1440199
1440199
عمان اليوم

جولات السلطان قابوس في ربوع عـــــمان.. ثمار في كافة حقول الدولة

18 فبراير 2020
18 فبراير 2020

«أجتمع بأهلي وأختلط بأنفس كثيرة.. أسمع منها وتسمع مني» -

كتب : عماد البليك -

السلطان الراحل: أعترف بأني أتمتع كثيرًا بهذه الرحلات الداخلية التي أقوم فيها بطول البلاد وعرضها -

شكلت الجولات السامية لجلالة السلطان قابوس بن سعيد - طيب الله ثراه - تجربة ثرية أخذت من عمق الموروث العماني ومزجته بمفاهيم الدولة الحديثة في سياق عصري، ما يحكي ببساطة عن تجربة ذات خصوصية في الممارسة السياسية ومفاهيم الشورى وفق المنظور العماني.

يقول جلالة السلطان الراحل رحمه الله في حوار مع الصحفي الكويتي أحمد الجار الله، نشر في صحيفة السياسة الكويتية بتاريخ 11 فبراير 2006 بما يفسر ويعكس فكرة هذه الجولات السامية: «أعترف بأني أتمتع كثيرًا بهذه الرحلات الداخلية التي أقوم فيها بطول البلاد وعرضها... في هذه الرحلات ألتقي بالناس مواجهة، وأسمع إلى مطالبهم، وهم يسمعون وجهات نظري... إنني أشعر بالألفة هنا وهم كذلك. إن تفقد أحوال الرعية شأن موجود في تاريخ الإسلام، ويعد من واجبات القائد. هناك مواطنون قد لا تسمح لهم ظروفهم بأن يطرقوا أبوابًا معينة فآتي أنا إليهم بشكل مباشر. إني مرتاح وأجد متعة نفسية بهذه الرحلات الداخلية، أجتمع فيها بأهلي وأختلط بأنفس كثيرة، أسمع منها وتسمع مني، ونعطي جميعنا الثمار المطلوبة، إني أتمتع وأنا أرى أهلي يستمعون إلى توجيهات ولي الأمر ويعملون بها، من هنا تخلق ثقافة الضبط والربط والتي هي سرّ تفاعل الرعية براعيها، هذا التفاعل الذي يخلق بدوره الولاء المتبادل بين الطرفين».

نهج مبكر

هذه المعاني تلخص بشكل مقتضب يمكن أن يتوسع معناه من خلال الشرح المفصَّل، فكرة الجولات السامية السنوية التي درج جلالته رحمه الله، على القيام بها في ربوع عمان متفقدًا لأحوال الشعب ومتابعًا لمسيرة التنمية في البلاد، ذلك النهج الذي اختطه منذ بواكير النهضة العمانية الحديثة في مطلع السبعينات.

وهو التقليد الذي أطلق عليه مراقبون صفة «برلمان عمان المفتوح»، في تشبيه بفكرة البرلمان (المجلس) الذي ينعقد للتشاور وإبداء الرأي وعرض الأفكار في مُناخ من الديمقراطية وسعة الصدر، ليتم الخروج بنتائج معينة تكون قابلة للتنفيذ فيما يخدم المصلحة العامة للبلاد ومواطنيها.

بدأت الرحلات الداخلية لجلالة السلطان قابوس – طيب الله ثراه - في الربوع العمانية، مطلع السبعينات مع بواكير النهضة الحديثة، بالتحديد كانت أول جولة للسلطان قابوس في عام 1971 واستمرت هذه الجولات تقام بشكل شبه سنوي، وكانت تتم أكثر من مرة في العام الواحد، إلا في بعض الظروف.

ظل هذا التقليد مستمرًا إلى أربعة عقود حتى 2013، وتاريخيًا فإن الجولة الأولى جاءت بعد ستة أشهر من تولي مقاليد الحكم، حيث إن السلطان قابوس أراد أن يتعرف على أحوال الناس والبلاد ومن ثم يقرر ما هي المتطلبات والمشروعات التي يجب الشروع فيها فورًا في إطار حاجة كل منطقة من المناطق.

الجولة الأولى

في 8 فبراير 1971 بدأت الجولة من قصر العلم العامر في مسقط إلى محافظة الباطنة، وتوقف موكب السلطان قابوس بولاية السويق، ومن ثم بعد تفقد أحوالها واصل الموكب السامي إلى ولاية صحار إلى البريمي، ومن ثم العودة إلى مسقط مجددًا حيث مقر الحكم.

هذه الجولة الافتتاحية كانت للسلطان قابوس دون مرافقين رسميين كما سيحدث في الجولات اللاحقة، فقط كان معه حرسه ومنسقوه.

