أفكار وآراء

استثمار فترة الأزمة

18 مارس 2020
18 مارس 2020

مصباح قطب -

[email protected] -

لا أحد يعلم متى تنتهي أزمة «كوفيد 19»، ولا كيف أو إلى ماذا ستنتهي؟. كل فرد عاقل وكل دولة رشيدة لا بد أن تضع لنفسها كل السيناريوهات: الأسوأ -الأفضل- والبين بين، ويستعد لكل حالة إذا حلت بما تقتضيه. في جانب اقتصادي معين، وفي تلك اللحظة، يعيش المستثمرون الماليون وغير الماليين حائرين على نحو لم يحدث من قبل، فالعدو لم يعد هو ذاته: القلق أو اضطرابات الأسواق وشدة تقلباتها، أو غموض المستقبل الخ، ولكن أيضا تشظي الآراء الموازي لظواهر غريبة تحدث ويصعب أن نجد لها تفسيرًا بالمنطق أو بالتخمين. على سبيل المثال فإن العلاقات التي كانت تأخذ شكلًا نمطيًا أو شبه نمطي بين أسعار كل من البترول والدولار والذهب اختلت تمامًا، وبشكل لم يكن أحد يتصوره ومعه أن ينخفض البترول والدولار معا مثلًا، أو أن الذهب يمكن أن يتراجع، بعد أن صعد لفترة ليست بالقصيرة مع أجواء كورونا، حيث بدا أمر التراجع وكأن الملاذ الآمن الأول في وسط كل العواصف والأنواء لم يعد يستحق أن يأخذ هذه الصفة تلقائيًا... أمر ما حدث في نفسية المضاربين أو المتداولين عموما جعل مؤشرات صعود الذهب في مثل تلك الظروف تتعرج أو تنبعج تارة وتنضغط أو تنكمش أخرى، وفي ظني أن شيئا ما في عقول البشر راح يراجع الموقف بعقلانية تليق بتصور لسيناريوهات كورونا، غير معلن لكنه موجود في الخواطر في كل الحالات، ألا وهو تصور ما يعنيه السيناريو الأسوأ، أي موت ملايين أو مئات الملايين من البشر بهذا الماكر السريع الانتشار. هناك قول شهير هو : ماذا يفيد الإنسان لو كسب العالم كله وخسر نفسه؟، لذلك فإن المراجعة الداخلية الخاصة بالاستثمار في الذهب يمكن أن تكون قد انبثقت من فكرة مفادها: ماذا يفيد الإنسان في حياته التي يحتاج خلالها إلى طعام وشراب وكساء وكهرباء وغاز وتنقل ودواء، إذا حاز القناطير المقنطرة من الذهب وشحت كل السلع والخدمات الأساسية في ظل تفشي كورونا أو انعدم بعضها؟. من المثير أيضا أن تتراجع الأسواق الأمريكية -الاثنين الماضي- في أعقاب خفض الفائدة وإعلان خطة تحفيز مالي ونقدي ضخمة، وقد يقول قائل إن المشكلة في النهاية ليست في ما يجري في «وول ستريت»، على خطورة الانخفاضات المدوية التي حدثت في كل أسواق المال، ولكن في الاقتصاد الحقيقي ذاته، حيث التباطؤ الشديد في الطلب وفي التصنيع، والخسائر الضخمة في قطاعات النقل الجوي والسياحة والفندقة والترفيه الخ، لكن الرد على ذلك أن أي حدث كبير يتم في الاقتصاد الرمزي وحده أو الاقتصاد الحقيقي وحده يمكن أن يجد البشر وتجد الدول أو المؤسسات المعنية له في النهاية أدوات معقولة لمواجهته، بيد أن الخطر هذه المرة يجيء من اللقاء العاصف والمتزامن، هبوطيًا، بين ما هو رمزي وما هو حقيقي، فالتدهور الحاصل في مجال العيش والإنتاج والنقل والتداول، يصاحبه تدهور اشد في أسواق المال وفي كل أشكال العقود الحاضرة أو المستقبلية ومن هنا خطورة الموقف.

وجريا على نهج يراه أناس -وأنا منهم- ألا وهو أن التفكير في الكوارث من منظور الذعر -حتى لو توفرت مقتضياته- لا يقدم الكثير بل ولا يعزى أيضًا، وفي المقابل فإن النظر إلى الزاوية الأخرى من الصورة أي ما المفيد الذي يمكن أن نفعله في هذا الظرف العصيب، يقدم خدمة للذات وللأسر وللمجموع في المدينة أو القرية وللكل في الوطن وأخيرًا للبشرية كافة. ليس من حق أحد أن يدعى أنه وحده يملك حق توجيه الناس إلى ما يفعلون أو ما لا يفعلون لكن كل ما أطلبه من ذاتي ومن غيري أن نفكر فيما يجب ويمكن عمله مهما ادلهمت الخطوب تأسيا بالأنبياء والصالحين وبالعقول الطيبة الكبيرة، وأيضا تجاوبا مع ما يقوله العقل والمنطق «ونخلى الباقي على الله» كما قلت الأسبوع الماضي. لذلك قد يكون مناسبا أن تضع كل شركة أو مؤسسة (أو حتى أسرة) لنفسها برنامجًا لما يمكن عمله وكانت الظروف قد حالت دون القيام به من قبل، في فترة التعطل العالمي الواسع تلك؟.

