الملف السياسي

مؤشرات الأزمة الاقتصادية ودور قوى العرض والطلب

16 مارس 2020
16 مارس 2020

صلاح أبو نار -

في الأسبوعين الرابع من فبراير والأول من مارس دخل وباء كورونا المستجد، أو كوفيد 19 كما استقرت منظمة الصحة العالمية على تسميته، مرحلة جديدة من تطوره. فلقد أخذت بؤرة الفيروس الصينية في التراجع بشكل حاد، بينما أخذ الفيروس في الاتساع المتفاوت على امتداد العالم خالقا معه بؤر تركز جديدة، لا تزال أقل كثافة من البؤرة الصينية لكنها مرشحه للتصاعد. وفى توسعته هذا حمل معه تداعياته الاقتصادية الوخيمة، التي يمكن أن تدفع بالاقتصاد العالمي إلى موجة تراجع لا يعرف مداها أحد.

أصدرت منظمة الصحة العالمية تقرير متابعتها اليومي الأول في 21 يناير، الذي سجل وجود 282 إصابة منها 278 في الصين وأربع إصابات في تايلاند وكوريا الجنوبية واليابان، تتابع ظهورها على مدى الفترة من 31 ديسمبر 2019.

وحتى 14 فبراير كان عدد إصابات الصين 49,053 ووفياتها 1381، بينما كان عدد الإصابات خارج الصين 505 والوفيات 2 موزعة على 24 بلداً. ومن 21 فبراير ستبدأ التحولات المشار إليها. ففي هذا التاريخ كان عدد إصابات الصينية 75,769، بزيادة 894 عن اليوم السابق، ووفياتها 2,239. بينما كان عدد الإصابات خارج الصين 1,200، بزيادة 127 عن اليوم السابق، والوفيات 26 وفية، موزعين على 26 دولة. وسوف تستمر الإصابات والوفيات الصينية في التصاعد ولكن بمعدلات أقل كثيراً. ففي 11 مارس كان عدد الإصابات الصينية 80,955، بزيادة 13 فقط عن اليوم السابق، والوفيات 3,162. كما سوف تستمر الإصابات والوفيات خارج الصين في التزايد ولكن بوتيرة شديدة الارتفاع وعلى نطاق جغرافي أوسع. ففي 11 مارس وصلت الإصابات خارج الصين إلى 37,371، بزيادة 4.596 عن اليوم السابق، والوفيات إلى 1,130، موزعين على 113 بلدا. ولدينا وقائع تمنحنا دلالات قاطعة على هذا التحول. فيما بين 29 فبراير و11مارس ارتفع عدد الإصابات الإيطالية من 888 إصابة إلي 10,149 والوفيات من 21 إلى 631، وبالتوازي مع ذلك أعلنت السلطات في 4 مارس إغلاق كل الجامعات والمدارس، وفي 8 مارس فرضت الحجر الصحي على مدن في شمال إيطاليا يصل عدد سكانها إلى 16 مليونا، وفى 12 مارس أغلقت كل المحلات فيما عدا محلات الأغذية والإجزاخانات. وفى المقابل شهدت الصين في 10 مارس وقائع من نمط آخر.

سجلت منظمة الصحة العالمية 17 حالة جديدة فقط في مقاطعة هوبى بؤرة الوباء، وذهب الرئيس الصيني بنفسه إلى ووهان عاصمة هوبي وزار مستشفياتها، معلنا للعالم سيطرة الصين على الفيروس.

ولكن ينبغي التوقف لأبداء ملاحظة مهمة يتسم الاتساع الديموغرافي لإصابات الفيروس حتى الآن بالتفاوت الشديد. من ضمن 113 بلدا ظهر فيها الفيروس يوجد 93% منها في أربع دول فقط، مقابل 18 دولة توجد بها حالة واحدة و9 دول بها حالتان فقط. والحاصل: لدينا الآن خميرة لانتشار الفيروس على نطاق عالمي واسع، ولكن هذا ليس كافيا للجزم أننا سنواجه انتشارا عالميا كثيفا أو اختصارا: جائحة، لأن الوصول إلى تلك المرحلة متوقف على عوامل أخرى عديدة ومتداخلة.