استفادت الجولات السامية من طبيعة العصر الذي تمت فيه من حيث وسائل النقل والمواصلات وغيرها من المعينات، التي لم تكن متاحة في الماضي. ما جعل دولاب العمل يتم بشكل سلس وسهل، ولا يؤثر ذلك على طبيعة الحكم المركزي في الأشكال التقليدية للدولة.

تراث وحداثة

كان السلطان قابوس رحمه الله، يستحضر هذا المزيج من تراث الإسلام والآباء المؤسسين للدولة العمانية في القرن الثامن عشر الميلادي، فأحمد بن سعيد البوسعيدي المؤسس لدولة آل سعيد في عُمان، كان له رحلات داخلية يقوم بها يصحبه فيها القضاة وأهل العلم ومشاهير الرجال، وحيث يقضي حوائج الناس وينصف المظلوم، وقد كانت مقابلته مفتوحة لكل المواطنين.

ومدرك أن دور القضاء هو حل المنازعات التي قد تحدث بين الأهالي.

وقد استمر هذا التقليد لدى السلاطين البوسعيديين إلى عهد سعيد بن تيمور من 1932 إلى 1970، حيث كان يقوم بجولات في البلاد لحل بعض المشاكل ولقاء المواطنين وغيرها.

في عهد السلطان قابوس فإن هذه الجولات التي أسس لها الآباء والأجداد، سوف تكتسب دلالة أكثر عمقًا وإبانة سواء من حيث الأهداف التي وضعها جلالته لهذه الرحلات، كذلك من حيث طبيعة الشكل الذي تمت به إذ أنها أصبحت أكثر تركيزًا ونظامًا وغائية، وصارت لها برامج واضحة ومحددة تنعكس على أرض الواقع.

فإذا كان الطابع العفوي هو الذي سيطر على الجولات القديمة لدى حكام عُمان، فإن رحلات السلطان قابوس في عصر النهضة الحديثة أصبحت ذات سمات استراتيجية ووعي تام بالظروف المحيطة بها والمطلوبات وبالتالي مراجعة المتحققات، إذ ان السلطان قابوس كان يخطط ويبرمج للسياسة الداخلية التي تدار بها البلاد وفق جداول محددة ولم يكن يترك للأمور أن تمضي بعفو الخاطر، وهذا ما انعكس على هيكل الدولة وسرعة البناء مع الدقة والتوازن في العمل والمشاريع، والعمل وفق جدول زمني مرتب.

إن الإطار المرجعي لتأريخ الجولات السامية، سوف يقود إلى نتيجة مفادها أن الممارسة ذات الطابع التقليدي داخل زمن جديد، سرعان ما أصبحت ظاهرة حديثة أكثر من ارتباطها بالماضي، بمعنى أنها عملت على إنشاء دور أو مجموعة أدوار جديدة حتى لو تقاطعت مع الدور التقليدي، إلا أن النسق التاريخي الحاضر لها يعطيها صورة مختلفة تمامًا عن الأمس.

بمعنى أن صناعة النهضة والحداثة كانت تُولد من صلب المكتسبات المتوارثة ولكن بعد إعادة استكشافها في محيط العالم الحديث، وثمة قاعدة في علم الاجتماع يؤخذ بها هنا وقد عملت عمان على الأخذ بها، وهي «أن المجتمعات التي اختارت التحديث والتجديد، مطالبة بنقد النماذج التكرارية التي تعيد إنتاج الماضي». وهو ما مارسته السياسة العمانية في نقدها للتصورات والتقاليد الاجتماعية والتجارب التاريخية، ومن ثم الأخذ بها باتجاه اللحظة الأكثر حداثة ليكون لها القدرة على المقاومة والصمود والمساهمة الفاعلة في حاضر الإنسان بدلًا من تكلسها وموتها.

الجولة الخاتمة

تعتبر جولة عام 2013 آخر الجولات الداخلية التي تمخضت عنها الكثير من البرامج في إطار تعزيز التنمية المستدامة في البلاد وفتح آفاق المستقبل في جسر يربط بينه والماضي هو الحاضر، فما بين التأصيل للأمس ممثلًا في التراث والاعتزاز بالحرف التقليدية عبر مشروع إنشاء كلية الأجيال - الذي هو أيضا عمل مستقبلي - وبناء المؤسسات الصغيرة والمتوسطة كمستقبل للاقتصاد؛ كان هذا التجسير الذي يختصر صورة أو مشروع النهضة الحديثة، التمسك بالماضي وتأصيله وبناء الغد المثمر.

