أفكار وآراء

أمريكا بين الاعتبارات الأخلاقية والنظرة الرأسمالية

14 أبريل 2020
14 أبريل 2020

عوض بن سعيد باقوير  -

صحفي ومحلل سياسي -

إن واشنطن أظهرت خلال أزمة فيروس كورونا موقفا غير موفق إنسانيا حتى داخل أمريكا من خلال التضحية بالاعتبارات الإنسانية لصالح الاعتبارات الاقتصادية، وسوف يكون المشهد الأمريكي الجدلي مثيرا للاهتمام لأن ذلك سوف يمثل الصراع الجدلي بين الرأسمالية المتوحشة والاعتبارات الإنسانية،

الولايات المتحدة الأمريكية تعيش فترة عصيبة من تاريخها الحديث من خلال مواجهة الجائحة الخطيرة الممثلة بفيروس كورونا المستجد التي جعلت إدارة الرئيس الأمريكي ترامب يدخل في تصريحات يومية مثيرة للجدل حول إمكانية رفع القيود التدريجية فيما يخص النشاط الاقتصادي، رغم أن هناك نظرة أخرى يقرها الخبراء في مجال الصحة العامة حول خطورة مثل هذا الإجراء المتسرع الذي قد تكون له انعكاسات خطيرة تتمثل في مزيد من تفشي فيروس كورونا.

الذي يدور من جدل في الولايات المتحدة الأمريكية هو حول النهج الأخلاقي والنظرة الرأسمالية خاصة وأن هناك استحقاقات سياسية قادمة أهمها الانتخابات القادمة وانتخابات الكونجرس خلال شهر نوفمبر القادم.

ومن هنا فإن المتغير الاقتصادي يلعب الدور الأهم على صعيد المزاج السياسي لملايين الناخبين في الولايات المتحدة الأمريكية خاصة للكتلة الانتخابية لترامب الذي يسعى لفترة ثانية في البيت الأبيض.

نيويورك نموذجا

أصبحت مدينة نيويورك نموذجا صارخا لتفشي الفيروس خاصة وأنها المدينة الأكبر في الولايات المتحدة على الصعيد الاقتصادي والسياسي، حيث يوجد مقر الأمم المتحدة وهناك السوق المالي والشركات الكبرى، ومن هنا فإن الامتحان الأمريكي بين الاعتبارات الأخلاقية الصحية والنظرة الرأسمالية ينطلق من خلال هذه المدينة التي شهدت أكبر حدث إرهابي في الحادي عشر من سبتمبر عام 2011م.

نيويورك تتعرض لأزمة صحية كبرى حيث تتزايد أعداد الوفيات بشكل مخيف وكذلك أعداد الإصابات وتنافس المدينة الدول الأوروبية في هذا الإطار خاصة إيطاليا وإسبانيا وفرنسا.

إضافة لذلك يأتي الجدل بين حكام عدد من الولايات الأمريكية والإدارة في البيت الأبيض من خلال ترقب القرار الأهم لترامب من خلال مسألة رفع القيود الاقتصادية وعودة الحياة إلى بعض الولايات، وقد امتد هذا الجدل إلى المنافسة الانتخابية بين الحزبين الديمقراطي والحزب الجمهوري.

ومن خلال تفشي فيروس كورونا أصبح هناك جدل كبير حول عدم الاستعداد والاحتراز المطلوب قبل تفشي فيروس كورونا والذي يجتاح الولايات المتحدة بشكل كبير.

إذن الاعتبارات الصحية والنظرة الرأسمالية سوف تجعل المشهد الأمريكي في مواجهة خلال الأيام القادمة في ظل خسارة اقتصادية كبيرة، حيث فقد ١٧ مليون أمريكي عملهم ، كما أن انخفاض أسعار النفط هدد عددا من شركات النفط الصخري بالإفلاس مما جعل ترامب يضع ثقله السياسي مع الدول النفطية الكبرى حتى تم التوصل إلى اتفاق أوبك مع الدول الأخرى من خارج الأوبك خاصة روسيا الاتحادية.

