1455074
1455074
إشراقات

العدالة ترسي الأمن النفسي والاقتصادي وتبعث الطمأنينة والسكينة في المجتمعات

12 مارس 2020
12 مارس 2020

منهج حياة -

د. ناصر بن علي الندابي -

«الإسلام وضع منهج حياة يجب على البشرية أن تسير عليه لتنجو من هذا التخبط في القوانين التي يضعونها بغية بلوغ العدالة والحياة بعزة وكرامة، حيث وضع لكل جزء في الحياة منهجا ينبغي أن يسلكه الإنسان، ووضع الإسلام الأسلوب الذي ينبغي أن يتعامل به الناس مع رب الناس، والمنهج الذي ينبغي أن يتعامل به الإنسان مع الإنسان، ومن هذا المنطلق فلا داعي أن نبحث عن منهج العدالة الاجتماعية مع الفلاسفة ولا مع المفكرين الذين يدعون أنهم جاؤوا بما لم يأت به الإسلام».

حينما بزغ نور الإسلام على شبه الجزيرة العربية كان العرب يعيشون في طبقية اجتماعية وضعوها من أنفسهم لم يأت بها دين ولم ينزل بها وحي، وعاش الناس واستمرأوا هذه الحياة وأصبحت جزءا لا يتجزأ من منظومة المجتمع القبلي العربي، ولقد ذاقت الطبقة الضعيفة مرارة تسلط الطبقات العليا عليها، فقد كانوا يعيشون على هامش الحياة، وليس لهم أدنى اعتبار، بل كانوا يعدون من سقط المتاع، بل بلغ الأمر أن يكون الإنسان حاله كحال تلك السلعة التي تعرض في السوق فيساوم عليها الناس ويبيعونها ويشترونها.

صحيح أن المجتمعات العربية لم تنحط إلى ذلكم الحظيظ الذي انحطت إليه المجتمعات التي كانت حولها كالمجتمع الهندي الذي عرف التمايز بين طبقاته، وغدا هذا الأمر منهجا لا يمكن أن يتصوره إنسان اليوم، وقعدت على هذا المنهج قواعد جعلت بين كل طبقة وطبقة فوارق غريبة لا يكاد يصدقها عقل ويستوعبها قلب، وكذلك المجتمع الفارسي الذي عرف الخضوع التام لحاكمه الذي كان ينظر إلى من سواه بأنهم خدم له وما خلقوا إلا لرعايته وتوفير كل ما يحتاجه من مطعم وملبس ومسكن، وهو النظام نفسه الذي هيمن على الحضارة الرومانية فجعلت القيصر كل شيء في حياة البشر، ولولا بقاء شيء من الديانة النصرانية بينهم لجعل القيصر إلها يعبد من دون الله.

وظل المجتمع العربي والمجتمع الغربي يرزح تحت وطأة هذا الظلم المجتمعي الذي لا يعرف للعدالة سوى اسمها، ولم يبصر المجتمع العربي ويخرج من هذا الظلام الدامس إلا حينما شع نور الإسلام وظهر نبي الهداية والعدالة والسلام محمد صلى الله عليه وسلم.

وكلنا يعلم أن الذي اتبع النبي عليه السلام في بداية عهده هم أولئك الضعفاء البسطاء الذين رأوا في هذا الدين تخليصا لهم من الرق والعبودية وبدا لهم ذلكم المستقبل الذي ينشده والهدى الذي يدعو إليه، يقول المولى عز وجل في كتابه العزيز :(فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ».

وأما أصحاب المناصب والطبقات والأموال والأولاد فلم يدخلوا في الإسلام مغترين بما هم عليه من وضع اجتماعي راق في نظرهم: «وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ» وظل هذا النهج إلى أن تبين لهم الحق ووضحت لهم الحجة الناصعة التي تبصرهم بأن ما هم فيه من تكبر وغطرسة لا يساوي شيئا وأن ما هم عليه لا يمكن أن يكون مقياسا لتباين بينهم وبين الطبقات الأخرى التي تعيش بينهم.

ولقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في هذه العدالة فلم يكن يميز نفسه عن سائر المسلمين ولم يعط أقاربه شيئا لكونهم أقاربه بل أعلنها وبكل صراحة أمام الناس وأمام أهله قائلا: «وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» كلمات وضعت حدا لكل السنين التي مضت والتي تغطرس فيها الحاكم بداعي السياسة أو بداعي الدين.

