أفكار وآراء

خطة ترامب لفلسطين - أبارتيد أخرى

21 مارس 2020
21 مارس 2020

آلون لئيل - فورين بوليسي -

ترجمة: قاسم مكي -

في أيام عنفوان نظام الأبارتيد (التفرقة العنصرية) في جنوب إفريقيا خططت حكومة الأقلية البيضاء الحاكمة هناك لإنشاء 10 أوطان عرفت أيضا باسم البانتوستانات (المفرد بانتوستان) لإقامة السُّودِ الجنوبِ إفريقيين بعيدا جدا عن المدن التي كان يؤمل الإبقاء عليها بيضاء.

(نظام الأبارتيد بحسب قاموس أكسفورد هو النظام السياسي السابق في جنوب إفريقيا والذي كان يحظى فيه البِيض فقط بحقوق سياسية كاملة فيما أُجبِر الآخرون خصوصًا السود على السكنى بعيدا عن البيض وإرسال أبنائهم إلى مدارس منفصلة إلخ...- المترجم).

كانت تلك السياسة تتويجًا لما أسماه نظام الأبارتيد «التنمية المنفصلة». وهي مسعى القصد منه صرف الانتباه بعيدا عن الاضطهاد العرقي بادعاء أن السود منحوا الاستقلال في دويلاتهم الخاصة بهم وأنهم لم يعودوا مواطنين من الدرجة الثانية في جنوب إفريقيا.

وفي نهاية المطاف أقامت حكومة الأبارتيد أربعة بانتوستانات فقط كانت مستقلة ظاهريا (هي بوفوتاتسوانا وفيندا وسيسكَي وترانسكاي) وست مناطق يفترض أنها تتمتع بالحكم الذاتي.

تجاهلت الحكومات الأجنبية هذه البانتوستانات بوصفها دويلات عميلة أو دُمَىَ. (بانتوستان تعني وطن الناطقين بلغة البانتو- المترجم).

كانت جنوب إفريقيا البلد الوحيد في العالم الذي اعترف رسميا بالبانتوستانات التي تُتَّخَذُ القرارات الكبرى المتعلقة بشؤونها حصريا في بريتوريا.

لقد كرَّستُ عقودا من عمري لخدمة الشؤون الخارجية لإسرائيل بما في ذلك العمل مسؤولا بمكتب جنوب إفريقيا بوزارة الخارجية الإسرائيلية إبان حقبة الأبارتيد وسفيرًا لإسرائيل لدى جنوب إفريقيا في الفترة من 1992 إلى 1994 أثناء انتقالها إلى الديمقراطية.

خلال هذه السنوات علمت، وذلك ما أثار فزعي، أنه لا يوجد بلد آخر في العالم (باستثناء جنوب إفريقيا) أكثر مساهمة في اقتصاد البانتوستانات من إسرائيل. فهي أقامت مصانع وشيَّدت أحياء سكنية ومستشفى بل حتى ملعبًا لكرة القدم ومزرعة تماسيح في هذه الدويلات العميلة لجنوب إفريقيا. بل ذهبت إسرائيل إلى حد السماح لإحداها وهي بوفوتاتسوانا بإقامة بعثة دبلوماسية في تل أبيب وكان زعيمها لوكاس مانجوبي، الذي قاطعه العالم بأكمله لدعمه وإضفائه الشرعية على نظام جنوب إفريقيا، ضيفا معهودا في إسرائيل.

ومع مقاطعة العالم بِرُمَّتِه لأكذوبة البانتوستان، تحركت إسرائيل التي كانت تدفعها الرغبة في التعاون الأمني والحصول على سوق تصدير لصناعتها العسكرية لمساندة نظام الأبارتيد.

بدأ تعاون إسرائيل العسكري مع جنوب إفريقيا في عام 1974 وانتهى فقط مع انتخاب نيلسون مانديلا في 1994.

كانت العلاقة التي امتدت إلى 20 عاما واسعة النطاق وشملت التطوير المشترك للأسلحة بين البلدين وتزويد إسرائيل جنوبَ إفريقيا بالتدريب العسكري والسلاح. في الحقيقة كانت جنوب إفريقيا في بعض الأوقات أكبر مشترٍ للأسلحة الإسرائيلية. كان هذا التعاون مستمرًا لحوالي عقدين من الزمان تقريبا حين صرت سفيرا. واتَّسم بالدقة والتعقيد بحيث لم أكن أعلم وأنا سفير إسرائيل في جنوب إفريقيا بتفاصيله. فقد كانت تشرف على جزء كبير منها وزارة الدفاع وليست وزارة الشؤون الخارجية.

صارت إسرائيل من خلال هذا التعاون أوثق حلفاء جنوب إفريقيا اقتصاديا وعسكريا ودبلوماسيا واستجابت لطلبها بالمساعدة في تنمية البانتوستانات.

بالطبع سقطت البانتوستانات في النهاية مع سقوط نظام الأبارتيد ويعود جزء من الفضل في ذلك إلى الحملة الدولية التي نُظِّمت ضدها وعدم اعتراف العالم بها والضغط والمقاطعات رغم دفاع الجماعات الداعية إلى تفوق الجنس الأبيض عن البانتوستانات حتى آخر أيام الأبارتيد.

لقد اتضح الآن أن محاولات تزيين نظامِ تمييزٍ عنصري وقمعي بإيجاد دويلات حكم ذاتي زائفة ويسكنها رعايا ليست لهم حقوق سياسية حقيقية لم تنجح في جنوب إفريقيا ولن تنجح في أي مكان آخر.

لكن هذا الدرس يجري الآن اختباره. فبدعمٍ نشطٍ من الولايات المتحدة اتخذ شكلَ ما يسمى «صفقة قرنِ» الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تسعى إسرائيل إلى استحداث وتطوير نسخة «الألفية الجديدة» لسياسة الأبارتيد القديمة والمحزنة في جنوب إفريقيا.

مؤخرا وفي البيت الأبيض وَهَبَ ترامب صديقَه المقرب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو «هديةً» أخرى قبل حلول انتخابات الثاني من مارس في إسرائيل بتقديمه خطة صاغها صهره كوشنر ومبعوثوه في (حفل) لم يحضره أي فلسطيني.

بَيَّنَت تفاصيلُ الخطةِ المقترحة واللغةُ الإنشائية التي استخدمها كل من ترامب ونتنياهو أنها لم تكن صفقة ولكنها تطبيقٌ لخطة نتانياهو التي طال بها الأمد لتمتين سيطرة إسرائيل على الضفة الغربية بمنح المقيمين فيها جيوبا منفصلة من الأراضي دون أن يحصلوا على حرية حقيقية أو على الحقوق السياسية الأساسية.

ذلك أيضا كان بالضبط هدفُ سياسة البانتوستان التي طبقتها حكومة جنوب إفريقيا البيضاء.