أفكار وآراء

المواجهة الأمريكية الصينية الساخنة لا محل لها !!

27 أبريل 2020
27 أبريل 2020

د. عبد الحميد الموافي -

إن منظمة الصحة العالمية يمكنها القيام بدور حيوي وضروري بحكم خبرتها ومتابعتها لانتشار الفيروس منذ البداية، إلا أن اتهام ترامب لها بالانحياز إلى بكين والتغطية على موقفها، يمكن أن يعيق دور المنظمة في هذا المجال، أو يشكك في مصداقيتها، على الأقل من جانب واشنطن.

في الوقت الذي يواصل فيه فيروس كورونا المستجد « كوفيد - 19» تلاعبه بشعوب العالم ودوله، كوباء يسخر من قدرات دول العالم لمواجهته، حتى الآن على الأقل، عادت إلى السطح في الأيام القليلة الماضية حالة الجدل الصيني الأمريكي حول المسؤولية عن انتشار الفيروس، وتصاعدت الاتهامات الأمريكية لبكين، لتصل إلى حد التلويح بتهديد الصين على لسان الرئيس الأمريكي ذاته، إذا ثبت أن بكين مسؤولة عن انتشار الفيروس بشكل متعمد، وليس بطريق «الخطأ»، باعتبار أن «الخطأ خطأ في النهاية» على حد قول ترامب. وهى صيغة ماكرة لتوريط الصين.

ومع الوضع في الاعتبار أن بكين لم تتوان في الرد على الاتهام الأمريكي، سواء فور ظهوره، أو في الأيام الأخيرة، بنفي مسؤوليتها عن انتشار الفيروس، والتلميح إلى أن واشنطن هي المسؤولة عن نشره في «ووهان الصينية » في أواخر نوفمبر الماضي، من خلال بعض عسكرييها الذين شاركوا في ذلك الوقت في احتفالات عسكرية في ووهان ضمت عسكريين من دول مختلفة منها الولايات المتحدة، فإنه ليس مصادفة أن تتعدد وتتكاثر التحليلات والتصورات والتوقعات، في المنطقة وفي دول ومراكز أبحاث عديدة حول ما يمكن أن تؤول إليه حالة الصراع القائمة بين واشنطن وبكين، برغم محاولات الاحتواء أو التقليل من مخاطر الخلافات الأمريكية الصينية.

والأكثر لفتا للانتباه أن هناك من يبشر بمواجهة ساخنة بين الولايات المتحدة والصين الشعبية، بل وحدد البعض موعدا لاندلاع الحرب بينهما خلال ستة أشهر، وهو أمر يثير الدهشة والاستغراب، بغض النظر عن احترام قائليه، وباعتبار ذلك وجهة نظر شخصية في النهاية.

ولعل السؤال الذي يفرض نفسه هو لماذا عاد هذا الجدل إلى السطح مرة أخرى بين واشنطن وبكين، وهل الحرب، أو المواجهة الساخنة ممكنة أو حتمية بين الطرفين؟

وفي هذا الإطار فانه يمكن الإشارة باختصار شديد إلى عدد من الجوانب، لعل من أهمها ما يلي:

أولا: انه في الوقت الذي باتت فيه دول العالم المختلفة تدرك دورة انتشار الفيروس، وتوقيتاتها التقريبية، منذ بدء انتشار الفيروس مرورا بذروة الانتشار ثم الانحسار وإمكانية السيطرة عليه، مع التحسب لموجة ثانية منه، كما حدث مؤخرا في الصين، وفي ووهان تحديدا أيضا، فإن الواقع يشير إلى أن الدول الأوروبية والولايات المتحدة هي المتضرر الأكبر، وتأتي الولايات المتحدة في المقدمة، من حيث عدد الوفيات والإصابات، وفي ظل تعرض الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لمزيد من الانتقاد داخل الولايات المتحدة، نظر لأسلوب الحكومة الأمريكية في التعامل مع الفيروس والاستهتار به في البداية، فانه يبدو أن الرئيس الأمريكي يبحث كعادته عن كبش فداء يقدمه للناخبين الأمريكيين، ويعلق في رقبته كل الشرور التي يسببها فيروس كورونا للولايات المتحدة، بل وللعالم أيضا. وجاذبية هذه المحاولة، التي بدأها ترامب بالفعل، تنبع من أن النجاح فيها سيزيح عن كاهله عبئا كبيرا، بإلقائه على عاتق الصين، فضلا عن أن ذلك يخدم معركته في المواجهة الاقتصادية والتجارية مع الصين التي لم تنته بعد، فضلا عن أنها تدعم استراتيجية المواجهة مع بكين ومحاولة دفعها للخلف بعيدا عن مزاحمة واشنطن على التربع على قمة النظام الدولي. وهو الهدف الكبير في خلفية التفكير الأمريكي أمس واليوم وغدا أيضا.