ولما جاء الإسلام دحر كل هذه النظريات وأزال كل هذه الترهات ووضع لهم منهجا لا يعرف فيه التفرقة ولا يميز فيه فرد على فرد إلا بمدى قربه من الله عز وجل، وأوضح تلك الإنسانية التي تجمع البشر وأن الله خلقهم أحرارا، وحينما دغدغ الإسلام مشاعر الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب وعرف كنه هذا الدين وأسه وأساسه قال مخاطبا واليه على مصر: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا».

فنشر المسلمون هذا الخير على الناس، فنعمت الإنسانية ردحا من الزمن بطعم العدالة، التي جعلت من الناس تنظر إلى الحاكم على أنه إنسان لا يفرق بينهم وبينه شيء سوى تلك المسؤولية العظمى التي أوكلت عليه، وعليه أن يقوم بها خير قيام، وأن يخدم الناس فيما يحتاجون وأن يتابعهم ويسعى لراحتهم وأمنهم وأمانهم.

وتلك القصة التي حدثت في عهد الخليفة عمر بن الخطاب تدل دلالة قوية على فهم الناس هذا الأمر، فحينما صعد الخليفة المنبر ليخطب في الناس نظروا فإذا هو يلبس لباسا من قطعتين، وقد قسم تلك القطع بين الناس كل فرد قطعة، فلما هو يمتلك قطعتين من دون الناس، لما ميز نفسه، من الذي حل له أن يأخذ قطعتين ويعطي الناس قطعة واحدة، وما إن طفق يخطب في الناس قائلا يا أيها الناس اسمعوا وأطيعوا قال قائلهم لا سمع لك ولا طاعة، فما كان من عمر سوى الصمت، ثم قال له لما يا أخ الإسلام؟، فأوضح له الظلم الذي ارتكبه في أخذه لنفسه قطعتين من الملابس، فلم يجب عمر بشيء وإنما أشار إلى ابنه أن يتحدث بدلا عنه، فقال الابن: يا أيها الرجل القطعة الثانية التي على ظهر عمر هي نصيبي أعطيته إياها لأن قطعة واحدة لا تكفيه، فقال ذلكم الرجل الآن سمعا وطاعة. فيالله كم هي عدالة الإسلام رائعة حينما يستطيع الفرد في الدولة أن يحاسب الحاكم فيما يترك وفيما يعمل، وحتما يعلم أنه مسؤول عن كل التصرفات التي تصدر من حاكمه وأن عليه أن يكون عونا له في تطبيق شرع الله وأن لا يخشى في الله لومة لائم. وظل العالم الإسلامي يسير على هذا المنوال إلى أن بدأ يهوي إلى حفرة الطبقية ويبتعد عن منهج الحق، وبدأ المسلمون يركنون إلى الدنيا ويرون أن المال والمنصب والجاه هو سبب لأن يجعل الفرد متميزا عمن سواه.

وفي ستينيات القرن المنصرم وبعد أن ذاق الغرب ويلات الحروب ومات جراء تلك الصراعات ملايين البشر ووجدوا أنفسهم أنهم تائهون في عالم لا يعرف للإنسانية أدنى حق، ولا يبالي الحاكم بأن يموت الملايين من أجل أن يحيى هو، ومن رحم هذه الصراعات والنزعات بدأ العقلاء منهم يفكرون في إيجاد قوانين تحميهم من النكوص على أعقابهم والعودة إلى هذه الحالة التي لم تبق ولم تذر شيئا من الحضارة والإنسانية في الغرب، فظهر ما يسمى بحقوق الإنسان، وكان على رأس هذه الحقوق التي دعو إليها حق العدالة، وحق أن يعيش الإنسان كما يريد وكيف يشاء معززا مكرما، موفرا له كل ما يحتاجه من أساسيات الحياة، ولكن حقيقة الأمر أن هذه القوانين لم تطبق كما كان يريدها الشعب وإنما ظلت شعارات لأنه لا يوجد في المجتمع من يسهر على تطبيقها ولا يوجد في دينهم ما يدعوهم إلى التمسك بها، إذ أنهم تركوا الدين بين أسوار الكنائس، وحبذوا أن يبعدوه عن سائر صروف حياتهم.

ونخلص من هذا أن الإسلام قد وضع منهج حياة يجب على البشرية أن تسير عليه لتنجو من هذا التخبط في القوانين التي يضعونها بغية بلوغ العدالة والحياة بعزة وكرامة، إن الإسلام قد وضع لكل جزء في الحياة منهجا ينبغي أن يسلكه الإنسان، ووضع الإسلام الأسلوب الذي ينبغي أن يتعامل به الناس مع رب الناس، والمنهج الذي ينبغي أن يتعامل به الإنسان مع الإنسان، ومن هذا المنطلق فلا داعي أن نبحث عن هذا منهج العدالة الاجتماعية مع الفلاسفة ولا مع المفكرين الذين يدعون أنهم جاؤوا بما لم يأت به الإسلام.