ويمكننا رصد التداعيات الاقتصادية السلبية لهذا المسار عبر ثلاث مؤشرات.

سنجد المؤشر الأول في توقعات النمو الاقتصادي لعام 2020.

في 2مارس أصدرت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية تقريرا بعنوان: « فيروس كورونا: الاقتصاد العالمي في مواجهة الأخطار»، تناول توقعات النمو الاقتصادي في ظل تأثير الوباء بافتراض: وصول الوباء لذروته في الصين خلال ربع العام الأول، وانتشار معتدل قابل للاحتواء خارج الصين. في عام 2019 حقق معدل النمو العالمي 2,9%، ومن المتوقع انخفاضه إلى 2,4% في 2020. وبالتوازي مع ذلك توقعت انخفاض معدل نمو العشرين الكبار من 3.7% إلى 2,7%، والمنطقة الأوروبية من 1.2% إلى 0,8%، وألمانيا من 0,6% إلى 0,3% وفرنسا من 1,3% إلى 0,9%، وإيطاليا من 1,6% إلى صفر، وكندا من 1,6% إلى 1,3%، واليابان من 0,7% إلى 0,2%، وأمريكا من 2,3% إلى 1,9%، والصين من 6.1% إلى 4,9%.

وسنجد المؤشر الثاني في تقلبات أسعار البورصات العالمية. في أعقاب نهاية إجازة رأس السنة القمرية في الصين، هبط مؤشر داو جونز من 603 نقاط إلى 350 نقطة، وهبط مؤشر بورصة شنغهاي المركزي بنسبة 8%. وفى نهاية الأسبوع الأخير من فبراير هبطت مؤشرات البورصة الأمريكية الثلاث الأساسية 10% بالمقارنة بأول فبراير.

وفى أوروبا هبط مؤشر الفايننشيال تايمز 3%، ومؤشر أس أند بيه إلى 0,8%. وبصفة عامة رصد المعلقون فقدان الأسهم العالمية ما قيمته 1,5 تريليون دولار خلال أواخر فبراير. وسوف نجد المؤشر الثالث في انهيار أسعار النفط. ساهم التباطؤ الاقتصادي الناتج عن الفيروس في انخفاض الطلب على النفط، وهكذا تنبأت منظمة الطاقة العالمية في منتصف فبراير بهبوط الطلب النفطي لأدنى معدلات نموه منذ 2011. وانعكس هذا بقوة على أسعار النفط. في نهاية الأسبوع الأول من يناير كان سعر برميل النفط 63,68 دولاراً، و أخذ يهبط ليصل إلى 50.28 في 10 فبراير، ثم واصل الهبوط ليصل إلى 47,91 في 4 مارس. وفى 5 مارس انعقد مؤتمر الأوبك الطارئ في فيينا، من أجل تخفيض العرض منعا لتواصل تدهور الأسعار. وهناك اتفق الأعضاء على تخفيض عرض النفط بمقدار 1,5 مليون برميل يوميا، وهو قرار كان سيؤدي إلى تخفيض الإنتاج لأدنى مستوياته منذ حرب العراق. ولتنفيذ القرار كان لابد من الاتفاق مع روسيا حليف أوبك الأكبر، ولكن روسيا رفضت سياسة التخفيض بذريعة أنها ستؤدي لفتح الأسواق أمام النفط الصخري الأمريكي ومنحه إمكانيات أكبر للنمو. وجاء رد الفعل السعودي عصياً على الفهم، إذ قررت في 8 مارس زيادة إنتاجها وتخفيض سعر نفطها فيما بين 6 – 8 دولارات للبرميل. وعلى الفور هبطت الأسعار، ليصبح سعر النفط الخام 31.13 للبرميل، وخام برينت 33,36 للبرميل. ومع الهبوط اهتزت أسواق المال عامة، وهبطت أسعار أسهم شركات الطاقة مثل اكسون موبيل وشيفرون بنسبة 9%، وشركات التنقيب بنسب تتراوح بين 30 و40%.

