس، إلا أنه كان قد عزل نفسه عن عائلته منذ اللحظة التي عرف فيها بإصابة زميله، وكان قلقلا جدا على عائلته لأنه يعود للمنزل بشكل يومي ويخالط أسرته الصغيرة وكان قد رزق بطفلة جميلة قبل شهر ونصف فقط . لم يصب أحد من أفراد أسرته وهذا ما أفرحه كثيرا.

ولم تظهر أعراض شديدة على "إ.خ" مجرد حمى خفيفة وألم في العضلات، حتى أنه لم يصب بأي سعال أبدا.

يقول: كانت تجربة صعبة، تعلمت منها الكثير، ولكن لم نكن نعرف من أين يمكن أن نصاب، ظروف عملنا حتمت علينا مواصلة الدوام، ورغم محاولاتنا في تجنب الآخرين ولكن جاء قدر الله إلى حيث نحن.

أكملت نومي

نموذج يوضح طريقة أخذ مسحة الأنف[/caption]

أما "ق.ش" وهو آخر من ظهرت نتيجة فحصه ممن خالطوا "ن.ح" فيتحدث عن إصابته بكثير من الهدوء. يقول: عندما اتصلوا بي من المستشفى ليخبروني أن نتيجة فحصي كانت إيجابية كنت نائما، وبعد أن أغلقت الهاتف أكملت نومي إلى الظهر!

وعندما سألته وكان يتحدث عبر الهاتف عما إذا كان الأمر "عبثيا" قال: لا. عندما عرفت بإصابة زميلي "م.ك" ولم أكن قد أجريت فحصا بعد، ولم تكن قد ظهرت عليّ أي أعراض أصبت بوسواس، ولم أستطع النوم، وعندما بدأ الأمر يستبد بي قلت في نفسي لو استمر هذا الوسواس سيقتلني. ولذلك بذلت جهدا كبيرا حتى أخرج نفسي من الأمر.

وعن قصة انتقال العدوى له يقول: زارني "ن.ح" في المكتب بتاريخ 12 و13 أبريل، وكان يريد مقابلة المسؤول، وكنا في تلك الزيارات نتناول التمر والقهوة، ونغسل أيدينا في نفس الإناء. ونتبادل أطراف الحديث، وهذا هو حدود مخالطتي له. ولكن أيضا زارني "م.ك" في السكن وتبادلنا الحديث.

لم تظهر الأعراض على "ق.ش" إلا بتاريخ 18 أبريل، كان ذلك يوم السبت بعد أسبوع تقريبا من مخالطته لـ "ن.ح" وذهب لإجراء المسحة الأنفية يوم الاثنين بتاريخ 20 أبريل، وظهرت النتيجة بتاريخ 21.

لم يخبر "ق.ش" بأمر إصابته إلا زوجته التي أصيبت بكثير من الخوف وحاول أن يخفف عنها الأمر بالتأكيد أن صحته جيدة وأنه لا يعاني إلا من أعراض خفيفة جدا. ولكن والدته شعرت بأن ابنها يعاني من أمر ما خلال بعض محادثاتهم الهاتفية.

قضى "ق.ش" الكثير من وقته في الأيام التالية في قراءة كتاب "نظرية الفستق" لفهد الأحمدي وساهم كثيرا في التخفيف عنه في وحدته في العزل المؤسسي.