أفكار وآراء

إيطاليا غاضبة والاتحاد الأوروبي عند مفترق طرق

04 أبريل 2020
04 أبريل 2020

د. عبد العاطي محمد -

خرجت إيطاليا غاضبة من القمة التي عقدها قادة دول الاتحاد الأوروبي عبر الفيديو كونفرنس لمواجهة الأزمة الاقتصادية المترتبة على انتشار فيروس كورونا، لأنها وهي أكثر الأعضاء تضررا، لم تجد التضامن الذي كانت تتوقعه لمساعدتها على تجاوز الأزمة. فقد اكتفى المجتمعون ببيان يتضمن الدعوة فقط إلى تقديم مقترحات في غضون 15 يوما، بينما كانت تنتظر موقفا أوروبيا داعما بأدوات مبتكرة، لا بحلول قديمة لم يثبت نجاحها.

حدث ذلك بينما كانت قمة العشرين التي تضم الدول الكبرى الاقتصادية قد عقدت اجتماعا مماثلا بنفس الطريقة ولنفس الهدف، أي للتغلب على التداعيات الاقتصادية السلبية الناجمة عن انتشار الوباء. ولكن على عكس القمة الأوروبية خرجت قمة العشرين بنتائج طيبة تؤكد عزم العالم على تخطى المحنة في أسرع وقت ممكن، وخصص قادتها نحو 5 تريليونات من الدولارات لهذا الغرض وحدد تفاصيل توجيهها.

ومع أن إيطاليا ودول أوروبية كبرى غيرها مثل ألمانيا وفرنسا وبريطانيا تعد من الأعضاء البارزين في تجمع دول العشرين بما يعني أن تعهدات هذه القمة (بالأحرى قرارات أو التزامات) مفيدة لإيطاليا وكفيلة بتخفيف وطأة محنتها الاقتصادية، إلا أن الأمر مختلف هذه المرة، مما جعلها لا تكترث كثيرا لهذه التعهدات. وللتوضيح هناك فارق مهم بين القمتين، فقمة العشرين معنية بالدرجة الأولى بكل الوضع العالمي الذي ينذر بركود أو انكماش خطير يعيد الجميع إلى الوراء لسنوات قادمة، وليس بالطبع بوضع دولة بعينها، كما أن لتعهداتها ضوابطَ ويتم تنفيذها وفقا لسياسات يجري التوافق عليها بين الأعضاء ولا تحقق بالضرورة كل المطالب العاجلة لكل دولة أو منطقة متضررة، وفوق هذا تحتاج إلى وقت.

أما قمة الاتحاد الأوروبي فإنها من المفترض أنها تعمل من خلال اتفاقات جماعية قائمة أو حتى آنية تخص الأعضاء السبع والعشرين (بعد خروج بريطانيا) ولها أدوات خاصة بها لمساعدة كل من يتعرض لأزمة اقتصادية، بما يعني أنها من الممكن أن تتخذ خطوات عادلة ومختلفة عما تتخذه قمة العشرين. وقد بدا واضحا أن كلا القمتين لهما إستراتيجية، بل وأهداف مختلفة عن بعضهما البعض برغم ما بينهما من هدف مشترك ألا وهو التصدي العاجل للأزمة الاقتصادية الناجمة عن «كورونا». ونظرا للفوارق بين القمتين كانت إيطاليا تنتظر شيئا مختلفا من شركائها الأوروبيين ينقذها من الكارثة التي تعيشها، وهو ما لم يحدث!

إيطاليا لم تكن وحدها التي انتظرت دعما عاجلا وبأدوات جديدة تختلف عما فعله الاتحاد الأوروبي في معالجة الأزمة التي تعرضت لها اليونان منذ بضعة سنوات، بل كان معها دول أوروبية أخرى ممن يطلق عليهم دول الجنوب الأوروبي، وهم من المتأثرين بشدة من الوباء إنسانيا واقتصاديا.

