salih
salih
أعمدة

تطلعات وطنية لإصلاحات هيكلية شاملة

25 فبراير 2020
25 فبراير 2020

د. صالح بن سعيد مسن -

لقد أسس السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور -طيب الله ثراه- خلال نصف قرن من الزمان دولة عصرية مكتملة الأركان، متماسكة البنيان، ترتكز قواعدها على مؤسسات راسخة وتشريعات ناظمة وأجهزة متطورة، وإنسان مؤهل لقيادة قاطرة التنمية بروح وطنية عالية. وما كان لذلك أن يتحقق لولا الطموح الكبير والإرادة القوية والعزيمة المتوثبة لبناء دولة عصرية متقدمة. ولعل من جميل الطالع أن يوصي الزعيم الراحل بقيادة هذه البلاد لشخصية قريبة من مركز صنع القرار تمتلك خبرة واسعة وإطلاعا كبيرا على تحديات التنمية وتعرجاتها وكأني بالسلطان قابوس وهو يكتب وصيته ويختار خليفته ليطمئن على عمان بعد رحيله يناجي ربه بقوله تعالى (إن خير من استأجرت القوي الأمين).

وها هي عمان تواصل مسيرتها المباركة وتنتقل رايتها المظفرة بكل وفاء وعرفان من مؤسس نهضتها الحديثة السلطان قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه- إلى مهندس رؤيتها المستقبلية السلطان هيثم بن طارق - حفظه الله ورعاه.

ولقد جاء الخطاب السامي الثاني للسلطان هيثم بن طارق ليرسم خارطة الطريق لعمان المستقبل ويحدد مسارات المرحلة القادمة مركزًا على الملف الاقتصادي من حيث تشخيص المرحلة الراهنة بكل شفافية وتحديد وصفة العلاج الضرورية للنهوض بالاقتصاد الوطني.

إن عمان اليوم تقف على مفترق طرق تحتم عليها الانتقال إلى مرحلة جديدة من مراحل التنمية وقد تجلى هذا الاستشراف بوضوح في الخطاب السامي لجلالته من خلال التأكيد على أهمية الانتقال إلى مرحلة جديدة تكون على مستوى طموحات أبناء عمان وشعبها الوفي.

وكما هو معلوم في تاريخ الأمم والشعوب أن الحضارات تحتاج بعد كل حقبة من الزمن إلى تحديث نهضتها وبث روح التجديد في أوصالها ليستمر عطاؤها ويتوهج بريقها. لكن الباحثين في اقتصاديات التنمية والمراقبين لأداء التجارب التنموية الناجحة في العالم يجمعون على أن الانتقال من مرحلة تنموية إلى أخرى تكتنفها الكثير من العقبات والتحديات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية مما يستدعي التعاطي معها برؤية ثاقبة وإرادة حازمة لدفع عجلة التغيير باتجاه الغايات الوطنية المنشودة.

ولعل التحدي الاقتصادي يعتبر الأكثر تعقيدًا بالنسبة للسلطنة خلال المرحلة الحالية وذلك بسبب طبيعة الاقتصاد العماني الذي يعاني في تركيبته الإنتاجية من مجموعة من الاختلالات الهيكلية مما بطأ عجلة التنويع الاقتصادي، كما ظلت الكثير من المشكلات الاقتصادية طيلة السنوات الماضية دون معالجات جذرية طويلة المدى بل يتم في كثير من الأحيان اللجوء إلى المسكنات العاجلة والمعالجات الطارئة التي تهدئ الألم مؤقتًا وتفاقم المشكلة مستقبلًا. بالإضافة إلى ذلك ظل الركود الاقتصادي يتعمق في بعض القطاعات الإنتاجية بشكل كبير فتزايد عدد المسرحين والباحثين عن عمل لمستويات غير مسبوقة مشكلين بذلك ضغطًا متزايدًا على صانع القرار الاقتصادي لاتخاذ قرارات عاجلة لتفادي التداعيات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية لتزايد أعداد الباحثين عن عمل.

ومما لا ريب فيه أن هذا التحول الاقتصادي سيكون أكثر يسرًا وأقل تكلفة اقتصادية لو تم خلال فترات الانتعاش الاقتصادي قبل عام 2014 حيث كانت تتوفر بعض الفوائض المالية التي يمكن استخدامها لدفع التكاليف الاقتصادية والتقليل من حجم التأثيرات الاقتصادية والاجتماعية على بعض مستويات الدخل.

وعلى الرغم من ذلك فإن هذا لا يعني أن التحديات أكبر من إمكانياتنا الوطنية أو أننا الدولة الوحيدة التي تواجه هذا النوع من المشكلات الاقتصادية، بل الكثير من الدول الريعية تعاني من نفس الأعراض الاقتصادية مع التفاوت بينها في حجم التراجع الاقتصادي. ومن المعلوم في علم الإدارة أن التحديات تصنع الفرص وتولد الأفكار وتحرك طاقة الإبداع والابتكار، ولهذا فإن العقبات مهما تعاظمت تظل صغيرة أمام الإرادة الوطنية الصلبة والقيادة السياسية الواعية التي توظف جميع الإمكانيات لتحقيق الأهداف الاستراتيجية العليا للبلاد. ولا يخالطنا أدنى شك ونحن نستقرئ المرحلة القادمة من خلال مضامين الخطاب السامي الثاني لحضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق - حفظه الله ورعاه - أن عمان سوف تتجاوز جميع التحديات بكل جسارة وستدخل اقتصاد المعرفة متسلحة بالعلم ومسخرة جميع طاقات شبابها وإبداعاتهم وابتكاراتهم للاستفادة من تقنيات الثورتين الصناعيتين الرابعة والخامسة بكل كفاءة لتخطو نحو المستقبل بخطوات ثابتة ورؤية ثاقبة.