الولايات المتحدة الأمريكية فقدت هيبتها من خلال سلوكها لمواجهة الجائحة وهناك فشل واضح على صعيد المواجهة والاستعداد الصحي مقارنة مع دول آسيوية كالصين وكوريا الجنوبية وسنغافورة.

وعلى ضوء الجدل المتواصل بين حكام الولايات والبيت الأبيض، فإن النهج الرأسمالي في تصوري سوف يتغلب على النهج الأخلاقي لأن ترامب يدرك أن الانكماش الاقتصادي في توقيت الانتخابات سوف يكون خطرا سياسيا على مستقبله السياسي.

وعلى الجانب الآخر فإن انحدار الوضع الصحي أيضا سوف يكون كارثة سياسية أيضا على ترامب وهذا ما جعله يتحدث عن أهم قرار في مسيرته منذ وصوله إلى البيت الأبيض وهنا تكمن صعوبة قرار رفع القيود.

القرار الأمريكي ليس هو الوحيد على صعيد الغرب الرأسمالي فهناك حديث حول الرفع التدريجي في أسبانيا وإيطاليا وسوف تكون لتلك القرارات إن حدثت متغيرات حاسمة خاصة وأن منظمة الصحة العالمية حذرت من أي خطوة لا تأخذ في الحسبان الاعتبارات الصحية.

النموذج الآسيوي العربي

كانت هناك تكهنات بأن الصين التي انطلق منها الفيروس لن تكون قادرة على احتواء الفيروس وهذا يعود لأسباب موضوعية منها الكثافة السكانية وأيضا الاعتبارات الاقتصادية، ومع ذلك سجلت الإجراءات القوية لمدينة ووهان نموذجا يحتذى من خلال السيطرة على ملايين من سكان المدينة وإقفال المنطقة وعزلها بشكل كامل وكانت النتيجة هو نجاح صيني لافت وكذلك الحال مع دول مثل سنغافورة وكوريا الجنوبية، وحتى على الصعيد العربي كان هناك انضباط ممتاز وهذا من خلال مؤشرات الإصابات والوفيات رغم أن النظم الصحية العربية لا تقارن بالنظم الصحية في الغرب أو الدول المتقدمة في آسيا وكانت الاعتبارات الصحية تتقدم على الاعتبارات الاقتصادية وهذا يعد تضحية. مع ذلك فإن الاعتبارات الإنسانية تأتي في المقدمة وعلى ضوء ذلك فإن دروس فيروس كورونا كبيرة، وسوف تكون هناك متغيرات كبرى على الصعيدين السياسي والأخلاقي وما حدث من أنانية سياسية من الدول الرأسمالية والتي كان سلوكها سلبيا حتى على صعيد التعاون الجماعي، فترامب يهدد منظمة الصحة العالمية بقطع الدعم المالي في ظل البحث عن كبش فداء بعد إخفاق إدارته في التعامل الصحيح مع جائحة كورونا، وأيضا إصرار ترامب على عدم تصدير المعدات الطبية خارج الولايات المتحدة الأمريكية مهددا بالانتقام.

إن واشنطن أظهرت خلال أزمة فيروس كورونا موقفا غير موفق إنسانيا حتى داخل أمريكا من خلال التضحية بالاعتبارات الإنسانية لصالح الاعتبارات الاقتصادية، وسوف يكون المشهد الأمريكي الجدلي مثيرا للاهتمام لأن ذلك سوف يمثل الصراع الجدلي بين الرأسمالية المتوحشة والاعتبارات الإنسانية، وهي جدلية يدفع ثمنها ملايين البسطاء والفقراء داخل الولايات المتحدة الأمريكية وخارجها وهذا يفرض على الحكماء إيجاد نظام دولي عادل ومنصف حتى يمكن إنقاذ البشرية من ذلك النهج الذي لا يعطي الاعتبار الإنساني أية أهمية.