أفكار وآراء

هكذا تكون الحاجة لثقافة الصداقة في أوقات الشدائد

21 مارس 2020
21 مارس 2020

د. عبدالعاطي محمد -

برغم الانشغال الكبير من جانب وسائل الإعلام العالمية بتطورات انتشار فيروس كورونا المستجد، لم تجد أخبار المساعدات التي شرعت الصين في تقديمها للدول الأخرى ما تستحقه من الاهتمام، ومن ذلك ما جرى ويجري تقديمه من مساعدات صينية لكل من إيطاليا وإيران.

وقد يرجع ذلك إلى أن تفشي الفيروس إلى حد الوباء شد الاهتمام أكثر من غيره، ولكن القيمة العظيمة لهذه المساعدات تبقى حية، حاضرا ومستقبلا، تذكر الجميع بأن ثقافة الصداقة هي الملاذ لدرء تداعيات الحروب والكوارث الصحية والبيئية.

لا يمكن إنكار أن العالم ضرب أخماسا في أسداس عندما فوجئ بظهور هذا الفيروس الغامض أو المجهول مسبقا والخطير في سرعة انتشاره، ما بين من تنبه مبكرا نسبيا وسارع في اتخاذ إجراءات احترازية حسب ما هو ممكن لديه، ومن تباطأ في التعامل مع المشكلة لأسباب قد يتعلق بعضها بنقص الإمكانيات أو بلا مبالاة الجهات المختصة أو بالثقة المبالغ فيها أو بالاعتقاد أن الانتشار لن يكون بالاكتساح الذي حدث. ولكن عندما اتضح للكل أن الخطر بات على الأبواب فعليا، وأنه لا يفرق بين أحد في العالم كله، أيا كان وضعه الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، أصبحت الجدية في التعامل لمكافحة الفيروس هي العنوان الأبرز في كل المواقف.

وهنا كان البحث عن التضامن العالمي ضروريا أو ملاذا لا غنى عنه. ولأن عالم اليوم كان قد افتقد هذا التضامن منذ زمن لأسباب يعرفها القاصي والداني ولا تحتاج لتوضيح، باتت استعادة التضامن ضربا من التمني أو التعلق بأحلام من الماضي البعيد. ومما زاد من أهمية الأمل أن منظمة الصحة العالمية التي تصدرت المشهد العالمي في المكافحة، طالبت بهذا في بياناتها اللاحقة لبيانات الإعلان عن ظهور المرض أو الفيروس.

ومع أن مشهد الانقسام العالمي وانتشار الخصومة بين كباره لم يكن يوحي بأن شيئا من هذا التضامن المفقود يمكن استرجاعه، إلا أنه حدث بالفعل، ومع أن الأمثلة قليلة إلا أنها أمثلة مهمة وذات دلالات قوية ولها ما بعدها، فالمواقف عند الشدائد هي التي تصنع علاقات الشعوب والدول وتغير الأوضاع العالمية.

وفي هذا الإطار هناك مثالان جسدا مضمون ثقافة الصداقة وأهمية العودة للتضامن العالمي مهما كانت حدة الخلافات وتضارب المصالح، هما المساعدات الصينية لكل من إيطاليا وإيران.

والمثالان يستحقان التأمل لأن كل منهما يكشف عورات الأوضاع الدولية السيئة الممتدة منذ سنوات ويطرحان البديل، أي تغليب المبادئ والقيم الإنسانية والمبادرة بالتعبير عمليا عن احترام هذه المبادئ والقيم لا الاكتفاء بالكلام المنمق أو المعسول.

لأسباب لم تتضح بدقة بعد أن تأخرت إيطاليا في مكافحة الوباء، ليصحو شعبها، وبعد نحو شهرين على ظهور المرض عالميا، على كارثة بشرية فاقت كل التصورات. تصاعد بسرعة عدد المصابين بالفيروس وكذلك عدد المتوفين، فاضطرت الحكومة إلى أن تفرض الحجر الكامل على شمال إيطاليا، وبعده بأيام قليلة جعلت إيطاليا كلها تحت الحجر.

وراحت التساؤلات تتوالى عن الأسباب التي تجعل بلدا متقدما للغاية اقتصاديا وحضاريا من أهم دول الاتحاد الأوروبي، يجد نفسه مأزوما إلى هذا الحد المخيف. وأيا كانت الأسباب التي تتعدد فيها الاجتهادات ومن بين ذلك أن الضحايا هم من كبار السن حيث يفتك المرض بهذه الفئة العمرية أكثر من غيرها، إلا أن الأمر الذي توقف عنده المراقبون هو افتقاد إيطاليا ليد العون والمساعدة من شركائها أعضاء الاتحاد الأوروبي.

ومن الصحيح أن بقية دول الاتحاد بكل ما تمثله من ثقل كبير، علمي واقتصادي وتقدم في الخدمات الصحية، وقفت بدورها عاجزة عن المواجهة أو وجدت صعوبات في ذلك، ومن ثم ما كان بالإمكان مساعدة إيطاليا، إلا أن ذلك لا ينفي الافتقاد للتضامن الأوروبي مع إيطاليا خصوصا أنها ظلت تعاني من تصاعد الخطر لأسابيع عديدة أمام أعين شركائها دون أن يلمس العالم الخارجي لونا من ألوان التضامن السريع حتى لو جاء صغيرا.

ولكن الصين هي التي بادرت بتقديم المساعدات حيث سارعت بإرسال فرق وإمدادات طبية من الصليب الأحمر الصيني. وذلك بعد أن كان وزير الخارجية الصيني وانج بي قد عرض على نظيره الإيطالي لويجي دي مايو تقديم مساعدات وإرسال فريق طبي، ورحبت إيطاليا بالمبادرة الصينية وأكد وزير خارجيتها أن بلاده تولي اهتماما كبيرا بالتجربة الصينية وتريد التعلم منها.