فعشية انعقاد القمة الأوروبية دعت 9 دول من بينها إيطاليا وفرنسا وإسبانيا إلى إنشاء آلية اقتراض شاملة في منطقة اليورو مبنية على تضامن اقتصادي أقوى داخل الاتحاد (تشمل ما تمت تسميته سندات كورونا). ولكنْ دولا أخرى ممن يطلق عليها دول الشمال من بينها ألمانيا والنمسا وهولندا رفضت الدعوة وقالت بضرورة أن تكون هذه الآلية مشروطة بما يعني عدم توفر حرية الحركة أو التصرف من جانب إيطاليا للتصرف في ما تحصل عليه من قروض. واستند رفض الدعوة إلى عدم ثقة دول الشمال في حسن إدارة المساعدات من جانب من سيتلقونها. ولم يكن هذا التبرير السبب الوحيد الذي فجر الغضب الإيطالي (الاتهام بسوء الإدارة)، وإنما لأن روما وجدت أن شركاءها لا يتفهمون جيدا حقيقة الأزمة وطبيعتها مما كان يفترض معه ألا يضعوا شروطا، سواء بحكم أنها أزمة إنسانية بشعة بالنظر إلى وفاة آلاف الإيطاليين وتوقف الإنتاج في دولة تعد في مقدمة الدول الاقتصادية عالميا، مما يعنى تكبدها خسائر مالية ضخمة. وأشار الإيطاليون إلى أن الأمر مختلف عما حدث لليونان استنادا إلى أن أزمتها كانت لأخطاء مالية بالدرجة الأولى ولا يمكن مقارنتها بحالة إيطاليا الآن، ولذلك لا يصح استخدام نفس الآلية القديمة لتحقيق الاستقرار المالي والاقتصادي التي اتبعها الاتحاد من قبل مع اليونان.

وذهب الإيطاليون إلى أبعد من ذلك في إطار التعبير عن غضبهم من الافتقاد لدعم شركائهم الأوروبيين، وذلك عندما ركزوا على ثلاثة عوامل معنوية. أولها يتعلق بتشخيص حالة الأزمة. فإذا كان من الصحيح أن دول الاتحاد وجدت كل منها نفسها في حالة حرب (وبقية العالم أيضا)، فإنها حالة حرب شاملة بالنسبة للجميع، وهنا لا يكون التصرف ذاتيا (كل دولة تقاوم بنفسها وحسب حدة الأزمة عندها) وإنما يجب أن يكون جماعيا حيث يهب الكل إلى مساعدة الجزء دون شروط أو تراخ. والعامل الثاني هو التضامن الذي من المفترض أن يكون العمود الفقري لعمل الاتحاد الأوروبي، هذا التضامن الذي يجد التعبير الحقيقي عنه وقت الشدائد وبالأفعال لا بالأقوال، وغير ذلك لا معنى لوجوده.

وفى هذا الصدد رأت إيطاليا أن التضامن بات مفقودا من جانب شركائها. وأما العامل الثالث فهو الولاء باعتباره الدليل على قوة الانتماء للوحدة الأوروبية، حيث لا معنى للهوية الواحدة طالما لا يتم التعبير عمليا عنها من خلال النجدة في وقت المحنة، فذلك وحده التعبير القوي عن الهوية الواحدة.

وبشأن الغصة التي شعر بها الإيطاليون، كان هناك الكثير من التصريحات والتعليقات والأفعال المعبرة عنها في مشاهد فريدة. يكفي أن بعض المواطنين الإيطاليين كانوا يُسقطون العلم الأوروبي ويرفعون بدلا عنه العلم الصيني تارة والروسي تارة أخرى ليس فقط للإشادة بموقف كل من بكين وموسكو لما بادرا بتقديمه من مساعدات، وإنما أيضا للتعبير عن استنكار الجفوة الأوروبية. ورئيس الوزراء الإيطالي جوسيبى كونتى قال: «إننا نخوض حربا سويا» ولذلك هدد خلال القمة الأوروبية بعدم التوقيع على البيان المشترك إذا لم يتضمن أدوات مالية مبتكرة. وتساءل مستنكرا كيف يمكننا أن نعتقد أن الأدوات التي تم تطويرها في الماضي والتي تم إنشاؤها في حالة صدمات غير متكافئة (يقصد أن خسائرها قليلة وتتراوح من دولة لأخرى) وتوترات مالية تؤثر بصورة فردية على بلد دون أخر، هي أدوات كافية لصدمة اليوم (كورونا). ووجه حديثه للحاضرين قائلا: «لا تنزعجوا يمكنكم الاحتفاظ بها لأن إيطاليا لا تحتاجها». كما كتب وزير الخارجية لويجى دى مايو على صفحته بالفيس: «نريد أن تقوم أوروبا بدورها لأننا لا نعرف ماذا نفعل بالكلمات المنمقة». وهناك إشارات عديدة بالصحف الإيطالية عبرت عن الاستنكار للموقف الأوروبي من عينة «أوروبا قبيحة» والمشروع الأوروبي انتهى!!

