1475782
1475782
المنوعات

في الحجر الأدبي كيف تحولت ترجمة رواية لدان براون إلى قصة مثيرة

05 مايو 2020
05 مايو 2020

جوليا وبستر أوايوسو[/caption]

ترجمة: أحمد شافعي

في مارس من عام 2013، ركبت كارول دلبور - المترجمة الفرنسية البالغة من العمر سبعة وثلاثين عاما - الطائرة إلى ميلانو لأداء مهمة اختبرت من أجلها اختبارًا دقيقًا إلى أن وقع عليها الاختيار في نهاية المطاف. ولم يكن مسموحًا إلا لزوجها وابنتيها في باريس بمعرفة المكان الذي ذهبت إليه.

بعدما سجلت الوصول إلى فندقها، مضت كارول دلبور إلى بناية حداثية مهيبة في منطقة صناعية عند أطراف المدينة. وحال وصولها إلى هناك اقتيدت إلى القبو، وثمة صادر فردا أمن هاتفها وحقيبتها ووضعاهما في خزانة. ثم دخلت غرفة فسيحة فيها فريق من عشرة أشخاص ينتمون إلى ستة بلدان مختلفة وكلهم منهمكون في الكتابة على جهاز الحاسوب. على مدار الشهرين التاليين، ستعمل دلبور في سرية تامة على ترجمة "الجحيم"، وكانت آنذاك هي رابع روايات الكاتب الأمريكي الأكثر مبيعا دان براون.

كانت الرواية قد صدرت بعد عشر سنوات من رواية "شيفرة دافنشي" التي أصبحت أحد أكثر الكتب مبيعا على مدار التاريخ، وتتناول شخصية روبرت لانجدون - أستاذ علم العلامات بجامعة هارفرد الذي يعمل على حل ألغاز دينية بهدف منع كوارث كونية، وكانت الكارثة في حالة "الجحيم" عبارة عن وباء قاتل.

ولكن تجربة مترجمي براون الاستثنائية هي التي أوحت هذه المرة بفيلم عنوانه "المترجمون" Les Traducteurs للمخرج الفرنسي ريجيس روينسار. في فيلم روينسار يتم تسريب عشر صفحات من الرواية "التي يعنونها الفيلم بـ ديدالوس" ويحارب المترجمون الزمن لمعرفة مصدر التسريب. في الواقع، لم يكن للمترجمين الأحد عشر في قبو ميلانو إلا مهمة واحدة: ترجمة رواية الجحيم وضمان نشرها في أرجاء العالم بالتزامن مع الأصل.

مشهد من الفيلم[/caption]

كان الموقع السري الذي وجدت كارول دلبور نفسها فيه هو مقر جروبو مونادوري أضخم دور النشر في إيطاليا. وكانت الدار تحتل منذ عام 1975 بناية أيقونية صممها المعماري البرازيلي أوسكار نايمير، وهي عبارة عن بناء خرساني مؤلف من سلسلة من الأقواس النحتية والنوافذ المبقعة بالسواد طالعة من وسط بحيرة باتساع 20 ألف متر مربع.

تقول كارول دلبور "إن الأمر كان أشبه بالعمل في وحدة أزمات. كنا نعمل تحت ضغط الزمن، وكان علينا أن نقوم بعمل على طراز رفيع. ولا تنسى أن النتيجة سوف يقرأها ملايين البشر".

خلافًا لفيلم روينسار، لم يكن القبو مأوى فارها من ويلات نهاية العالم. بل كان غرفة مؤتمرات فسيحة مجهزة بآلة قهوة وثلاجة وفرن ميكرويف وطابعة. وبرغم كونه قبوا، تتذكره كارول دلبور مكانا مريحا، فيه شباكان كبيران يوفران بعض الضوء الطبيعي، وفي لفتة من لفتات الألعاب الأولمبية "التي تظهر في فيلم روسينار" ثمة علم صغير على كل طاولة تشير إلى اللغات العديدة الجاري العمل فيها وهي الإسبانية والإيطالية والفرنسية والألمانية والبرتغالية والقشتالية.

في حين كان بعض المترجمين المتميزين بالسرعة يعملون منفردين، كان أغلبهم يعملون أزواجا على المخطوطة المؤلفة من ثلاثة آلاف صفحة. كانت دلبور التي عينتها دار نشر "جيه سي لاتيه" الفرنسية تعمل مع دومينيك ديفير التي سبق أن ترجمت معها أعمالا رائجة أخرى مثل سيرة وولتر إيزاكسن لستيف جوبس. تقول دلبور إن "هذه مهمة يلزم لها أشخاص أقوياء بدنيا، فالعمل في قبو لشهر ونصف الشهر تجربة شديدة الاستثنائية".

