أفكار وآراء

على أوروبا تَبنِّي طريقة جديدة للعمل السياسي

15 مارس 2020
15 مارس 2020

فيليب ستيفنز- الفاينانشال تايمز -

ترجمة:قاسم مكي -

حدث تحوُّل في السياسة. وصار باطنُها ظاهرَها. فأوروبا تقول وداعًا لسياسة نظام الحزبين التي شكَّلت أنظمتها الديمقراطية.

لقد تشظَّت تفضيلات الناخبين واختياراتهم. لذلك صار من الضروري الآن، وعلى نحو ما، إعادة تجميع الائتلافات التي كان يتم احتواؤها داخل أحزاب يمين الوسط ويسار الوسط المتنافسة خارج هذه الأحزاب. كذلك يلزم الآن التفاوض حول المساومات الحزبية التي تبرم في الغرف الخلفية علنا وعلى مرأى من الناس. ويبذل القادة السياسيون قُصَاراهم للتواؤم (مع هذا الوضع الجديد).

بالطبع لدى أوروبا دائما ما يزيد عن حصتها من الحكومات الائتلافية. والاختلاف هو أن هذه الحكومات، مع استثناءات بين الفينة والأخرى، تلعب دور «الباب الدوار» لحزبين مهيمنين على الساحة السياسية.

تؤكد نتيجة الانتخابات في أيرلندا هذا الاتجاه الجديد إذا كانت هنالك حاجة إلى دليل. فطوال 90 عامًا هيمن على السياسة في جمهورية أيرلندا حزبان ظهرا بعد الحرب الأهلية هما «فيانا فول «و» فينه جيل». ظل هذا الحزب أوذاك، وفي الغالب فينه جيل، الشريك الرئيسي في كل حكومة منذ أعوام العشرينات.

لكن هذا التوازن انقلب رأسا على عقب بفوز حركة شين فين في آخر انتخابات. إن إيرلندا تسلك طريقا مطروقة جيدا.

وفي فرنسا تمتلك الأحزاب الجمهورية الاشتراكية ويمين الوسط وأسلافها «ملكية عين» كلا من الرئاسة والجمعية الوطنية. لكن في عام 2017 فاز إيمانويل ماكرون بقصر الأليزيه منذ بداية السباق الرئاسي وهيمنت حركته، حركة الجمهورية إلى الأمام، التي تشكلت في عام 2016على الجمعية الوطنية.

والاحتمال الراجح أن زعيمة الحزب القومي اليميني المتطرف مارين لوبان ستكون، كما في عام 2017، منافسته الرئيسية في انتخابات 2022.

وفي ألمانيا تقلص تأييد الحزب الديمقراطي الاجتماعي (يسار الوسط) بحوالي النصف تقريبًا إلى 20% منذ بداية القرن الحالي.

كان أداء الديمقراطيين المسيحيين (يمين الوسط) أفضل. لكن رغم ذلك حدث انخفاض في حصتهم من الأصوات إلى ما يزيد قليلا عن 30%. ولم يسبق أبدا أن هبطت نسبة التصويت لهم في الانتخابات حتى أعوام التسعينات إلى أقل من 40%. ويفسر الخوف من المزيد من التدني في نسبة الناخبين المؤيدين للديموقراطيين المسيحيين انسحابَ أنيغريت كرامب- كارينباور من خلافة المستشارة أنجيلا ميركل.

في إسبانيا، فاز الاشتراكيون (حزب العمال الاشتراكي) والحزب الشعبي (يمين الوسط) بحوالي 80% من أصوات الناخبين في عام 2000. لكن أدى ظهور حزب بوديموس (أقصى اليسار) ومؤخرًا جدا حزب فوكس (يميني متطرف) إلى انخفاض تلك النسبة إلى 49% في انتخابات العام الماضي.

هذا النمط (التصويتي) ليس عاما في أوروبا. ففي بعض البلدان مورست السياسة على أساس أنظمة متعددة الأحزاب وتجربة إيطاليا فريدة في هذا الصدد.

في بريطانيا شهد النظام الانتخابي الذي «يأخذ فيه الفائز كل شيء» تشظيا على الصعيد الوطني وليس الأيديولوجي. فالمحافظون والعمال، وهما الحزبان الرئيسيان على مستوى المملكة المتحدة، يحوزان فيما بينهما على سبعة مقاعد فقط من بين 59 مقعدًا في اسكتلندا.

