عندما يتحول العالم إلى جزر منعزلة !!
د. عبدالحميد الموافي -
في الوقت الذي لم يتوقف فيه فيروس كورونا عن الانتشار في أرجاء العالم فإن تطورات الأشهر الثلاثة الأخيرة كشفت بوضوح أهمية وضرورة الدور الذي تقوم به المؤسسات العالمية، مثل منظمة الصحة العالمية، بل والحاجة الحقيقية إلى دعم هذا الدور ومساندته لصالح مختلف الدول والشعوب، وخاصة الدول الأقل قدرة اقتصادية في عالم اليوم.
إذا كانت الحضارة الإنسانية، على امتداد أكثر من عشرين قرنًا، قد استطاعت عبر الجهد الإنساني المتواصل والمتراكم، وعبر التفاعل بين الإنسان وكل قوى الطبيعة من حوله، الانتقال بحياة الإنسان إلى مستويات أعلى وأكثر تنظيمًا واستقرارًا، في مختلف مناطق العالم، وإن كان بدرجات متفاوتة عادة، إلا أن الإنسان لم يستطع حتى الآن على الأقل التغلب على الطبيعة، أو قهرها وتسخيرها بشكل تام لخدمة البشر أو بعضهم. فحتى الآن هناك العديد من الظواهر الطبيعية، وقوى الطبيعة، كالزلازل والبراكين والعواصف والتغيرات المناخية والفيروسات بالطبع، التي لا تزال قادرة على قهر الإنسان وتهديد حياته، بل وإجباره أحيانًا على التجرد بدرجة أو بأخرى من ثوب التقدم ومظاهر التطور التي اكتسبها، وممارسة حياته، أو بعضها عبر أسوأ مكنوناته وأكثر قواه همجية وأنانية. وهو ما تجسده الحروب، بكل أنواعها وأحجامها وأدواتها، من أسلحة الدمار الشامل، نووية وكيماوية وبيولوجية، حتى الأسلحة التقليدية بكل فئاتها وصولًا إلى الأسلحة الصغيرة والألغام والشراك الخداعية.
ومع الوضع في الاعتبار أن جدلا يمكن أن يثور حول ما إذا كانت الفيروسات، وهي كائنات بالغة الدقة، ولا ترى بالعين المجردة عادة، ومنها ماهو نافع ومنها ما هو ضار، تعد من قوى الطبيعة، التي نتصورها في عقولنا بالضخامة والقدرة على قلب حياة الإنسان رأسا على عقب، خلال ثوان في حالات محددة، فان الفيروسات لها أحيانا نفس القدرة على التأثير التدميري في حياة البشر، ولم يكن فيروس كورونا «كوفيد 19» سوى نموذج لهذه الفيروسات القادرة على تهديد حياة البشر بشكل أو آخر، وعلى نطاق غير قليل. وعلى امتداد الأسابيع والأشهر القليلة، منذ أواخر ديسمبر الماضي وحتى الآن، والعالم يعيش على وقع فيروس كورونا الذي بدأ إطلالته المزعجة والخطرة على العالم من مدينة ووهان، بإقليم هوبي الصيني، وانتشر منها إلى أكثر من 130 دولة الآن، ومع أن الصين بدأت تتعافى، فإن بؤرة انتشار المرض تحولت الآن إلى أوروبا ومركزها إيطاليا، والخوف ان تنتقل إلى إفريقيا، التي بدأت تظهر فيها بعض الحالات في دول جنوب الصحراء، وخطورة ذلك تتمثل في أن الدول الإفريقية جنوب الصحراء ستكون خسائرها أكبر، وقدراتها على مواجهة الفيروس أو احتوائه محدودة بحكم إمكاناتها وتجهيزاتها الصحية الهشة، وفق توصيف منظمة الصحة العالمية. وعلى أية حال فإنه من الأهمية بمكان الإشارة باختصار شديد إلى عدد من الجوانب، ذات الصلة والأهمية أيضا، ومن أبرزها ما يلي: أولا: أنه لا بد من الاعتراف بأن العالم شهد أيام هلع واضطراب في الأسابيع