١١٢٢
١١٢٢
أعمدة

سطوة المعنوي

19 أبريل 2020
19 أبريل 2020

د. سالم محاد المعشني

للفعل المعنوي في الداخل الإنساني سطوة لا تُقاوم، نعرف نتائجه وأفعاله، لكنها معرفة لا تتحقق ماديا إلا بعد أن تتولد حقيقة ملموسة من خلال الجوارح. ونوازع الخير والشر في الداخل الإنساني في صراع مستمر، وكل منها توحي لصاحبها من خلال لسان فصيح بما لا حصر له من الأوامر والأفعال، إن كان خيرًا، أو كان شرًا، والحاضنتان لهذه النوازع والأفعال هما (الروح والنفس) وكلاهما داخليتان، الأولى حاضنة للخير المطلق، والثانية إذا لم تُزكى ستكون حاضنة للشر المطلق.

في هذه المقالة سنقرأ أبياتا قليلة للشاعر الموصلي أبي تمام، سنعود زمانا ومكانا إلى إحدى محطاتنا الأدبية الزاخرة بكنوز الحكمة والمعرفة؛ لنستل من إرشيفها المتخم بموفور العافية ما تزدهي به حروف الكتابة، وتختال به المعاني. وهناك في حواضر بني العباس (بغداد/ الموصل) نلقى رواق المعتصم المؤزر بأكاليل المجد، وفي حضرته سنطرق باب شاعر التجديد والإبداع "حبيب بن أوس الطائي" المكنى (بأبي تمام) وسنقرأ له خمسة أبيات جميلة، وهي على قلة مبانيها تزخر بالمعاني العظيمة، وتختال في حلة سندسية طرزتها أنامل ذلك المعنوي البديع، الذي له سطوة عاتية، وفعل نهائي حيال المادي /الحسي. لقد أطلق أبوتمام - لزائره المعنوي- كل الحرية لتقييد مقابله المادي بسلاسل من حديد، كي يكسر أنامله القاصرة، ويغرس مديتة في خاصرته؛ أملا في استئصال رواسبه الطينية وهدم تكوينه المجبول على التقتير والشح، ومن ناحية كي لا يدع مجالا لحاضنته (النفس) الأمارة بالسوء، تلك التي بوسعها أن تهوي به سريعًا إلى الأوحال.

قال أبوتمام في مدح المعتصم:

بِيُمْنِ أبي إسحاقَ طَالَتْ يَدُ العلى

وقَامَتْ قَنَاةُ الدينِ و اشْتَدَّ كاهِلُهْ

هو البحرُ من أيِّ النواحي أتـَيْتَهُ

فَلُجَّتُهُ المعروفُ و الجودُ ساحلُهْ

تـَعَوَّدَ بَسْطَ الكَـفِّ حـتى لوَ انَّـهُ

أَرادَ انـْـقِباضَاً لم تـُطِعْهُ أَنامِلُهْ

تـراه إذا مـا جـئتَه مُتـهلِّلاً

كأنَّك تُعطيه الذي أنت سَائلُهْ

ولو لم يكن في كفِّه غير رُوحهِ

لجَادَ بها فليتقِ اللهَ سَائلُهْ

تتكئ الأبيات على نفائس من المجرات عالية القيمة تهب مقام الممدوح أرقى درجات السمو والفضيلة، تتصدرها (العلا) بدلالتها الفوقية الإشراقية، ثم لفظة (الدين) بجلالها وقدسيتها، ثم (المعروف والجود) لفظتان تختزلان جل مناقب الخير والإحسان، ثم في البيت الثالث يضمر الشاعر لفظة وادعة من إرشيف المعنوي المكلل بعميم النبت وهي (الكرم) تلك القيمة المتأصلة في دواخل الممدوح التي لم تترك للمقابل السلبي (المنع/البخل) ثمة قيمة، فالأنامل التي عودها الكرم على بسط الكف استعصت على الانقباض!! وقبل ذلك قد احتل التشبيه البليغ في قوله (هو البحر) مساحة لا حدود لها من فضيلة الكرم، وكمال التوفيق هنا يأتي من كون البحر يحتل من ظواهر الكون والطبيعة الصدارة في الرحابة والامتداد والعطاء، ثم تمتد الصورة الاستعارية في حركة أفقية متناغمة مع حركة (البحر) ليقف هذا العملاق على عكازتين معنويتين، إحداهما (المعروف) وثانيهما (الجود)، فتحمل المعنويتان الممدوح على أجنحة الزهو عاليا لتحطان به في سماوات القيم والرفعة، ولا نعدم تلك الأسماء اللامعة من دائرة الحسيات التي اختارها الشاعر بعناية فائقة لتقف بجوار المعنوي، حتى يرينا سطوة الثاني، ومدى تفوقه على الأول، وهي: (اليد - القناة - البحر-اللجة-الساحل- الكف - الأنامل) ومن حسن التوفيق أن تأتي أربع من هذه المفردات الحسية في ميزان الجود الذي وسيلته الأولى للتنفيذ (اليد) ولنا أن نتصور ضآلة هذه المفردات أمام العملاقة (البحر) وهنا تتجلى براعة الشاعر أبي تمام في إتيانه بهذه الصورة الحسية ذات الحمولة القصوى من خلال روافع وأدوات معنوية طرية (المعروف والجود). وفي البيت الأخير يضاعف الشاعر من سلطة المعنوي، ويختار الآن من حقوله أجلها؛ إنها الروح مادة الطهر والحياة التي سيرخصها الممدوح إن لم يجد غيرها للبذل، وهذا منتهى الجود والكرم.

قد يقول قائل بأن الشعراء يلجأون في مدح ذوي الشأن إلى مثل هذه المبالغات، والمبالغة هي بمثابة العدسة المكبرة للأشياء في عالم المادة، صحيح أن المبالغة في اللغة / الأدب تتفوق على العدسات المكبرة، لكن إذا خرجنا من دائرة التحليل الأدبي، واتجهنا إلى الموضوعي والعلمي لنضع التشبيه البليغ (المعتصم بحر) في ميزان العلمية، ماذا نجد؟ نجد البحر أصل الحياة؛ منه يتصاعد بخار الماء إلى طبقات الجو العالية وهناك تتكثف وتنزل المطر ومن الماء/ المطر تنبجس الحياة وتتغذى الكائنات. لقد أرسل الأزرق العلوي (السماء) أشعته إلى الأزرق الأرضي (البحر) لتتصاعد مادة الحياة (المطر) إلى الأعلى لتنهمر بعد ذلك خيرا ورخاء للعالمين. ألم يكن أبوتمام محقا فيما ذهب إليه؟ هل يوجد ثمة عطاء - في هذا الكون- أغلى من مادة الحياة (الماء) وهل في الكون والطبيعة أسخى من الأزرقين (البحر والسماء) أرأيتم قيمة التشبيه البليغ (هو البحر)؟ ثم هل رأيتم سطوة المعنوي (الكرم) الذي حمل من السعة والرحابة والامتداد ما هو في حجم ورحابة حجم البحر؟.

ثم لنلقي نظرة على هذه المتجاورات الحسية والمجردة، ووظيفة كل منها في تقديم الدلالة والمعنى، وحسن اختيار الشاعر لها، بحيث لاتجد أف ضل منها في معجم اللغة. ووسيلتنا البلاغية للحكم على ما ذهبنا إليه فضل وشرف المضاف إليه بالنظر إلى المضاف، فالأول اكتسب شرف الدلالة المعنوية من التصاقه بجوار الثاني، فإذا علمنا أن المضافات في أبيات أبي تمام كلها حسية/مادية بينما المضاف إليه من المعنويات/المجرات، فيكون التوفيق قد حالفنا في هذه القراءة. فلننظر الآن إلى الأمثلة للتدليل على ما قلنا. في البيت الأول خلع على الخليفة (يد العلى) وفي صدر البيت الثاني (قناة الدين) في البيت الثالث (لجة المعروف) و(ساحل الجود) وهكذا تحتل الماديات موقع المضافات (يد - قناة- لجة - ساحل) ، بينما تحتل المعنويات في التركيب موقع المضاف إليه (العلى - الدين-المعروف- الجود) وبذلك يكون الممدوح الظافر بالجود المادي (الكرم) قد ظفر معنويا بما تختزله حروفه من رحابة معنى، وشرف مبنى.