كان الهدف يتمثل في اجتناب وقوع تسريب كارثي. فقبل خمس سنوات، صرفت ستيفاني ماير النظر عن كتابها الخامس في سلسلة مصاصي الدماء التي كانت تنشرها، بعنوان "شمس منتصف الليل" بعد أن نشرت مسودة غير مكتملة لها على الإنترنت. كان أفراد أمن مسلحون يحرسون مدخل القبو على مدار الساعة. والاتصال بالإنترنت مقطوعا. ولم يكن مسموحا لأجهزة المحمولة (اللابتوب) الخاصة بالمترجمين بمغادرة الغرفة. ومن أجل البحث على الإنترنت (وهو أمر جوهري في كتب دان براون) كان على المترجمين أن يتقاسموا العمل على أربعة أجهزة حاسوب متصلة بالإنترنت ويدونون ملاحظاتهم يدويا. وفي الليل تحفظ نسخهم الورقية من المخطوطة الإنجليزية في خزانة. وحتى الذهاب إلى الحمام كان أفراد الأمن يسجلونه.

كانت تعليمات مشددة قد صدرت للمترجمين بعدم الحديث إلى أحد في المقصف عن العمل الذي يقومون به، وبخاصة العاملين في مونادوري الذين كان بعضهم من الصحفيين.

يقول فرانشيسكو أنزيلمو مدير التحرير في مونادوري "كان علينا أن نضمن ألا تقع محتويات الكتاب تحت أيدي أي شخص خارج الغرفة".

في ركن من الغرفة كانت توجد لوحة يمكن للمترجمين أن يكتبوا عليها أسئلة تنقل إلى براون. "وكلنا طرحنا على أنفسنا الأسئلة نفسها، فكان ذلك جيدًا لأنه كان بوسعنا أن نتناقش فيها" كما تقول دلبور. هل تتماثل مواعيد فتح سوق مع الوقت من اليوم الذي يجري فيه الحدث؟ هل كان من الممكن إطلاق الرصاص على شخص من تلك الزاوية من السلم؟ تقول دلبور "لا بد أنه فكر: "هؤلاء المترجمون مجانين! لكننا بطريقة ما كنا أول قراء له".

لم يحدث هذا النوع من الحجر الأدبي في إيطاليا وحدها. ففي لندن، خاض المترجمون إلى الهولندية والنرويجية والسويدية والدنماركية والتركية تجربة مماثلة في قبو "ناشرو ترانسوولد " وهي قسم من دار نشر بنجوين. يقول المترجم التركي بيتيك ديمير إنجيك "كان لدينا كل ما نحتاج إليه. الشيء الوحيد الذي لم يكن متاحًا لنا هو الإنترنت. كان علينا أن نوقع على اتفاقية تلزمنا بدفع غرامة ضخمة إذا قلنا لأحد شيئا عما كنا نعمله".

يقول أنزيلمو: إن "السبب في تقسيم المترجمين إلى مجموعتين هو إضافة طبقة أخرى من التأمين، فكلما قل عدد الحاضرين في الغرفة، قلت احتمالات خروج أي شيء".

تجري أحداث روايات براون في بيئات دولية بما يجعلها ملائمة للاستراتيجية الجديدة. فالجحيم تشهد سفر لانجدون من فلورنسا إلى فينسيا إلى إسطنبول، بينما تدور أغلب أحداث رواية "الأصل" في إسبانيا.

يقول أنزيلمو: إن "الجحيم كانت مهمة لنا بصفة خاصة لأن أحداثها تجري في إيطاليا. شعرنا أن علاقتنا بالرواية أقوى لأسباب وطنية وثقافية".

تلك الإجراءات المتبعة مع الجحيم كانت الأولى من نوعها. فالمعتاد أن ترجمة روايات براون كانت تبدأ بعد وصول الإصدار الإنجليزي بالفعل إلى قائمة الأكثر مبيعا، ليسارع الناشرون الأوروبيون إلى وضع نسخهم في المتاجر بأي ثمن. كذلك كان الحال مع "الرمز المفقود" - وهي الكتاب التالي المنتظر على نار بعد شيفرة دافنشي - التي جاءت بعد أن كان فيلمان ساحقا النجاح من بطولة توم هانكس قد لفتا أنظار الجماهير في شتى أرجاء العالم. في الوقت الذي حطمت فيه "الرمز المفقود" أرقام المبيعات القياسية في يومها الأول في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وكندا، لم تظهر أولى الترجمات - إلى الإيطالية والأسبانية والفرنسية - إلا بعد مرور شهر.

كانت آناماريا رافو - وهي من ثلاثة مترجمين إيطاليين في القبو - قد ترجمت لمؤلفين من أمثال كين فوليت وروبرت هاريس على مدار عملها الممتد لثلاثين سنة. كما كانت قد عملت قبل ترجمة الجحيم ضمن فريق قوي مؤلف من خمسة مترجمين للانتهاء من ترجمة الرمز المفقود في أقل من أسبوعين.

تقول رافو "على الرغم من العمل شديد السرعة، خسرنا تلك الأيام الخمسة عشر. ففي ثناياها كان بعض القراء قد اشتروا الكتاب بالإنجليزية لأنهم لم يستطيعوا الانتظار".