وحين يتمسك الإنسان بدينه ويعرف ربه حق المعرفة فلن يحتاج للتزلف إلى أي شخص في هذه الحياة، لأنه يعلم علم اليقين أن الله بيده كل شيء وما هؤلاء البشر الذين حوله ولو بلغوا ما بلغوا من المناصب إلا أناس مثله لا يفرقون عنه بشيء ولا يتميزون عنه بأي ميزة.

ومن هذا فقد جاء الإسلام بالعدالة الاجتماعية في كل شيء في الحياة ليس فيما يتعلق بالحاكم والمحكوم بل بكل شيء في حياته، فلكونه رب أسرة عليه أن يضع العدالة نصب عينيه في التعامل مع كل من يعول في محيط بيته، ولكونه رئيسا في مكان عمله فعليه أن يتبع العدالة في مؤسسته والتي تجعل من هم تحت قيادته يشعرون بتلك العادلة التي قرأوا عنها في دينهم.

وأن على العالم الإسلامي أن يستشعر هذه الرسالة التي يحملها وأن عليه أن يوصلها ناصعة للعالم، وأن يتمسك بها في سائر شؤونه الخاصة والعامة، وأن يعلم أنه يحمل نور هداية وصلاحا للمجتمع العالمي وأن عليه أن يسعى لتنفيذه وتطبيقه حيثما حل وارتحل، ويعلم أنه مسؤول عن ذلك أمام الله يوم القيامة، نسأل الله تعالى أن يعم العدل المجتمعي في سائر أجزاء العالم لتنعم البشرية بالخير والسلام والسؤدد.

 

بالعدل تتقدم الحياة -

فوزي بن يونس بن حديد -

«كلما سعت الدولة إلى إرساء العدل بين أفرادها استطاعت أن تقضي على كل الفوارق الاجتماعية، وتبسط الأمن والأمان في كل ربوعها لأنه بالعدل تتقدم الحياة وينشغل الناس بما عندهم من مسؤوليات في جو يسوده التفاهم ويعتريه الشعور بالمسؤولية ومحاسبة النفس عن كل تقصير أو تجاوز، وكل من تسول له نفسه العبور إلى منفذ الفساد كان شاذا ويفضح أمره بسهولة لأنه سيشار إليه بالبنان، أما إذا اختلط الحابل بالنابل وتركت الدولة محاسبة المقصرين والفاسدين، فإن الأمر سيتكاثر ويتفاقم ويحدث مشكلة كبرى يصعب بعدها حلها إلا بقوانين صارمة تحد من حركتهم وتقصم ظهر الفساد الذي كانوا يمتطونه».

العدل اسم من أسماء الله الحسنى وصفة لازمة وثابتة للمولى ومن صفاته العليا، هو العدل المطلق، فهو - سبحانه - عدل لا يظلم أبدًا وهو العليم الخبير الذي يدري كيف يكون العدل، فتجب له - تعالى - كل صفة كمال، وتستحيل عليه أضدادها من صفات النقص، وحرم على نفسه الظلم وجعله محرما بين عباده وجعل سبحانه وتعالى هذه الصفة لازمة أيضا للبشر ليتحقق الأمان ويزال الخوف من العباد من غطرسة بعض المتهورين والمتكبرين، فلا شك أن العدالة الاجتماعية ترسي الأمن النفسي والفكري والاقتصادي، وتبعث في النفس الطمأنينة والسكينة، لأن الدولة ستكون بالمرصاد لكل من تسوّل له نفسه تجاوز القانون أو التحايل عليه بطرق غير شرعية، أو العبور من خلاله إلى تحقيق منافعه الشخصية على حساب مصالح المجتمع، والدولة عادة في إطارها تحرص على أن تكون قدر المستطاع عادلة في أدائها حتى لا يشعر المواطن بالغبن في حقه، وحتى يستقيم هو الآخر بعد أن يرى من يقوده أو يحكمه قدوة في عمله وحياته يتصرف وفق الشرع والقانون، ولا يسمح لنفسه ولا لمن يعولهم أو يديرهم أن يكون سببا في انهيار المجتمع بأي حال من الأحوال، ولذلك جاء الإسلام ليرسخ هذا المفهوم في الإنسان والمجتمع، فحارب كل وسائل التفريق بين الناس، وجعل المفاضلة بينهم تعتمد على خاصية معنوية روحية قوية في النفس لها تأثير بالغ على السلوك، وهي خاصية التقوى، وبين القرآن الكريم ذلك في آية بليغة عندما ذكر أن الناس جميعا في الدنيا مكونون من ذكور وإناث وشعوب وقبائل لأجل التعارف والتعاون والتكاتف والتعاضد، وأن الأفضل منهم عند الله من تميز بروح التقوى، لأنها الأساس في تكوين الفرد وتحجمه عن الغرور والتكبر على الخلق لأي سبب من الأسباب حيث قال جل شأنه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ).