الأخيرة، ليس فقط بسبب سرعة انتشار الفيروس في الصين، وانتقاله منها إلى دوائر تتسع باستمرار من حولها، ولكن أيضا بسبب عدم توفر معلومات كافية وموثوق فيها بشأن الفيروس الجديد، وعدم توفر أدوية محددة لعلاج المرض، بحكم أنه زائر جديد، تحور من سلالات سابقة من الإنفلونزا، ولم يسبق التعامل معه، وكانت أرقام الوفيات المتصاعدة بمثابة جرس إنذار وتحذير متواصل ومتجدد لكل الدول حول الخطر الذي يحمله هذا الفيروس للأطفال وكبار السن وذوي الأمراض المزمنة، حيث إنهم الأكثر عرضة للإصابة والوفاة أيضا سبب المرض. وبينما بدأت تهدأ حالة الهلع الواسعة النطاق تلك، لأسباب متعددة، إلا أنه ترتب عليها في الواقع عدة آثار من أهمها الهرب إلى «الوطنية» والاستنجاد بها، والميل إلى الانغلاق على الذات، بإغلاق الحدود مع الآخرين، ووقف الرحلات الجوية والبرية والبحرية، وحتى وقف شحنات التجارة والسياحة وغيرها، باعتبار ذلك من الإجراءات الوقائية الضرورية حسبما بررها الساسة والمسؤولون في العديد من الدول، ووصل الأمر إلى حد إعلان الإغلاق ووقف الرحلات الجوية مع دول عدة من جانب واحد ودون تنسيق أو تشاور كما فعل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الأسبوع الماضي بوقف الرحلات الجوية من أوروبا -باستثناء المملكة المتحدة- إلى الولايات المتحدة، وهو ما احتج عليه الأوروبيون ورفضوه، ولكن دون جدوى.
والآن تحول العالم بالفعل إلى جزر منعزلة إلى حد كبير، فقد ارتفعت الأسوار بين الدول، على نحو غير مسبوق بالفعل. غير أن السؤال الذي يفرض نفسه بشدة، هو هل سيؤدي هذا الإغلاق والتحول إلى جزر منعزلة إلى احتواء الفيروس، والنجاح في مقاومته والتغلب عليه؟ أم انه يمكن أن يؤدي إلى تفاقم انتشار الفيروس في عدد من تلك الجزر المنعزلة - عفوا الدول المغلقة - وتحول بعضها إلى بؤر انتشار للمرض بغير أن تقصد، وذلك نظرًا لضآلة أو عدم كفاية التجهيزات الطبية، أو وسائل الوقاية، أو قلة الوعي، أو عدم استجابة المواطنين بشكل أو بآخر في بعض تلك الجزر، خاصة وان الإمكانات المادية، والتقنية والتدريبية والطبية والصيدلانية ستلعب دورًا بالغ الأهمية في تحديد قدرات الجزر المختلفة في التعامل مع المرض وفاعلية الوقاية منه والتغلب على آثاره.
واذا كان الشعور بالخطر أو ازدياده، يكشف عادة مشاعر الأنانية عند الأفراد، وكذلك الدول، فكل حكومة تضع مسؤوليتها عن إقليمها وشعبها في المقام الأول بالطبع، فإن الخوف هو أن حالة الإغلاق الواسعة الانتشار التي جرت في الأيام الأخيرة يمكن أن تدمر امكانات التنسيق والعمل المشترك للتعاون في مواجهة الفيروس الضعيف والشرس في الوقت ذاته. نعم، وقف العالم يتفرج على الصين في بداية انتشار الفيروس فيها، ولم تسلم من اللوم والانتقاد، والاتهام بل والشماتة أحيانًا، ولكن بعد ظهور خطورة المرض، وبعد جهود مضنية وصبر كبير ومتواصل من جانب الصين، تغيرت نظرة الكثيرين إلى هذه الدولة العملاقة، التي بدأت تزود العالم ببعض خبراتها في مقاومة الفيروس وفي البحث عن علاج له أيضا.
