Untitled-1444
Untitled-1444
عمان اليوم

السلطان هيثم بن طارق.. واستمرارية التطوير

22 فبراير 2020
22 فبراير 2020

الكلمة السامية تضيء «أسباب العز والازدهار والتمكين»

5 أسس بنت الدولة العصرية وشادت النهضة الراسخة أبانها خطاب جلالة السلطان -

ما بين خطابين تأسيسيين 50 عاما من التأكيد على بناء الوطن بالمساندة والواجب -

كتب - عــماد البـــليـك -

تشكّل الكلمة السامية التي ألقاها حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم - حفظه الله ورعاه - عقب أداء القسم وتوليه عرش عمان خلفاً للسلطان قابوس بن سعيد - طيب الله ثراه -، الملامح الأساسية للمرحلة المقبلة من النهضة العُمانية المتجددة التي بدأت في عام 1970 وبعد خمسين عاماً، نصف قرن من الزمان، تنطلق نحو مزيد من البناء والمنجزات بإذن الله، استناداً إلى ذلك الإرث العظيم الذي خلفه السلطان الراحل باني نهضة عُمان الحديثة.

جاءت الكلمة السامية (الخطاب) في عدد من الفقرات التي تحدثت عن مآثر السلطان قابوس رحمه الله، وأكدت على أهمية السير على خطاه في البناء، منوهة بالدولة العصرية والنهضة الراسخة، ثم حددت ملامح السياسة الخارجية مؤكدة على الاستقلالية والقيم المدركة في هذا الإطار، ثم كانت التنويه بنعمة الأمن والأمان ودور القوات المسلحة والأجهزة الأمنية في هذا الجانب، إلى الحديث عن الأمانة وأهمية المساندة والتعاون في رسم المستقبل المشرق.

بالعودة إلى عام 1970 فقد كان الخطاب التأسيسي للسلطان الراحل، بمثابة الدستور أو النهج الذي انطلقت منه السلطنة إلى آفاق التطوير والتحديث، وفيه كان ثمة إشارة جلية إلى ضرورة المساعدة في القيام بالرسالة الوطنية حيث جاء في نص الخطاب: «سأعمل بأسرع ما يمكن لجعلكم تعيشون سعداء لمستقبل أفضل.. وعلى كل واحد منكم المساعدة في هذا الواجب».

وإذا ما قفزنا بالزمان وبعد نصف قرن سوف نجد أن الخطاب السامي للسلطان هيثم بن طارق، أكد على الآتي: «فينبغي لنا جميعا، أن نعمل من أجل رفعة هذا البلد وإعلاء شأنه، وأن نسير قدما نحو الارتقاء به إلى حياة أفضل، ولن يتأتى ذلك إلا بمساندتكم وتعاونكم وتضافر كافة الجهود للوصول إلى هذه الغاية الوطنية العظمى».

ومن الوهلة الأولى سوف نكتشف التقاطع الحاصل ما بين الإِشارة إلى فكرة «المساعدة» في مقابل «المساندة»، كما سوف نلحظ التقابل ما بين «الواجب» و«الغاية الوطنية العظمى»، وكلاهما بذات المحتوى أو المضمون الرسالي الذي يجب التعاضد لأجله. ما بين زمنين إذن يتأكد أن مسار النهضة العمانية الحديثة، يستند على قيم ومفاهيم باتت راسخة، بيد أنها تكتسب تجددها من خلال المرحلة الزمنية والأدوات العصرية المستجدة، كما أن اللغة نفسها تصبح أبلغ دليل على ذلك، مع بقاء الأهداف المستمرة سواء المنجزة أو الطموحات التي تتعلق بتنمية المستقبل والسعي إلى المزيد من «التطور والتقدم والنماء».

إشارات مهمة

بعد تلك الوقفة مع مفهوم البدايات والتأسيسات ما بين زمنين، فاصلهما نصف قرن من الزمان، فمن الضروري الانتباه إلى أن خطاب النهضة العمانية أو «الرسالة» يدخل اليوم تحديات مختلفة من حيث الطموحات المستقبلية بالاستناد إلى تحولات الحياة والعصر وما يتحرك في العالم المعاصر. غير أن هناك العديد من المدلولات التي يجب التوقف عندها في الكلمة السامية لجلالة السلطان هيثم:

أولها: أن هذا الخطاب صيغ في ظرف دقيق جدا ما بعد وفاة السلطان قابوس في يوم من الأسى والأحزان، ولابد أن هذا الجانب له تأثيره النفسي كما الدلالي الذي انعكس على المضامين والمفردات والمقاصد المنشودة. لكن برغم الفاجعة الكبيرة وقصر المدة الزمنية إلا أن الكلمة السامية جاءت ببلاغة في التأثير والإبانة في المعنى المراد إيصاله.