ولقد رأينا كيف عاش العرب في الجاهلية في طبقية اجتماعية مثيرة بين غنى فاحش وفقر مدقع ورقٍّ منتشر، كفيف يتخذ الإنسان لنفسه إنسانا آخر عبدا له وهو في ذاته عبد لله، وكيف يجرؤ إنسان أن يتحكم في إنسان آخر خلقه الله تعالى حرا، ولذلك كانت محاربة الإسلام للعبودية والرق شديدة، فأراد أن يقضي على هذه العادة السيئة في المجتمع لأنها تشعر العبد أنه ناقص الحرية لا يستطيع أن يفعل شيئا إلا بإذن ربه وهو إنسان مثله يعتريه النقص في كل شيء، لكن أصحاب المال والنفوذ يغريهم هذا النوع من الاستعباد حتى يشعروا بقيمتهم وأنهم يستطيعون أن يتحكموا في بشر مثلهم خَلقا لكنهم مختلفون عنهم في الفكر والوجاهة والسلطة واللون، فجاء الإسلام الحنيف وشرف الإنسان وكرمه وقضى على كل أنواع العبودية والرق، وحرره من الأفكار الجاهلية ليبقى الإنسان أيا كان حرا طليقا لا يتحكم فيه إنسان ولا يقيد حركته أحد من البشر، وأرسى العدل بين الناس وفضّل بينهم بالتقوى كأساس يبقى صالحا إلى يوم الدين، فأي مجتمع لا يسوده إيجاد التقوى يكثر فيه استعباد الآخر، والاستعلاء على الآخر لأي سبب من الأسباب، وعندما تأفل التقوى في النفوس والقلوب يتحول البشر إلى كومة من الغرور والاستكبار ويستأسدون بالمال والرجال ليبسطوا أشرعتهم ويتحكموا في الناس كيفما أرادوا بحق أو بدون حق، وعندما تقوى التقوى في القلوب تضمحل الفوارق بين الشعوب، فلا مال ولا نسب ولا نفوذ ولا لون يميزهم عن الآخرين، وإنما الذي يميزهم شيء آخر غير مادي ولا حسي، ولكن له أثر كبير على سلوك الفرد وهو يعامل أخاه الإنسان.

ومنذ أن حطّ الإسلام أشرعته، بيّن أن الناس كأسنان المشط، كما جاء في الحديث الشريف عن المصطفى صلى الله عليه وسلم: «الناس سواسية كأسنان المشط، لا فضل لعربي على أعجمي، إنما الفضل بالتقوى» فتعامل الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم مع الجميع وعلى حد سواء، بل كان قريبا من الفقراء والمحتاجين وأعتق ذوي البشرة السوداء حتى صاروا أسيادا في الإسلام، كسيدنا بلال بن رباح الحبشي، وصار بعض الموالي قادة يقودون الناس ويسوسونهم، ومع ذلك كان يجمعهم الدين الإسلامي وصيرهم إخوة في الله لا فرق بين هذا وذاك إلا بما قدم من عمل يرضي الله تعالى ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، فإرساء العدل هو جوهر الرضا عند الناس، فلا تنمو في أنفسهم روح الانتقام والثأر بل تكون قلوبهم صافية ونقية من كل شوائب الكره والحقد والحسد، لأنهم آمنوا برب العالمين واتخذوا ما أمر الله به سلوكا لا قولا فقط، فنجحوا في تركيبة الحياة العصرية وأحدثوا زلزلة في المجتمع القبلي الذي كان يعيش القبلية في أوجها والنفوذ والسلطة في أكثر معانيها، ولكن الإسلام استطاع أن يتسلل إلى النفوس ويحدث سكينة وطمأنينة وهدوءًا ورضا بما أمر الله تعالى بعد أن آمنوا أن الله تعالى وحده المتفرد بالعبودية والألوهية، وأدركوا أن الإنسان لا يجني من الدنيا إلا بقدر ما يعمل.