وإذا كانت قد راجت بعض الشائعات حول ملابسات انتشار الفيروس في مدينة ووهان الصينية، وصدرت بعض التلميحات، التي اختفت سريعا، بشأن نظرية المؤامرة، ومن ثم عدم استبعاد أن يكون الفيروس جزءًا من إحدى أدوات الحرب البيولوجية، إلا أن خطورة تلك الشائعات والتلميحات، والآثار التي قد تترتب عليها في عالم اليوم يقتضي استبعادها والتخلي عنها بوعي؛ لأن فتح المجال أمامها -مهما كانت دوافعه- من شأنه أن يوقع العالم في نفق خطير قد لا ينجو منه أحد، لا قدر الله، خاصة وأن اتفاقيات تحريم استخدام الأسلحة الكيماوية والبيولوجية هي من أوائل الاتفاقيات التي عرفها العالم بعد سنوات قليلة من انتهاء الحرب العالمية الأولى.
وفي هذا الإطار أيضا فإنه من الخطر الاستخفاف بتسييس انتشار الفيروس على أي نحو أو على أي مستوى، خاصة وانه فيروس عابر للحدود ولا ينتظر إذنا ولا تأشيرة دخول لينتقل بين الدول والقارات.
ثانيا: انه ليس من المبالغة في شيء القول إن انتشار فيروس كورونا سيترتب عليه الكثير من الخسائر الاقتصادية والمالية والاجتماعية بالتأكيد وعلى امتداد العالم.
ومع الوضع في الاعتبار ان خبراء وكالة أنباء « بلومبيرج» الاقتصادية الأمريكية، قدروا أن خسائر الاقتصاد العالمي قد تصل إلى 2.7 تريليون دولار، مع نهاية العام، وهو رقم ضخم بكل تأكيد إلا أن التفكير المتأني في ما سببه انتشار الفيروس خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة وما يمكن أن يحدث خلال بقية العام الحالي، يجعل من ذلك الرقم احتمالا واقعيا إلى حد كبير. صحيح أن الأسهم في البورصات العالمية تأرجحت خلال الأيام الماضية، بين انخفاضات حادة غير مسبوقة منذ الأزمة العالمية عام 2008، واستعادة لبعض الخسائر، كما انهارت أسعار النفط بنحو 50 % بين ديسمبر الماضي ومارس الجاري، بكل ما يترتب على ذلك من خسائر للدول المنتجة للنفط، والمعتمدة على عائداته، وفي مقدمتها دول الخليج العربية، غير أن الصحيح أيضا هو أن الأموال التي خصصتها بعض الدول الأوروبية والولايات المتحدة، وكذلك صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لمساعدة المشروعات المتوسطة والصغيرة، والدول الضعيفة اقتصاديا، والقطاعات المتضررة في الدول الغنية، وحتى المتوسطة الدخل تقترب من تريليون دولار تقريبا، منها 550 مليار دولار في ألمانيا، و50 مليارًا في الولايات المتحدة و50 مليارًا من جانب صندوق النقد الدولي و12 مليار دولار من جانب البنك الدولي، ومئات المليارات من جانب بريطانيا ودول أوروبية أخرى، وهو ما يعكس بوضوح المخاطر المحدقة بالاقتصاد العالمي، والمخاوف من احتمال معاناة الاقتصاد العالمي من موجة من الركود، يسعى الجميع بكل جهده لتجنبها، بسبب مخاطرها العديدة على كل الأطراف.
ومع الوضع في الاعتبار أن موجة الفيروس الضعيف في حد ذاته، والشرس في حالة تمكنه من المصابين به، لم تنته بعد، وانه من المأمول خلال الأسبوعين أو الأسابيع القادمة إمكان احتواء انتشار المرض، وتحديد مواقع انتشاره والتركيز عليها بشكل أو بآخر، على أوسع نطاق ممكن، فانه من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن الفترة من ديسمبر الماضي حتى الان كشفت بوضوح أهمية وقيمة ومركزية الصين في الاقتصاد العالمي في الوقت الراهن، ليس فقط لأن الصين استطاعت بصبر وتركيز وإرادة أن تجمع في يدها معظم سلاسل الإمداد الصناعي والتقني في عالم اليوم وعلى نحو لم يستشعره العالم كما اكتشفه في الأشهر الأخيرة.