ومن هنا تحديدا فإن مما له دلالة أن ترامب وضع نفسه في موضع الطرف الراغب والقادر على محاسبة الصين واتخاذ إجراءات ضدها إذا ثبتت مسؤوليتها عن انتشار الفيروس، الذي سماه ترامب قبل عدة أسابيع، بـ «الفيروس الصيني» أو فيروس ووهان، وهو ما يكشف التوجه الأمريكي المبدئي والمسبق في هذا الشأن. فضلا عن إعطاء نفسه مهمة أو دور المتحدث باسم دول العالم الأخرى المتضررة من الفيروس. وبالرغم من أن موقف الرئيس الأمريكي من منظمة الصحة العالمية، وقطعه للمساهمة الأمريكية في تمويلها من شأنه أن يحد من قدرتها على القيام بدورها في محاربة الفيروس ومن ثم مساعدة الفيروس في الانتشار في دول العالم بما فيها الدول الأفريقية واللاتينية، وهو ما يتناقض مع الدور الذي يريد أن يقوم به ترامب كمدافع عن صحة العالم، فإن ترامب يبحث فيما يبدو عن ورقة ما لخدمة حملته الانتخابية الرئاسية، وانه يريد توظيف هذه المسألة لخدمة إعادة انتخابه حتى لو كانت ستعود بالضرر على أنشطة منظمة الصحة العالمية وتعرض حياة الملايين في العالم للخطر بشكل واقعي وعملي.

ثانيا: انه مع إدراك أن الولايات المتحدة على المستوى الاستراتيجي مستعدة للقيام بأية خطوات للحيلولة دون تقدم الصين لمزاحمتها على قمة هرم النظام الدولي، وهو ما يفسر الكثير من الخلافات والتقلصات في العلاقات الأمريكية الصينية التجارية والاقتصادية، بغض النظر عن بعض التصريحات العلنية التكتيكية، إلا أن الوصول إلى نقطة الصدام المسلح بين الجانبين، يظل أمرا صعبا ومحفوفا بمخاطر جمة، فضلا عن صعوبة الإقدام عليه من جانب ترامب من ناحية، ورفض الصين للانجرار إلى ذلك أو الاستجابة لهذا التوجه التدميري من ناحية ثانية، وذلك لاعتبارات عملية محسوبة، وهو ما يدحض في الواقع الدعوات التبشيرية بمواجهة ساخنة بين بكين وواشنطن، لا محل لها، هذا العام أو في الأمد المنظور.

ومع الوضع في الاعتبار أن الصين قوة اقتصادية عظمى، وأن ميزان المدفوعات بينها وبين الولايات المتحدة لصالح الصين بنحو أربعين مليار دولار شهريا، وهو ما حاول ترامب التقليل منه عبر الحرب التجارية مع الصين، إلا أن الصين على الصعيد العسكري تعد أقل قوة بكثير من الولايات المتحدة، سواء بحجم التسليح أو نوعيته أو الميزانية العسكرية، ومع أن الصين ليست قوة عسكرية ضعيفة أو هشة ولكنها في النهاية لا ترغب، ولا تريد - حتى الآن على الأقل - الدخول في مواجهة مسلحة مع الولايات المتحدة تدرك أن كسبها صعب إلى حد بعيد.

