1458122
1458122
إشراقات

اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار وضعت قواعد متكاملة وشكلت تحولا جذريا في التاريخ البحري

19 مارس 2020
19 مارس 2020

أحمد أبو الوفا: التاريخ شاهد على الجهود العمانية في محاربة القرصنة البحرية -

الإسلام اعتمد مبدأ حرية الملاحة ولم يغفل مختلف الاستخدامات المتصورة -

قراءة: سالم الحسيني -

قدّم الدكتور أحمد أبو الوفا أستاذ القانون الدولي العام بكلية الحقوق- جامعة القاهرة ورقة بحثية خلال ندوة تطور العلوم الفقهية الأخيرة التي أقيمت في الربع الأخير من العام الماضي في مسقط حملت عنوان: «اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لعام 1982- «رؤية فقهية» اشتملت على أربعة مباحث: المبحث الأول: استخدامات البحار.. في إطار الاتفاقية وفي إطار الفقه الإسلامي، والمبحث الثاني: المناطق البحرية: في إطار الاتفاقية وفي إطار الفقه الإسلامي، والمبحث الثالث: محاربة القرصنة في البحار: في إطار الاتفاقية وفي إطار الفقه الإسلامي، والمبحث الرابع: محاربة تلـوث المياه: في إطار الاتفاقية وفي إطار الفقه الإسلامي. أكد من خلالها على أن البحار والأنهار تعتبر مصدرًا للحياة، وأهميتها الحيوية لوجود الدول والأفراد والشعوب والجماعات- بالنظر إلى مختلف استخداماتها- ليست في حاجة إلى تدليل أو إثبات. فالماء هو مصدر الحياة لمختلف الكائنات، قال تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ)، ويقول أيضًا: (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ).

لذلك يقول الإمام البخاري: «الماء أصل كل مشروب وهو أهون موجود وأعز مفقود». مشيرا إلى أن البحار والمحيطات تشغل الجزء الأكبر من الكرة الأرضية ما يقرب من 75% أي ثلاثة أرباع، فهي تحيط بها من كل جانب، والبحر اسم للماء الغزير الواسع. وسُمي بحرًا لاتساعه، وقد ورد في القرآن الكريم على أربع وجوه: أحدها: البحر المعروف في الأرض، ومنه: (حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ البَحْرَيْنِ)، والثاني: الماء العذب والماء المالح ومنه (مَرَجَ البَحْرَيْنِ)، والثالث: بحر تحت العرش، ومنه (وَالبَحْرِ المَسْجُور)، والرابع: العامر من البلاد، ومنه (ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ).

وذكر من خلال ورقته البحثية إن قواعد قانون البحار منذ القدم قد تطورت حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن، فهي ليست بنت اليوم فقط، وإنما خضعت لتطورات عديدة: ففي عهد عصبة الأمم فشل مؤتمر عام 1930 في تقنين قواعد قانون البحار. أما في عهد الأمم المتحدة فقد قنن مؤتمر الأمم المتحدة الأول حول قانون البحار القواعد واجبة التطبيق في اتفاقات أربع أبرمت في جنيف عام 1958، وفشل مؤتمر الأمم المتحدة الثاني حول قانون البحار عام 1960 في تحديد عرض البحر الإقليمي وتحديد مناطق الصيد، وأخيرًا نجح مؤتمر الأمم المتحدة الثالث حول قانون البحار في تبني اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار عام 1982 مشيرا إلى أن هذه الاتفاقية تشكل تحولا جذريا في تاريخ العلاقات الدولية البحرية. وتتميز هذه الاتفاقية بعدة أمور، منها: إنها تنظم- تقريبا- كل الجوانب التي تتعلق بقانون البحار، كما انه لا يجوز وضع تحفظات أو استثناءات على الاتفاقية ما لم تسمح به صراحة. وأن لها الأولوية على غيرها من الاتفاقيات الدولية التي تكون أطرافا فيها دول أطراف في الاتفاقية.