وسط كل هذا الغضب الإيطالي من المشروع تفهم التحول الذي يحدث في علاقات روما مع كل من بكين وموسكو بالنظر إلى تدفق المساعدات من جانبهما سواء فيما يتعلق بالقوائم الطبية أو المستلزمات. ومن الصحيح أن الصين بوجه خاص بادرت فور نجاحها في تخطي المحنة إلى مساعدة دول عديدة من الدول قليلة الإمكانيات، إلا أن الحالة الإيطالية لها مغزى خاص يتعدى الجانب الإنساني من حيث دلالاته السياسية وسط عالم يتغير رأسا على عقب بفعل جائحة الكورونا. فمن المؤكد أن التجربة لن تمضي دون إحداث تغيير تستفيد منه الصين في علاقاتها ليس مع إيطاليا وحدها وإنما مع دول أوروبية أخرى. وبما أن الولايات المتحدة لم تعد على ما يرام مع أوروبا، وبعد خروج بريطانيا من الاتحاد، فإن أعضاءه يتجهون إلى الشرق حيث التعاون الوثيق مع بكين. وفى نفس السياق تتجه العلاقات الأوروبية مع موسكو. إلا أن هذا التحول يأتي على المساس بأسس وقواعد التعاون التي قام عليها الاتحاد الأوروبي، بما يعنى إمكانية تعرضه للتفكك أو أن يصبح على مفترق طرق لسنوات قادمة. فالأنظمة السياسية والاقتصادية مختلفة بين دول الاتحاد و«الأصدقاء الجدد» وربما «الحلفاء الجدد»، ومن ثم تكون الاستجابات متباينة على أقل تقدير بما يعني الافتقاد للتضامن والولاء مثلما أشار وزير الخارجية الإيطالي.

ومن الوارد أن يعمل الكبار في الاتحاد على تضميد جراح الأزمة مع إيطاليا وإسبانيا وأن ينجحا في الحفاظ على الحد الأدنى من التزامات الشراكة، ولكن الحدث نفسه بما كشفه من عورات تتعلق بالعجز عن تفعيل التضامن عمليا لا لفظيا للحفاظ على الأمن الإنساني (صحة الأفراد) قبل أشكال التعاون الأخرى، ومساسه بالمشاعر الشعبية (إيجاد قاعدة اجتماعية)، من شأنه أن يخلق حركات اجتماعية عديدة داخل أوروبا تذهب في اتجاه الابتعاد عن الوحدة وتفضيل الخيارات الذاتية أو المستقلة. وللتذكرة فإنه عندما تعرض الاتحاد لأزمة الخروج البريطاني منه، انشغل إلى حد كبير بكيفية احتواء التداعيات السلبية له، ولكن لم يصبه الهلع ولا القلق على المستقبل لأن المشكلة كانت ذات طبيعة اقتصادية فقط ولها آليات للحل، كما لم تكن مفاجئة للشارع الأوروبي بالنظر إلى أن بريطانيا من البداية لم تكن راغبة في الانضمام للاتحاد. وأما الأزمة الراهنة فإنها داهمت المؤسسات الصحية والاقتصادية للجميع وأحدثت فيها زلزالا، كان من أبرز مشاهده الغضب الإيطالي الذي يتحدث عن أن مشروع الاتحاد انتهى حقا، لقد أصبحت دول الاتحاد الأوروبي، وفى خلال مدة وجيزة، في موقف لا تحسد عليه.