ومع أن لهذا الوضع أسبابه الموضوعية والإرادية من جانب الصين، التي هرع إليها العالم بقطاعاته الإنتاجية والابتكارية والتقنية لرخص القوى العاملة فيها ولتطورها التقني، ولكفاءة إدارتها لسلاسل الإمداد المختلفة، فإن توقف الكثير من الصناعات المغذية في مجالات السيارات والطائرات والأدوية والاتصالات والتليفونات الذكية وحتى المنتجات الزراعية والغذائية وغيرها، يدفع عددا غير قليل من الأطراف الدولية إلى ضرورة التفكير في هذا الوضع والعمل على تعديله بشكل أو بآخر، ويختلف ذلك بالطبع عن دعوة ترامب للمصانع الأمريكية العاملة في الصين إلى العودة للأراضي الأمريكية، فهذه الدعوة لها أسبابها ودوافعها الخاصة بها والمرتبطة بدرجة كبيرة بالانتخابات الرئاسية الأمريكية القادمة، ورغبة ترامب في الفوز فيها بأي ثمن.
والمرجح إلى حد بعيد أن مجموعة العشرين ومجموعة الدول السبع الصناعية الكبرى ستهتم بقضية مركزية الصين في الاقتصاد والتجارة العالمية خلال الفترة القادمة.
وليس مصادفة أن الصين التي تدرك قيمة دورها في الاقتصاد العالمي، تعمل بشكل جاد على إعادة تشغيل المصانع واستئناف خطوط الإمداد التي توقفت، ليس فقط للحد من خسائرها وخسائر العالم من حولها، ولكن أيضا لطمأنة العالم بأنها مدركة لمسؤولياتها التجارية والاقتصادية بالنسبة للعالم وانها تعمل على الوفاء بها خدمة للمصالح المشتركة بينها وبين العالم من حولها. وليس صدفة أن يخصص البنك المركزي الصين نحو 173 مليار دولار لتخفيف الآثار التي ترتبت على فيروس كورونا فيها ولإعادة وتدوير عجلة الاقتصاد بشكل أفضل. ثالثا: انه في الوقت الذي لم يتوقف فيه فيروس كورونا عن الانتشار في أرجاء العالم فان تطورات الأشهر الثلاثة الأخيرة كشفت بوضوح أهمية وضرورة الدور الذي تقوم به المؤسسات العالمية، مثل: منظمة الصحة العالمية، بل والحاجة الحقيقية إلى دعم هذا الدور ومساندته لصالح مختلف الدول والشعوب، وخاصة الدول الأقل قدرة اقتصادية في عالم اليوم. وإذا كان من المأمول أن يتراجع الرئيس الأمريكي عن عزمه على تقليل المساهمة الأمريكية في ميزانية منظمة الصحة العالمية من 135 مليون دولار إلى 58 مليون دولار فقط اعتبارا من العام القادم، فإن دعم منظمة الصحة العالمية وزيادة قدراتها يحتاج إلى تعاون وتضامن الدول المختلفة، حتى تتمكن المنظمة من القيام بدور أكثر وأعمق في متابعة الأمراض والأوبئة والحد من فرص انتشارها، وتقديم الاستشارات الضرورية للدول المختلفة للتعامل الصحيح معها وفي الوقت المناسب أيضا. ومن جانب آخر فان التعاون الجاد والحقيقي بين الدول المختلفة، سواء لمواجهة فيروس كورونا، أو اي جائحة أخرى، لا قدر الله، قد يتعرض لها العالم، هو سبيل لا غنى عنه، لا اليوم ولا غدا، وإذا كان الانغلاق والتحول إلى جزر منعزلة قد تم الأخذ به لاحتواء انتشار فيروس «كوفيد 19» فإن التعاون بين السلطات الصحية والمسؤولة في الدول المختلفة يعد ضرورةً لنجاح جهود التصدي للفيروس والتغلب عليه، ولذا فان اتفاق وزراء الصحة في دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية لتشكيل غرفة عمليات مشتركة وتبادل المعلومات فيما بينها حول الفيروس والمرحلة التي وصل إليها وافضل السبل لاحتوائه، هو خطوة في الاتجاه الصحيح، حتى يبرأ العالم من هذه الجائحة التي تؤثر بشكل حقيقي على دول وشعوب العالم اقتصاديًا وماليًا واجتماعيًا ونفسيًا كذلك وعلى نحو يتجاوز الكثير من التوقعات للأسف الشديد، وهو ما يتطلب ضرورة تعاون الحكومة والمواطنين والمقيمين في السلطنة وغيرها، والى أقصى مدى ممكن لمواجهة تلك الآثار باعتبارها مسؤولية جماعية في النهاية.