ما هي العوامل الأساسية التي تولدت من قلب أزمة الفيروس وخلقت معها المؤشرات السابقة؟

يمكننا تحليل تلك العوامل على مستويين: قوى العرض وقوى الطلب. وإذا أردنا أن نفهم بدقه تأثير تلك العوامل علينا وضعها في سياقاتها الأعم. فلقد انطلقت الأزمة من قلب اقتصاد صيني يشكل 17 % من الدخل العالمي و22% من الصناعة العالمية و10% من تجارة العالم و9% من سياحته، ومندمج بكثافة في سلاسل القيمة العالمية. وكل ذلك يعني أن الصين صاحبة أكبر طلب للنفط في العالم، ولديها أوسع أسواق العالم وطبقاته الوسطى، والمنبع الأول للسياحة العالمية.

كما أن الأزمة انطلقت في سياق تدهور الثقة في الاقتصاد الصيني بفعل تراجع معدلات نموه والحرب التجارية مع الولايات المتحدة. أخيراً انطلقت في سياق تراجع معدل نمو الناتج المحلي العالمي من 3,5% عام 2016 إلى 2,8% عام 2019، وتزايد في مديونية الدول والشركات يقلل من قدرتها على الاستجابة لها، وتراجع في معدلات الفائدة يقلل من حوافز البنوك المركزية لتقديم القروض لمتضرري الأزمة.

جاءت الأزمة معها بتراجع حاد في قوي العرض، انطلق من توقف حركة الإنتاج الصيني في قطاعات واسعة منه، وتراجع إنتاج شركات عالمية تعتمد على الصين في صناعة بعض مكونات إنتاجها، والعرقلة التي واجهتها خطوط المواصلات الصينية الخارجية وأعاقت تواصلها الاقتصادي مع الخارج. كما جاءت الأزمة بتراجع حاد في قوى الطلب، ناتج عن شلل الحركة الذي فرضته عمليات العزل الصحي واسعة النطاق، والإغلاق الاقتصادي للآلاف من منافذ العرض والبيع، والتراجع الحاد في السياحة العالمية مع عمليات الحجر الصحي والإلغاء المكثف لرحلات الطيران، وحالة عدم الثقة التي سيطرت على قطاع واسع من المستهلكين. والأمر المؤكد أن المجتمع العالمي سيتمكن من تجاوز هذه الأزمة ونتائجها الاقتصادية. إلا أن أثارها النهائية سوف تتوقف علي عدة عوامل. منها توقيت النجاح في الوصول إلى مصل يحمي من انتقال الفيروس، والقدرة على إنتاجه بشكل واسع وطرحه بأثمان اقتصادية في مقدور الدول الفقيرة. ومنها القدرة على الإحاطة بانتشار الفيروس خلال تلك الفترة التي تفصلنا عن إنتاج لقاحه المانع، عبر نسق إجرائي وتقني أوسع وأعمق من ممارسات الحجر الصحي باهظة التكلفة اقتصاديا. ومنها مستوى التعاضد الدولي في مواجهة الفيروس، والذي من شأنه أن يدعم الدول ذات نظم الرعاية الصحية المتخلفة أو محدودة الموارد، ويخلق سيولة مطلوبة في تبادل الخبرات. ومنها درجة اليقظة الحكومية في المواجهة والشفافية في التعامل مع الأخطار والقدرة على تعبئة طاقات المشاركة الاجتماعية الواسعة. وفى النهاية نسق وجدوى السياسات الحكومية المتبعة في مواجهة الآثار الاقتصادية داخل قطاعات المنتجين وبالتحديد فئاتهم الوسطى والصغيرة.