على سبيل المثال فقد وجهت السلطات المصرية أصحاب الفنادق والقرى والمنشآت السياحية بالقيام بأعمال تعقيم كاملة لها خلال فترة توقف الطيران وتوقف وفود السياح بالتبعية، وبكل تأكيد فإن لدى الكيانات السياحية ذاتها ما تود القيام به أيضًا من تجديدات وترميمات وإصلاحات في بنيتها الأساسية وقاعاتها ومطابخها ومرافقها وحجراتها، كما أن هناك أيضًا ما تود القيام به من تدريب وإعادة تدريب عمالتها وتحسين ثقافتها الصحية تحسبًا على الأقل لمعايير جديدة ستبرز في هذا المجال، وإكسابها خبرة أوسع في كيفية الحفاظ على أعلى مستويات الخدمة المصحوبة بدرجة عالية من الأمان الصحي أو الطبي للجميع. خطوط وشركات الطيران يمكن أن تفعل شيئًا شبيهًا، وكذا الطرق والمطارات وبواخر الركاب والمصانع التي أجبرتها الأوضاع على التوقف، وأبعد من ذلك فهناك أدوار أخرى لا نرى ضرورة سرعة إنجازها إلا وقت المحنة كاستكمال إجراءات أو تشريعات أو إصلاحات حكومية لم يكن دوران العجلة الاقتصادية ومعه الانشغال السياسي العام يمنح الوقت أو الفرصة لاستكمالها، بحيث يمكن أن تكون الفترة الحالية، وهي فترة شلل في الاستثمارات الجديدة شئنا أم أبينا ورغم كل التحفيزات النقدية والمالية، حيث يصعب أن يغامر أحد بالاستثمار في تلك الظروف بل يصعب أيضا أن يكمل إجراء الخطوات المطلوبة إذا أراد - ومنها مثلا الحضور إلى هذا البلد أو ذاك لتوقيع عقود الاستثمار مع توقف الطيران.

يمكن إذًا أن تقوم الحكومات المركزية والمحلية باستكمال ما يجب استكماله لتهيئة مناخ افضل للاستثمار وإزالة معوقات كان الانشغال بما هو دائر يعطل استكمالها، واذهب إلى أبعد وأقول إن البيروقراطيات في كل حكومات العالم، مع تفاوت، تكون أسرع وافضل أداء في أوقات الأزمات الكبرى وتحت الضغوط المجتمعية والإنسانية والوطنية والشخصية، التي تحفزها لعمل أعلى جدية، وفي كثير من الحالات فإن تعقيدات التعامل بين الجهات البيروقراطية داخل كل دولة واحدة وهي من العوامل التي تحد كثيرًا من جذب الاستثمارات وتطوير منظومتها، يمكن القفز عليها أو حلها انتهاز للحظة، حيث الكل يعمل بروح المركب الواحد بالفعل.

ويمكن كذلك إنهاء كل ما يتعلق بالمنازعات بين بيروقراطية /‏‏‏‏ بيروقراطية، أو فض المنازعات بين الحكومة والمستثمرين أو العكس والتأمل الهادئ في عوامل النجاح أو الإخفاق في الفترة الماضي وتحسين الجانب الذي ترجح معه كفه المكاسب أو تقل معه أو تنعدم الخسائر. إنها فترة تسخين أو تدريب «فك عضلات» -كما في كرة القدم- بعد الإجهاد، استعدادًا لعمل كثيف سيأتي قطعًا مهمًا طال أمد الأزمة، وقد يأتي في وقت اقصر مما نظن. يبقى أخيرًا أن الكل يتحدث الآن عن عالم مختلف أخلاقيًا وسياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا واستثماريًا، فيما بعد كورونا، وقد يكون في ذلك هذا القدر أو ذاك من الصحة، وعلى كل نشاط اقتصادي عام أو خاص أو أجنبي أو مشترك أن يعيد النظر بروية فيما يقوم به ومدى قابليته لمواجهة تغيرات عصر انحسار كورونا، في المنتجات وطرق الإنتاج ومصادر الخامات، والأذواق والتسويق والاستهلاك، والتفكير أيضًا !.