وأوضح أنه يجوز التوقيع على الاتفاقية والانضمام إليها ليس فقط من جانب الدول، وإنما أيضا من كائنات أخرى كالمنظمات الدولية والأقاليم غير المتمتعة بالحكم الذاتي وتعرضت لمختلف الاستخدامات في إطار البحار، وأهمها: الملاحة، واستغلال ثروات البحار، وتحليق الطائرات فوقها، والبحث العلمي البحري، ووضع الكابلات البحرية في قيعان البحار وغيرها، أما في إطار الفقه الإسلامي: فلم يغفل الإسلام مختلف الاستخدامات المتصورة للبحار، فقد انتظمتها، في رأينا، الآية رقم (14) من سورة النحل حيث يقول جل شأنه: (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ البَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)، ولا شك أن هذه الآية قد نصت على مختلف الاستخدامات المتصورة للبحار، وهي: الصيد: والمتمثل أساسًا في السمك. واستخراج الجواهر النفيسة التي يلبسها الإنسان من اللآلئ والجواهر، والملاحة: بواسطة السفن والفلك التي تمخر البحر أي تشقه، وكافة الاستخدامات الأخرى والتي تدخل تحت عموم قوله تعالى: (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ). بل لعل إباحة البحار بكافة استخداماتها (من ملاحة، أو صيد، أو وضع كابلات، أو تحليق... إلخ) يجد سندًا أساسيًّا له في القاعدة التي أخذ بها جمهور الفقهاء من أن «الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد نص من الشارع بالتحريم»، عملاً بقوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا)، وقوله تعالى: (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ)، وعلى ذلك فالأصل الإباحة، والتحريم هو الاستثناء، تطبيقًا للقاعدة المذكورة.

وأشار إلى فكرة المشاركة هذه في استخدامات البحار والأنهار الدولية تدل على أمرين: أولاً: حق كل فرد أو جماعة أو دولة في استغلال واستخدام تلك الموارد الطبيعية. وثانيًا: إمكانية وضع قيود فيما يتعلق بماهية هذا الاستغلال أو مداه مراعاة لحقوق الآخرين (أفرادًا أو دولاً أو جماعات). ومن تلك الاستخدامات: استخدام البحار في الملاحة: من حيث أهمية البحار كطريق ملاحي: وقد وردت في القرآن الكريم العديد من الآيات التي يمكن أن يستنبط منها اعتماد الإسلام لمبدأ حرية الملاحة في البحار والمحيطات. ومن حيث استغلال ثروات البحار (الصيد وغيره): حيث تختزن البحار ثروات هائلة - حية وغير حية- لا غنى عنها للبشرية. وهي مورد رزق متجدد. ولم يغفل الإسلام إمكانية استغلال ثروات البحار عن طريق صيدها أو استخراجها.

وأكد أبو الوفا في بحثه أن تطور قانون البحار وكذلك نظامها القانوني تطورًا جذريًا خلال أقل من نصف قرن: فبعد أن كانت القاعدة المسلم بها تقضى بتقسيم البحر إلى قسمين أساسيين: البحر الإقليمي والبحر العالي أو البحر الحر، ظهرت العديد من المناطق (إلى جانب هاتين المنطقتين). وأهم هذه المناطق: المنطقة الملاصقة والامتداد القاري والمنطقة الاقتصادية الخالصة ومنطقة التراث المشترك للإنسانية جمعاء. مؤكدا أن كل المساحات البحرية تشكل، من الناحية الطبيعية أو المادية، شيئًا واحدًا، ذلك أنه لا توجد فواصل بين قطرات المياه، سواء تلك الموجودة بالقرب من الشاطئ أو تلك التي تبعد عنه. أما من الناحية القانونية، فالأمر على خلاف ذلك. إذ تنقسم المساحات البحرية إلى أجزاء مختلفة، يخضع كل منها لقواعد قانونية خاصة بها تتغاير بحسب قرب المنطقة من الإقليم البري أو بعدها عنه، أي فكرة البحر القريب mare proximum، والبحر البعيد. ويمكن تقسيم مختلف المناطق والامتدادات البحرية، إلى قسمين أساسيين: المناطق البحرية الخاضعة لسيادة الدولة: تلك التي تتعلق بها سيادة أو ولاية الدولة الشاطئية «أهمها المياه الداخلية، والبحر الإقليمي». والمناطق البحرية غير الخاضعة لسيادة الدول: وتلك التي لا تخضع لسيادة الدولة «وأهمها البحار العالية، والمنطقة»، فالمناطق البحرية غير الخاضعة لسيادة الدول وفقًا للقانون الدولي للبحار تتمثل الآن أساسًا في منطقة التراث المشترك للإنسانية، والبحر العالي (أو أعالي البحار). وتتميز المنطقة الأولى بأن استغلالها وتنميتها يجب أن يكون لصالح الإنسانية جمعاء (أي تحقيق المصلحة المشتركة لكل الدول)، أما المنطقة الثانية فتتميز بتوافر الحريات الأساسية فيها كحرية الملاحة وحرية الصيد وحرية إرساء الكابلات البحرية وحرية الطيران.