وما أحوجنا اليوم ونحن على أعتاب الخطة الخمسية العاشرة وقبل انطلاق الرؤية المستقبلية 2040 إلى مراجعة ترتيب أولوياتنا الوطنية بشكل دقيق وإصلاح الهياكل التنظيمية للدولة لتكون أكثر رشاقة وديناميكية وإصلاح المنظومة الاقتصادية لتكون أكثر تنوعا وإنتاجية لإيجاد استدامة اقتصادية طويلة المدى وتحسين بيئة الأعمال وتسهيل منظومة الإجراءات لتكون جاذبة للاستثمارات الأجنبية وإصلاح السياسة المالية والضريبية لتكون محفزة للنمو الاقتصادي وموجهة للنفقات العامة بكفاءة ومسؤولية وإدارة الدين العام بحصافة للمحافظة على الاستقرار المالي وإصلاح المنظومة التعليمية لتكون متواكبة مع المتغيرات العالمية والثورات التكنولوجية المتعاقبة لتكون مخرجات التعليم متوائمة مع متطلبات سوق العمل، وذلك لنبدأ الرؤية المستقبلية 2040 على أرضية صلبة وقواعد متينة وسط بيئة محفزة للإبداع والابتكار والإنتاج وممكنة للكفاءات العمانية الشابة.

إن تطبيق حزمة الإصلاحات الاقتصادية لا بد أن تأخذ في الاعتبـار طبيعة وهيكل الاقتصاد العماني وتحديات المرحلة وأولوياتها علـى ضوء حجم الدخل القومي وطريقة توزيعه والتركيب النـوعي والعـددي للبنيـة الاقتصادية وبما يتناسب مع طبيعة الهيكل الاجتماعي والسياسي للسلطنة.

والسؤال الأهم هنا هو هل من المناسب تقديم مجموعة إصلاحات اقتصادية شمولية أم الأجدى تقديم حلول مجتزئة والتدرج في تقديم هذه الإصلاحات؟ في الواقع تشير بعض الدراسات العلمية إلى أن تقديم حزمة إصلاحات اقتصادية متكاملة تأخذ في الحسبان التوازن بين تحقيق الأهداف الكلية والتأثيرات الاقتصادية والاجتماعية من خلال سياسة اقتصادية معتدلة هي الأصلح للكثير من الدول النامية التي تقوم بإصلاحات اقتصادية لتنويع مصادر دخلها والحفاظ على نموها الاقتصادي بنسب ثابتة.

وإذا سلمنا جدلا بأهمية الإصلاح الاقتصادي الكلي دفعة واحدة فالسؤال المطروح: ما هو التوقيت الأمثل للشروع في مثل هذا الإصلاحات دون أن تكون لها انعكاسات سلبية على الاقتصاد؟. بالطبع من المسلمات الاقتصادية اختيار الوقت الأنسب لتطبيق الإصلاحات الاقتصادية للتقليل من تأثيراتها الاقتصادية وأحد العوامل الرئيسية في عملية الاختيار هو القبول المجتمعي لهذه الإصلاحات. وأعتقد جازمًا أن المرحلة الحالية هي الأنسب لتقديم مثل هذه الإصلاحات الهيكلية لأن المجتمع في حالة ترقب كبير لملامح المرحلة القادمة وأكثر تقبلًا للتحول الاقتصادي مع الدفعة المعنوية الإيجابية التي يستلهمها الشعب من سلطانه الأمين ومهندس رؤيته المستقبلية الذي رفع لديهم حجم الطموح والآمال للوصول بعمان لمصاف الدول المتقدمة كما أشارت لذلك الرؤية 2040.

ولذلك تعتبر مثل هذه الانتقالات التاريخية التي يرتفع معها سقف التطلعات الوطنية والقبول الشعبي العام فرصة تاريخية سانحة للدفع بإصلاحات هيكلية شاملة وإجراء تحولات اقتصادية كبيرة شريطة أن يسبق ذلك توعية كبيرة ليكون هناك توافق مجتمعي يسند القيادة في التحول للمرحلة القادمة بكل يسر وسهولة.

إن الجميع اليوم مطالب أكثر من أي وقت مضى أن يعاهد الله على تكريس حياته للعمل من أجل عمان كما عاهد جلالته الله على ذلك والوقوف صفًا واحدًا خلف قيادة سلطان عمان الأمين ومهندس رؤية 2040 لتحقيق الغايات العظمى والمراتب العليا والانتقال بعمان إلى مستوى طموحاتكم وآمالكم في شتى المجالات كما أشار جلالته لذلك في خطابه السامي.