المشهد الثاني من إيران، حيث تتضح ثقافة الصداقة التي تعاملت بها الصين مع من طرق بابها للتعاون في مكافحة المرض.

وقد سبق التعاون بين الجانبين الصيني والإيراني ما جرى بين بكين وروما، وذلك لأن هذا التعاون قائم بينهما منذ سنوات وممتد لمختلف المجالات وليس المجال الصحي وحده.

في خضم الأزمة، تعهد الرئيس الصيني شي جين بينج في رسالة لنظيره الإيراني حسن روحاني بتقديم كل المساعدات لطهران مشيرا إلى أن الصين وإيران شريكان استراتيجيان كاملان وتتميز العلاقة بين شعبيهما بصداقة تقليدية. وكان من اللافت أن رسالة الرئيس الصيني وكذلك بيانات بعض المسؤولين الإيرانيين تضمنوا ما يشير إلى أن إيران حكومة وشعبا بادرت أيضا إلى مساعدة الشعب الصيني في الفترة التي انتشر فيها الفيروس هناك أي في الصين.

وعلى الأرجح أن المساعدات التي قدمتها إيران كانت نفطية. وأيا كانت الأسباب فالموقف المشترك بينهما هو تفعيل ثقافة الصداقة. وهكذا فإنه مع تصاعد أعداد المصابين والوفيات الإيرانيين سارعت بكين إلى إرسال الفرق والشحنات الطبية إلى طهران، وبالإضافة للطابع الرسمي اتخذ التعاون للمكافحة الطابع الشعبي الصيني تأكيدًا لثقافة الصداقة القائمة بين الجانبين. ما يضفي مغزى خاصا على هذه الحالة أن إيران بدت في وضع عصيب من حيث طلب العون لإنقاذ شعبها من كارثة طارئة جاءت من خارجها حيث لا مسؤولية لها عنها، وذلك لأنها تتعرض لعقاب اقتصادي غير مسبوق من الغرب سواء من الولايات المتحدة أو من الدول الأوروبية، ولكن الصين تكاد تكون قد انفردت كقوة دولية كبرى بكسر هذا الموقف عندما بادرت لإنقاذ إيران من الكارثة.

المغزى مما سبق أن أوروبا بكل ما تمثله من عناصر القوة اللينة والصلبة وما بينها من وحدة، عجزت عن صد خطر صحي تمثل في انتشار فيروس كورونا ودفعت ثمنا غاليا نفسيا واجتماعيا واقتصاديا لم يخطر على بال أحد منها. لقد اضطر أعضاؤها السبعة والعشرون إلى أن يعزل كل منهما نفسه عن الآخر (بدلا من الوحدة) وأن لا يقدم يد العون لأخيه وحالة إيطاليا مثال صارخ على هذا الوضع الغريب، وجاءت المساعدة لإيطاليا من الصين التي تبعد عنها نحو عشرة آلاف كيلومتر لا من ألمانيا أو فرنسا ولا من الولايات المتحدة.

واتضح أن المبالغة في رسم قواعد للنظام الاقتصادي الحر الذي تعمل به كل هذه الدول يفتقد كثيرًا لعوامل الرعاية الصحية العامة التي يستفيد منها الجميع بسهولة ودون عناء أو الاضطرار لتحمل تكلفة عالية. لقد بدا مجحفا وقاسيا إنسانيا.

وفي الجانب الآخر فإن النظام المعاكس (الموجه) الذي تعمل به الصين هو الذي أنقذ بلاده وقدم العون لأبناء النظام المنافس أي النظام الليبرالي الحر!!.

وأما بخصوص حالة التعاون بين الصين وإيران فإنها تشير إلى تعميق الجراح بين طهران وواشنطن لأن الأخيرة وضعت الأولى في موقف لا تحسد عليه من حيث القدرة على الحياة في حد ذاتها قبل أي اعتبار آخر. ولم يكن سهلا على الإيرانيين أن يتقبلوا العرض الأمريكي بالمساعدة بعد كل ما جرى لهم من جانب إدارة ترامب، بينما رحبوا بالطبع بكل المبادرات الصينية وأصبحت علاقاتهم الآن أكثر قوة مما كانت عليه في السابق، لأن الصديق الحق هو الصديق وقت الشدة.

ثقافة الصداقة تحتاج إلى إحياء بين الأمم والشعوب بدلا من ثقافة الخصومة، وما جرى بين الصين وكل من إيطاليا وإيران هو أقوى دليل على صدق وقوة هذا العامل في بناء علاقات سوية وطيبة وإيجابية بين الشعوب والحكومات. هذه الثقافة لا تنظر إلى شكل النظم السياسية ولا إلى الأيديولوجيات ولا الوضع الحضاري أو الاختلافات الدينية والعرقية، وإنما معنية بحماية ورعاية الإنسان أينما يكون على وجه المعمورة.

لقد بدأت الأزمة الأخيرة من الصين، ولكنها عندما استفاقت منها (السيطرة) اتجهت إلى تقديم المساعدة للآخرين بنقل تجربة النجاح في المواجهة والمشاركة في التوصل إلى علاج. وإذا كان ذلك من صميم الثقافة الصينية العامة التي أكسبت بلادها فوائد اقتصادية جمة يشهد بها العالم (ثاني أكبر قوة اقتصادية في العالم)، فإن مواجهة العالم لفيروس كورونا يتعين أن تستفيد كلية من ثقافة الصداقة التي تصرفت بها الصين. لقد حان وقت المراجعة للكثير من القواعد التي حكمت فكر وعلاقات الشعوب على مدى العقود الأخيرة.