أحزاب يسار الوسط هي الأكثر معاناة من التشظي أو التبعثر الذي أفقدها أصواتا لمصلحة القوميين في اليمين والأحزاب ذات النزعة اليسارية تاريخيا مثل الخُضر (أنصار البيئة).

الخيط أو الرابط المشترك هنا هو تشتت ما كان في السابق تصويتا متجانسا من جانب الطبقة العاملة. لقد فَصَلَت العولمة، وكذلك التقدم التكنولوجي، مَن لا يزالون يتمتعون بتوظيف آمن ومحروس بالنقابات عن أولك الذين تقطعت بهم السبل إلى الوظيفة وتهمَّشوا بسبب التغيير. وهؤلاء الأخيرون هم الذين فاتهم الرَّكب وأيدوا «الشعبويين».

كانت السياسة القديمة التي تم ترتيبها حول الحزبين مستقرة بطبعها. فهزيمة يمين الوسط تعني انتصار يسار الوسط والعكس صحيح. وكان انتقال السلطة سلسًا وبلا تعقيدات. وكانت الحاجة إلى الانضباط الحزبي تضع قيودًا على التوترات التي لا يمكن تجنبها بين مختلف المجموعات الحزبية وجماعات المصالح داخل كل ائتلاف. وكان يتم عقد أية صفقات قذرة بعيدًا عن أعين الناخبين.

تبدو السياسة الجديدة والمتشظية غير مستقرة بطبعها. فبناء ائتلافات متعددة الأحزاب يستلزم من الساسة إجراء تسويات والإقرار بأنهم يتخلون عن سياسات كانت جزءًا من برنامجهم الانتخابي.

ومن هنا جاءت التوقعات بأنه سيلزم انقضاء أشهر قبل أن تجد أيرلندا ائتلافا حاكما وأيضًا الإيحاءات بأن الحل قد يكون إجراء انتخابات ثانية. ويقول البعض من الأفضل أن يكون هنالك عدم استقرار بدلا من التسويات.

لكن هنالك طريقة أخرى للنظر إلى هذا المشهد الجديد والمتشظِّي. العنصر المفقود والأكثر تفسيرًا للتوترات والضغوط في السياسة الأوروبية هو الثقة. فهنالك عدد أقل من الناخبين ممن يقبلون بالتمسك بولاءاتهم القبلية في عالم صارت فيه الوعود السياسية بلا قيمة. إنهم أكثر انجذابًا للأحزاب الجديدة والصغيرة والتي غالبًا ما تمثل، كما هي حال أحزاب الخضر، قضية واحدة أو قضيتين من القضايا الكبرى.

من هذه الزاوية، تتيح الشفافية التي يتطلبها بناء الائتلاف متعدد الأحزاب فرصة لاستعادة الثقة.

فالرسالة التي تبعث بها أحزاب الائتلاف للناخبين ستكون كالتالي «هذا ما اقترحناه في بياننا السياسي. وهذه هي التغييرات التي نحن على استعداد لإجرائها كي نتواءم مع برامج الآخرين الانتخابية».

لن يكون هذا سهلا لسياسيين اعتادوا على العمل في الخفاء. لكني أخمِّن أنهم سَيُدهَشون من رد الفعل. فالناخبون يحبون الصراحة تماما ولهم القدرة التامة على مكافأة من يصارحونهم بالحقيقة. على أية حال ليس لدى الساسة خيار حينما يكون البديل عدم استقرار مزمن وتكرارا للانتخابات.

يمكن أن يكون التَّشَظِّي مصدرًا للاستقرار. فنيوزيلندا تخلَّت بوعي منها عن السياسة المرتكزة على الحزبين في أوائل التسعينات وفضَّلَت نظامًا انتخابيًا صُمِّمَ لإفساح المجال للأحزاب الصغيرة. ترافقت مع ذلك التغيير توقعات متشائمة من الحرس القديم بأن البلد سيستحيل حكمها. بالعكس. فقد مرَّ على نيوزيلندا أربعة رؤساء وزارة منذ عام 2000 بمن فيهم رئيس الوزراء الحالي. وهذا عدد أقل قياسًا ببريطانيا على سبيل المثال. والتي يسود فيها نظام الحزبين.