ثانيا: يتضح من مجمل السياق العام للكلمة السامية أن فكرة البناء والنهوض والتنمية في عمان صارت جزءا من التشكيل النفسي والوجدان العام لكل العمانيين، بغض النظر عن درجة الاستقبال من حيث وعي المتلقي أو درجة فهمه للمعاني ومدركاتها، وهذا أمر إيجابي، في أن المفردات والدلالات تتجه إلى الجميع بغض النظر عن أعمارهم أو درجات تعليمهم أو مواقع عملهم، لتأخذ في كل موقع ولدى كل شخص ما، القيمة المعنوية ومن ثم تصوغ الرسالة المطلوبة.

ثالثا: وهو جانب كبير الأهمية، في أن جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم - أيده الله - ومن خلال هذه الكلمة العميقة المحملة بطاقة من المعاني المختزنة، يقدم صورة جلية لاستيعاب كبير وثري لهذا المشروع العظيم، الرسالة المتعلقة بالنهضة العمانية المستمرة أو بمعنى آخر «الأمانة الملقاة على عاتقنا» كما عبر عنها جلالته في كلمته السامية، واصفا تلك الأمانة بـ «عظيمة» وأن ما يترتب عن ذلك هو «المسؤوليات» التي وصفت بـ «جسيمة».

رابعا: ما يميز الكلمة السامية التأسيسية (الخطاب) أنها كانت جياشة المشاعر في التداعي الحر والكلمات ذات البعد العاطفي ولكن الدلالي في الوقت نفسه، وهذا يجعل مشروع النهضة والتجديد المطلوب فيها أو الإضافة للمنجزات بمعنى آخر، تأخذ دائما على المدى القريب والبعيد من هذا المعين المشبع بالارتباط الوجداني ما بين مؤسس النهضة ومجددها، بما يحمل الطريق والمسيرة على حبل من المودة المتصلة ذات الجذور في تربة الولاء والعرفان والانتماء لفكرة ثابتة وراسخة مغروسة في الأرض، تتجه أذرعها مرتقية هام السماء، تأتي ثمارها مع كل فصل من فصول مرحلة جديدة من الحاجة إلى التحديث والسير إلى المزيد من السعد والنعماء والرخاء.

المفاصل الأربعة

تتشكل الكلمة السامية من حيث البناء الهيكلي الدلالي لها، من أربعة مفاصل أساسية، بحيث يمكن أن نقسم الخطاب إلى الآتي:

أولا، التأبين والرثاء وذكر المآثر والمحاسن والحسنات لجلالة السلطان الراحل - طيب الله ثراه -.

ثانيا، ما يتعلق بالإرث والبناء الداخلي، في إطار المنجزات على صعيد النهضة في كافة مناحي الدولة الحديثة.

ثالثا، الفضاء الخارجي والعلاقات مع العالم، وتأكيد التعاون الإقليمي والعربي والأممي /‏‏الدولي وإسهام عمان الحضاري والإنساني.

رابعا: ما يرتبط بالأمانة والسير على الخطى نحو رسم تطلعات المستقبل والتقدم والنماء.

ويلحظ أن ذكر السلطان الراحل والتأسي به مع الدعاء له، كان ينسج سياق الخطاب العام من فقرة لأخرى، ليكون الختام بالتضرع إلى الله عز وجل بأن يعين «على السير على نهجه وإكمال ما أراد تحقيقه لهذا الشعب العظيم»، ما يعطي دلالة فيها تعبير عظيم عن الوفاء والاعتراف بفضل هذا القائد التاريخي، وهي أن القادم من المنجزات والإضافات - بإذن الله - هو «إكمال» للصورة الكبيرة التي كان يرى بها هذا البلد وشعبه، ذلك الأمل المستمر الذي تحمله الأجيال، جيلا بعد جيل.

الأعز.. الأنقى

كان للعبارة التي استخدمها جلالة السلطان هيثم بن طارق، في وصف القائد الراحل بـ «أعز الرجال وأنقاهم» عميق الأثر في الشعب العماني فقد صارت أبلغ عبارة يمكن أن تقال في حق السلطان قابوس رحمه الله، لكن جلالة السلطان هيثم يشير إلى أنه مهما قيل، فمن المستحيل أن يوفى الراحل حقه: «رجل لا يمكن لخطاب كهذا أن يوفيه حقه وأن يعدد ما أنجزه وما بناه».