أما المبحث الثالث في الورقة والذي جاء بعنوان: «محاربة القرصنة في البحار: أوضح من خلاله أن من معوقات الملاحة الدولية نظام «القرصنة». وقد نظمت اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار كيفية محاربتها في أعالي البحار. والتي تتمثل أساسًا في استخدام أعمال العنف غير المشروع أو احتجاز السفن أو الأشخاص أو أي عمل من أعمال السلب يهدف إلى تحقيق أغراض خاصة، بشرط وقوع أعمال القرصنة من طاقم أو ركاب سفينة خاصة. وفي إطار الفقه الإسلامي: أوضح أن القرصنة لا تتفق مع الإسلام لأنه يترتب عليها ابتزاز الأموال أو الاعتداء على السلامة الجسدية أو حياة الأشخاص، فضلاً عن كونها عائقًا خطيرًا أمام حرية المجاري البحرية الدولية. لذلك يطلق ابن عابدين على القراصنة اسم «اللصوص والقطاع». وأكد فقهاء المسلمين على ضرورة محاربة القراصنة بكل السبل.

وتطرق في ورقته إلى الجهود العمانية على مر التاريخ في محاربة القرصنة ذاكرا في عهد الإمام غسان بن عبدالله الفجحي اليحمدي (والذي خلف الإمام وارث بن كعب الخروصي) ازدادت أعمال القرصنة تجاه السواحل العمانية، فما كان من الإمام غسان إلا أن قام ببناء أسطول بحري لمواجهة ذلك، فقام بإنشاء نوع من السفن الجديدة لطرد القراصنة. ومن ذلك إرسال الإمام أحمد سفينة الرحماني إلى مانكالور بالهند، للاستفسار عن سبب انقطاع شحنات الرز عن مسقط وعندما علم الوفد العماني، أن سبب ذلك يعود إلى أعمال القرصنة التي يمارسها القراصنة على سواحل مليبار ضد السفن التي تحمل الرز إلى مسقط، بادر بإرسال أسطوله إلى تلك السواحل لمعاونة حاكم مانكالور للقضاء على القراصنة هناك وكان من نتائج هذه الحملة قيام حاكمها بإرسال مبعوث من قبله إلى الإمام أحمد في الرستاق لتأكيد علاقات الصداقة ولتعيين مبعوث تجاري دائم في مسقط يتولى رعاية العلاقات بين الطرفين.

والمبحث الرابع في هذه الورقة تحدث عن محاربة تلـوث المياه ذاكرا أن حماية البيئة من التلوث قد اتخذت الآن أبعادًا عالمية، على أساس أن التلوث، على الأقل من حيث آثاره، عابر للحدود. ولا جدال أن التلوث العابر للحدود- وهو الذي يوجد مصدره في بلد وآثاره الضارة كليًّا أو جزئيًا في بلد آخر- هو الذي يثير الصعوبات على الصعيد الدولي. ومن المعلوم أن التلوث قد ينجم عن سببين: إما نتيجة لممارسة أنشطة محظورة أو ممنوعة كإلقاء النفايات في المياه، أو دفن المخلفات في الأرض، أو إفساد الوسط الطبيعي كقطع الأشجار أو قتل الحيوانات، أو تسريب الزيت في المياه أو على الأرض. وأما أن يكون بسبب أنشطة غير محظورة لكنها تسبب ضررًا للغير، نتيجة للدخان الناجم عن إبحار السفن أو الزيت الذي يتسرب منها مثلاً. مبينا انه في إطار الفقه الإسلامي: فيؤكد الواقع أن التوازن البيئي، والمحافظة على البيئة الطبيعية كما وهبها الخالق سبحانه وتعالى، ثابت في قوله تعالى في سورة الحجر: (وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ * وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ)، فبخصوص هذه الآيات قيل: إنها توجهنا: «...إلى خلاصة ما يقوله علماء البيئة عن توازن الطبيعة وعن تساند الحياة على الأرض بين النبات والحيوان والإنسان وكل ما يشمله علم الإيكولوجي الحديث».

واختتم ورقته البحثية بقوله: لا شك أن الوسط البحري هو في ذات الوقت ضعيف وخطير، له آثاره الإيجابية والسلبية: ذلك أنه إذا كان وجود شواطئ للدولة على البحار والمحيطات له بعض المزايا التي تتمثل - خصوصا وبطريقة أساسية - في الامتدادات البحرية الخاضعة لسيادتها أو لسلطتها أو اختصاصاتها، أو تلك التي تمارس عليها بعض الحقوق ذات السيادة، فإنه له بعض الأخطار والمساوئ: كالتلوث، وتهديد الإقليم البري بكافة أخطار البحار والكوارث الطبيعية أو التي من صنع الإنسان. ويتضح من العرض السابق أن اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لعام 1982 وضعت قواعد متكاملة لكافة المناطق البحرية واستخداماتها. وهو ما بحثه - أيضا- فقهاء المسلمين، على البيان السابق ذكره في هذه الدراسة.