في 27 يناير 2013 تفضل جلالة السلطان الراحل رحمه الله، لدى لقائه أعيان ولايات محافظتي الداخلية والوسطى وذلك بالمخيم السلطاني بسيح الشامخات بولاية بهلا بمحافظة الداخلية، معلنًا عن إنشاء كلية الأجيال بولاية بهلا التي تهتم بالحفاظ على الصناعات الحرفية العمانية وتطويرها وأكد على «أن الكلية سوف يكون لها شأن في تأهيل أبنائنا وبناتنا على الحرف التقليدية والصناعات الحرفية من أجل أن ينهضوا بها ويحيوها ويطوروها».

من ثم كان قرار جلالة السلطان بإنشاء صندوق الرفد وقد قال في هذا الإطار: «إنه في السنوات الماضية كانت هناك عدة مصادر لدعم الشباب لأن ينهضوا بمشاريعهم الخاصة وأبرز هذه المصادر كان مشروع (سند) الذي قام بواجبه ــ حقيقة ــ خير قيام لعدة سنوات وأيضا هناك مصادر أخرى في جهات أخرى موجودة في الحكومة، وقد قررنا الآن أن نجمع هذه المصادر جميعا تحت صندوق يسمى صندوق الرفد يقوم بمهمة معينة، وفي هذا الحال سيكون الرفد من أجل هؤلاء الشباب والشابات لكي يستطيعوا أن يطوروا مشروعاتهم الصغيرة والمتوسطة».

وأوضح السلطان قابوس عليه رحمة الله، «أن صندوق الرفد سيكون له شأن كبير»، مضيفا: «وقررنا أن يكون رأس ماله بداية بــ 70 مليون ريال عماني على أن يزود بــ 7 ملايين كل عام يضاف إلى رأس المال».

قرارات لا توصيات

جاء في هذا الإطار انعقاد ندوة تنمية المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في الفترة من 21 إلى 23 يناير 2013، وقد تطرق السلطان قابوس إلى النتائج التي خرجت بها الندوة التي أقيمت بسيح الشامخات، وقال عنها: «هذه أول مرة تخرج ندوة بقرارات وليس بتوصيات، كان في الماضي توصيات والتوصيات يؤخذ ببعضها ولا يؤخذ بالبعض الآخر لكن من الآن وصاعدًا إذا كانت هناك ندوات ستكون ندوات تقرر وليست توصي.. وهذه أول ندوة أقيمت من أجل أن تخرج بقرارات وخرجت بقرارات طيبة جدًا وهي 14 قرارًا وهي قرارات ملزمة وليست مجرد قرارات سوف يتخذ فيها إجراء.. وكما هو معلوم أيضا أنها مرتبطة بفترات زمنية بعضها فوري وبعضها سيأتي تباعا».

من تلك القرارات: تخصيص أراض للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة وتخصيص نسبة 10 بالمائة من المناقصات للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة وتشجيع ريادة الأعمال بشكل عام في البلاد.

مستويات عديدة

إذا كان من الصعب إحصاء كل البرامج والمشاريع التي تمخضت عن الجولات والرحلات السامية لجلالة السلطان قابوس - طيب الله ثراه -، على مدار خمسة عقود من الزمان تقريبًا، إذ أن هذه الجولات تعبر عن مجمل متجسد الدولة العمانية الحديثة، ورحلتها من النشأة إلى التطور، منذ 1970 وإلى اليوم، إلا أنه يمكن التوقف عند نماذج لأهم هذه المشاريع التي جاءت كنتاج لهذه الرحلة الطويلة والمستمرة من العمل الكثيف والمتواصل عبر هذه العقود من مشروعات تطوير القوى العاملة الوطنية عبر الندوات التي انعقدت في هذا الإطار، إلى مشروع المليون نخلة ومشروعات المرأة وغيرها من المشاريع المبكرة التي اهتمت بسائر نواحي التنمية والزراعة وغيرها من القضايا في الصناعة والإنتاج والتنويع الاقتصادي.بشكل عام فإنه يمكن تقسيم هذه النتائج والمشروعات والبرامج إلى مستويات سياسية واقتصادية واجتماعية يمكن أن نلخصها في صيغة الإيلاف العماني، الذي تحقق بفضل الرؤية السامية لجلالة السلطان قابوس لعُمان الحديثة، هذه الرؤية التي بدأت كفكرة ثم رأت النور عبر التضافر الجمعي وتعاون المواطنين في أداء هذا «الواجب» الوطني وفق ما عبر عنه جلالة السلطان رحمه الله في مطلع السبعينات.

لكن من ناحية واقعية في القراءة والرؤية فإن هذه المستويات هي متداخلة، حيث يصعب الفصل بينها، لهذا فإن البعد الأكثر حداثة في النظر يقوم على النظر إلى جملة المكتسبات في شكل كلي على أنه يتجلى في كل مفاصل الحياة العمانية، وهو المنظار الأوسع والأشمل.