فالمفردات تقف عاجزة عن وصف أو الإبانة باتجاه ذلك الرجل العظيم ورسالته الكبيرة التي حملها ومنجزاته الماثلة للعيان في صرح الدولة العصرية التي تكاد قد بدأت من الصفر لتصبح في مصاف التقدم والرقي، كما جاء بشهادة الأمم المتحدة في التأبين الذي أقيم للقائد الراحل وهو حدث قلما يتكرر في المنظمة الأممية مع زعيم أو رئيس دولة.

وفي فقرة ثانية، تأتي الكلمة السامية بمزيد من التأكيد على سيرة هذا العزيز النقي، حيث يقول جلالة السلطان هيثم: «إن الكلمات لتعجز والعبارات لتقصر عن أن تؤبن سلطانًا عظيمًا مثله وأن تسرد مناقبه وتعدد إنجازاته»، حيث يبدو جليا الرغبة في التأكيد على قصور اللغة عن بلوغ المنال في إيجاز تلك السيرة الرحبة والنفس العظيمة، كذلك استحالة تعداد منجزات ذلك الرجل الهمام، وإذا كان في البداية قد ورد «أن يعدد ما أنجزه وما بناه»، فقد جاءت في المرة الثانية «أن تسرد مناقبه وتعدد إنجازاته»، ومدرك في فقه اللغة أن التكرار هذا يأتي لتعزيز المعنى والمراد، وأبلغ ما فيه هنا أنه يأتي من داخل عاطفة جياشة مرسومة بالحزن الدفاق.

الدولة والنهضة

في إطار المفصل الثاني فيما يتعلق بالنهضة العمانية فقد وصف السلطان هيثم بن طارق ذلك المشروع بـ «دولة عصرية شهد لها القاصي قبل الداني»، وأيضا هي «نهضة راسخة»، ومن ثم كانت إبانة معالم أو ملامح تلك النهضة وهذا المشروع العصري المتمثلة في الآتي بحسب الخطاب السامي:

أولا: منظومة القوانين والتشريعات، كما في النظام الأساسي وتفريعاته من المراسيم وكافة القوانين الأخرى واللوائح والنظم الخ.. وقد بين جلالته أن الهدف الكلي من هذه الإطار الدستوري يصب في حفظ البلاد وتنظيم المسيرة باتجاه المستقبل الزاهر الذي أراده القائد الراحل.

ثانيا: البنية الأساسية، وهي الإطار أو المنحى الثاني في بناء الدولة، بعد القوانين والتشريعات، وبفضل العمل الكبير والجهد المبذول فقد أصبح لدى السلطنة «بنية أساسية غدت محطة أنظار العالم»، بتعبير جلالة السلطان، وسبق للقائد الرحل أن نوه في إحدى الجولات السامية بتطور شبكة الطرق والبنية الأساسية في البلاد وأنها مما يفخر ويباهي به المرء.

ثالثا: المنظومة الاقتصادية والاجتماعية، وهي ثنائية متكاملة، فالاقتصاد يجب أن يخدم المجتمع ويتكامل معه في سبيل توفير الحياة الكريمة، وقد ظل السلطان الراحل إلى آخر اجتماع مجلس وزراء كان قد ترأسه في العام الماضي، يذكر دائما ويوجه بعدم المساس بالجوانب الاجتماعية للمواطنين، ويؤكد في الوقت نفسه على تطوير الاقتصاد وتنويع مصادر الدخل الوطني وتحفيز الاستثمارات، ليكون ممكنا تلبية الهدف الأول في توفير العيش الهانئ وفرص العمل وغيرها من الأهداف التي تصب في التنمية الإنسانية. وقد أشار جلالة السلطان هيثم في كلمته السامية إلى انعكاسات هذه المنظومة الاقتصادية والاجتماعية على حياة المواطنين، في «رفع مستوى معيشة المواطن العماني».

رابعا: قيم العدالة على الصعيد الاجتماعي ويتجاور معها تحقيق التنمية المستدامة، فهي عدالة على المستوى الإنساني وأخرى على المستوى التنموي العام في تكامل الموارد البشرية مع الطبيعية في تحقيق الحياة الأفضل والنماء المستدام والشامل، عبر عدد من الأمور تم تلخيصها في زيادة الإنتاج وتنويع مصادر الدخل.