كما أن بكين لا تريد تبديد مواردها في حرب تدرك أنها يمكن أن تحقق أهدافها بوسائل تجارية ومالية واقتصادية بدلا من السلاح. ولعل هذا ما يفسر مراعاة واشنطن وبكين لقواعد تجنب الاشتباك في بحر الصين الجنوبي، برغم التحرشات بين قوات الجانبين أحيانا بحريا وجويا، ولكن الجانبين لا يريدان الدخول في مواجهة مسلحة لا ضرورة لها. من جانب آخر فإن إدارة ترامب يصعب أن تخاطر بالدخول في حرب مع قوة مثل الصين قبل مدة وجيزة من انتخابات رئاسية يسعى ترامب إلى كسبها، أو يتمنى ذلك على الأقل، ومع أن واشنطن تشعر بأن بكين تقترب من مزاحمتها على قمة هرم النظام الدولي، إلا أن الحرب تظل الأداة غير الملائمة لدفع الصين إلى الوراء، ولعل البديل جزئيا هو محاولة تشويه صورة الصين على المستوى الدولي واستخدام فيروس كورونا لتحقيق ذلك بدرجة أو بأخرى، ومحاولة تشكيل رأي عام دولي ضد الصين وتحميلها مسؤولية انتشار الفيروس في العالم، ومن ثم وضعها في مواجهة المجتمع الدولي كدولة مذنبة وغير مسؤولة وتفتقر إلى الشفافية، وربما مطالبتها بتعويضات ما. ولم يكن مصادفة محاولات التشكيك في صلاحية المعدات الصينية الطبية التي قدمتها الصين لدول مختلفة في العالم كمعونات أو كصادرات.

ثالثا: وفي ظل استمرار الاتهامات المتبادلة بين بكين وواشنطن حول المسؤولية عن انتشار الفيروس، ومع الوضع في الاعتبار أن بكين استقبلت بعثتين طبيتين من منظمة الصحة العالمية لبحث كيفية انتشار فيروس كورونا وضمت أحدهما خبراء أمريكيين، فإن حسم الجدل حول مسؤولية انتشار الفيروس يحتاج بالفعل إلى لجنة علمية دولية رفيعة المستوى ومحايدة للتحقيق في هذه المسألة وبمشاركة خبراء من منظمة الصحة العالمية والصين والولايات المتحدة بالطبع ودول غربية وروسيا أيضا. وإذا كانت بكين قد أبدت استعدادا لتقديم ما يمكنها من معلومات في هذا الشأن، إلا أن ما قد يعوق ذلك أن تحاول واشنطن استغلال هذه اللجنة، لجمع معلومات أوسع أو أكثر مساسا بالأمن القومي الصيني، أو تسييس المسألة منذ البداية وهو ما سترفضه الصين بالتأكيد.

ومع أن منظمة الصحة العالمية يمكنها القيام بدور حيوي وضروري بحكم خبرتها ومتابعتها لانتشار الفيروس منذ البداية، إلا أن اتهام ترامب لها بالانحياز إلى بكين والتغطية على موقفها، يمكن أن يعيق دور المنظمة في هذا المجال، أو يشكك في مصداقيتها، على الأقل من جانب واشنطن.

وفي ضوء ذلك فإنه من المهم والضروري أن ترتفع كل الأطراف إلى مستوى المسؤولية الأخلاقية والعالمية بالاتفاق على تشكيل لجنة علمية مجردة من الأهواء السياسية أو المواقف المسبقة لبحث مسألة كيفية انتشار فيروس كورونا، ووقف التوظيف السياسي للوباء في هذا الجانب أو ذاك، لأن ذلك هو السبيل لخدمة العالم والوصول إلى الحقائق والاستفادة منها في مواجهة الوباء اليوم وغدا، والتأسيس لتعاون دولي أكثر شفافية وأكثر فعالية لحماية دول وشعوب العالم ليس فقط في مجال الصحة والأوبئة ولكن في مجالات البيئة والمناخ والغذاء وغيرها فهل يمكن ذلك، يا ليت، أما حديث الحرب فلا مجال ولا محل له.