بحلول الوقت الذي أعلن فيه عن الجحيم كان واضحا أن الطبعات الأوروبية يجب أن تخرج إلى النور في الوقت الذي تخرج فيه النسخة الإنجليزية، خاصة أن ذلك يحدث في زمن لم يكن شراء النسخة الإنجليزية فيه يمثل أدنى صعوبة. "ففي هذا الزمن، لا يكاد كتاب يصدر في الولايات المتحدة أو المملكة المتحدة حتى يكون بوسع أي شخص أن يطلبه من أمازون ليصل إليه في غضون أيام. ولم يكن هذا هو الحال قبل عشرين سنة". والأمر ينطبق أكثر في بلاد مثل هولندا حيث يمثل الانتشار الواسع لإجادة اللغة الإنجليزية تحديا حقيقيا. "بات نشر الترجمة بالتزامن مع الأصل أهم بكثير في هذا الزمن".

في عام 2017، قرر الناشرون أن يفعلوا مثل ذلك مع "الأصل"، وهي خامس رواية لبراون في سلسلة لانجدون. في هذه المرة اجتمع ستة وعشرون مترجما في برشلونة حيث يجري جزء من أحداث الرواية. نظمت لقاءهم دار جروبو بالنيتا وهي كبرى مجموعات النشر في إسبانيا وأمريكا اللاتينية.

تقول رافو "إن العملية برمتها في حالة الأصل كانت أكثر مثالية". في هذه المرة، كان المترجمون الذين سبق لهم العمل في ميلانو ولندن مجتمعين في غرفة واحدة. وتم تشديد إجراءات الأمن فلم يكن مسموحًا لأحد بإحضار اللابتوب الخاص به، وبدلا من القبو، جمعتهم في هذه المرة غرفة بلا شبابيك في الطابق الخامس من مقر بالنيتا، وكانوا في عزلة تامة.

تتذكر رافو أن أجهزة التكييف كانت تعمل طيلة الوقت بأقصى طاقتها. تقول "في ميلانو كنا نطلق عليه القبو، وفي برشلونة سميناه بيت الجليد".

تقول دلبور عن الاتفاق على ساعات العمل: إنه "كان أقرب إلى صدمة ثقافية". فقد أراد مترجمو دول شمال أوروبا أن يبدأ العمل في الثامنة صباحا، بينما آثر مترجمو دول البحر المتوسط الاستيقاظ متأخرين والعمل حتى المساء. وفي حين كانت المجموعة مؤلفة من مترجمين مستقلين معتادين على راحة العمل في بيوتهم، تحتم على الجميع التكيف مع ظروف جديدة. تقول كلوديا كوندي - وهي من المترجمين الأسبان - إن "العمل جمع حفنة من النساك، لكل منهم عاداته الخاصة، فكان العمل معا غريبا بعض الشيء. كان وضعا استثنائيا".

في النهاية أثمر عمل الفريق. فحينما صدرت الجحيم في مايو من عام 2013 باعت أكثر من خمسين ألف نسخة في إيطاليا في الساعات الأربع والعشرين الأولى. في إسبانيا، نفدت الأصل بسرعة، بعد طبعة أولى من ستمائة ألف نسخة، وأعلنت كل من مونادوري وبلانيتا عن مائة ألف نسخة إضافية لتلبية الطلب من القراء الطليان والأسبان.

في فيلم "المترجمون" يتحول المترجمون إلى شخصيات أشبه بالعملاء السريين إذ يتعقبون أصل التسريب. وتظهر مهارات دلبور وزملاؤها شديدة الروعة. تقول "أمر مثير أن يظهر فيلم عن مهنتنا. وأمر طيب أيضًا لأنه يفتح النقاش حول هذه المهنة".

من نواحٍ كثيرة، يمثل الفيلم نقيض ما يقبل به المترجمون حينما يختارون مهنة تقوم على العزلة والاختفاء في الكواليس.

يقول مترجم يوناني في فيلم روينسار "لو أنني أردت أن أعمل في مكتب مفتوح هكذا، لما اخترت مهنتي هذه أصلا".

لكن في الواقع، نشأت روح تضامن عن تلك التجربة. تتأمل رافو قائلة: إن "قليلا من المترجمين هم الذين يمكنهم الزعم بأنهم عملوا معًا على نص واحد".

ويقول ديمير إنجيك: إنه "كان لطيفًا أن نتمكن من تبادل الأفكار. فعملنا في العادة يقوم على الوحدة". كان التمكن من حل المشكلات معًا وشرح إشارات الرواية التاريخية والثقافية الكثيرة لبعضنا بعضًا تجربة وجدها الكثيرون منا مفيدة برغم الحبس. وتقول رافو "كانا شهرين من المعاناة، ولكنني لن أتردد في أن أكررهما اعتبارا من الغد".

نشر المقال في جارديان في 30 أبريل 2020