خامسا: هياكل التعليم، التي تشكل السداة أو الشبكة المركزية لجملة الأمور المذكورة، فإذا كان جلالة القائد الراحل قد أكد في بداية النهضة على التعليم وأهميته «ولو تحت ظل شجرة»، فهنا سوف نجد أن السلطان هيثم يؤكد في تعداده ملامح وأسس الدولة والنهضة، على موضوع التعليم ويختم به تلك الأسس حيث يؤكد أن السلطان قابوس رحمه الله «أقام هياكل ثابتة للتعليم بجميع مستوياته وتخصصاته»، ثم يبين أثر ذلك بقوله «فنهلت منه الأجيال وتشربت علمًا ومعرفة وخبرة». ما يعني أن استمرار النهضة وشدتها وبأسها في الارتقاء ونشر الضياء، في التمسك بالتعليم، حيث ثماره هي «العلم والمعرفة والخبرة»، وهي أمور مختلفة تتقاطع في إطارها العام، لكنها ذات مدلولات متدرجة، وقد سبق للسلطان الراحل أن بيّن ذلك حيث أشار في إحدى الجولات إلى أن العلم أمر تراكمي للمعلومات في حين أن المعرفة هي توظيف المتراكم فهي عملية تحويل المادة والمعلومات إلى خبرات ليتأتى المعنى الثالث «خبرة».

الأسباب الثلاثة

نرى من خلال إيراد هذه الملامح والأسس أنها قادت في نهاية المطاف إلى تحقيق جملة من الأهداف، وهي بحسب الكلمة السامية توزعت في نتائجها، على الشعب والبلد، وكذا الأمة، حيث إن انعكاس رسالة النهضة كان أبعد من مدى الداخل إلى العالم أجمع كما هو معروف.

أيضا فإن هذه النهضة هيأت لعمان بحسب الكلمة السامية ثلاثة أمور أو مهدت الدرب لأسباب ثلاثة من الأهداف هي «العز والازدهار والتمكين»، وهي أيضا ثلاث مفردات لكل دلالة مختلفة وبعد معين في المعنى.

وقد جاء ذكر الأسباب الثلاثة في القول تأبينا للراحل: «فجزاه الله خير ما جزى سلطاناً عن شعبه وبلده وأمته وأنزله منازل الصالحين وجعل مثواه في جنات النعيم في مقعد صدق عند مليك مقتدر وهيأ لعُمان أسباب العز والازدهار والتمكين».

فالعز، يشير إلى القوة والمنعة والشدة، ويمكن أن ننتبه إلى العلاقة ما بين كلمة «العز» و«أعز الرجال»، فالسلطان قابوس كان عزيزا أقام دولة عزيزة، وكل عزيز لا شك غال يجب الحفاظ عليه فهو نفيس لا يقدر بثمن، ثم يأتي «الازدهار» الذي يشير إلى النماء والإثمار ويجعل الحياة حقولا للعمل والإنتاج المستمر، ولابد أن كل عزيز يزدهر، حيث يقابل بالعطاء والعمل والإخلاص، ثم يأتي «التمكين» ليشكل محصلة المعنى في الإشارة إلى المنزلة والرفعة والشأن والنجاح الذي تأسس على الخطوات الواثقة والعارفة، بحيث يكون السير إلى المزيد من التطلعات والآمال.

استمرارية التطوير

يخلص جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم وهو يسرد لنا في بلاغة موجزة مجمل مشروع 50 عاما من النهضة كما استبان في الأسس الخمسة المذكور سلفا، إلى أن «أبناء عمان الأوفياء» وفي مقابل ذلك، ولكي يستمر «العز والازدهار والتمكين» أن يتجهوا بعد إدراك هذه المعاني من سرد المناقب وتعداد المنجزات، إلى ما يشكل «العزاء» في تخليد منجزات الراحل ويتمثل ذلك في «السير على نهجه القويم والتأسي بخطاه النيرة التي خطاها بثبات وعزم إلى المستقبل والحفاظ على ما أنجزه والبناء عليه».

فاستمرارية التطوير تأتي من خلال هذه التوجيهات السامية لجلالة السلطان هيثم في الاستلهام والمحافظة ثم الإضافة، وهي ثلاثية توازي «العز والازدهار والتمكين».

من ثم يؤكد جلالته «هذا ما نحن عازمون ـ بإذن الله وعونه وتوفيقه ـ على السير فيه والبناء عليه»... أما الهدف والغاية فهو «لترقى عمان إلى المكانة المرموقة التي أرادها لها وسهر على تحقيقها فكتب الله له النجاح والتوفيق».