وقد أعجبتني وأعجبت جميع المسلمين مقولة عمر بن الخطاب رضي الله عنه المشهورة: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا» وهي مقولة رسخها الخليفة عمر في الواقع وكان أكثر الخلفاء الراشدين حرصا على توثيق العدل في الحياة الاجتماعية لأنه يعلم أن العدل أساس الحياة، وشعر بثقل المسؤولية التي كلفه بها أبو بكر الصديق رضي الله عنه ورأى أثرها في عهدي الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وصديقه أبي بكر، فاستلذ بلذيذها حتى أثمر مجتمعا متوازنا، اختفت فيه الجريمة، وتراجع فيه الجشع والطمع، وغاب عنه الفساد بكل أنواعه، وصار الضمير هو الذي يردع المسلم إذا أحس أنه أقدم على فعل يغضب الله تعالى ويساهم في تدهور المجتمع، من الناحية الاقتصادية، ولا يحق إلا الحق، ولكل فرد حق، لا يتجاوزه ولا يتعداه بأي حال من الأحوال، بل شهدنا في الإسلام حالات من التنازل عن الحق من أجل إرساء الأخوّة والمحبة في المجتمع كالذي حدث في الهجرة النبوية الشريفة على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم، حيث سطرت ملحمة من التناغم والتعاون بين المهاجرين والأنصار في معركة مع النفس التي تهوى الطمع والشجع وحب السيطرة، فكان المشهد أقرب إلى الخيال منه إلى الواقع، نحتاج إليه اليوم أكثر من أي وقت مضى.

وكلما سعت الدولة إلى إرساء العدل بين أفرادها استطاعت أن تقضي على كل الفوارق الاجتماعية، وتبسط الأمن والأمان في كل ربوعها لأنه بالعدل تتقدم الحياة وينشغل الناس بما عندهم من مسؤوليات في جو يسوده التفاهم ويعتريه الشعور بالمسؤولية ومحاسبة النفس عن كل تقصير أو تجاوز، وكل من تسول له نفسه العبور إلى منفذ الفساد كان شاذا ويفضح أمره بسهولة لأنه سيشار إليه بالبنان، أما إذا اختلط الحابل بالنابل وتركت الدولة محاسبة المقصرين والفاسدين، فإن الأمر سيتكاثر ويتفاقم ويحدث مشكلة كبرى يصعب بعدها حلها إلا بقوانين صارمة تحد من حركتهم وتقصم ظهر الفساد الذي كانوا يمتطونه، وعلى هذا نجحت الدولة الإسلامية في بداية عهدها مع الخلفاء الراشدين الذين آمنوا أن العدل أساس الحياة، ولكن ما إن استشرى الفساد بعدها وسكت أولو الأمر عنه حتى ظهر الفساد في البر والبحر مرة أخرى أسهم كثيرا في إنهاك دول بأكملها، بل في إفلاس بعضها، لأنها لم تتبع الطريق الذي أراده الله تعالى ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وهو الطريق الوحيد الذي يمكن أن يخرج الإنسان من قمقمه لأنه غطس ووحل في ماديته التي ما زالت تجثم عليه ولم يستطع الفكاك منها.

وعلى هذا وبعد أن شهدت المجتمعات الإنسانية هبوطا حادا في الاقتصاد، علمت أن السبب يكمن في سياسة معاداة برنامج الإسلام الاقتصادي، وتكريس الطبقية من خلال اتباع نظم بشرية كالاشتراكية والرأسمالية وهما نظامان خاسران بعد انهيارهما لأنهما يعتمدان الربح كأساس ولا يهتمان بالأخلاق في التعامل بين البشر، فحدثت الفوارق الاجتماعية وانتزعت الحقوق الإنسانية على اعتبار أن النظام المالي يحتم على الإنسان إما الربح التام بأي وسيلة من الوسائل وكل الوسائل مشروعة عندهم، وإما حرمان الفرد من الامتلاك وهو هضم واضح لحقوق الإنسان، ليبقى الإسلام النظام الوسط الذي يمنح الفرد حقه في الحياة والامتلاك، ويمنعه من الوصول إلى الربح إلا بوسائل مشروعة ويفرض عليه واجبات لكي يتحقق التوازن والتناغم بين أفراد المجتمع، وتختفي مظاهر الانتقام والفوارق التي صنعها البشر أنفسهم.