الملف السياسي

«خطة السلام» في موازين النقد الإسرائيلي والأمريكي

17 فبراير 2020
17 فبراير 2020

صلاح أبو نار -

في 28 يناير شهد البيت الأبيض ميلاد صفقة القرن، بعد عامين كاملين من اكتمال تكوينها شهدا مالا يقل عن محاولتين فاشلتين لإخراجها للنور. ولم تكن الصدمة التي حلت بقطاع واسع من المتابعين نابعة من مجرد المعرفة، فكل أساسيات الوثيقة المعلنة تقريبا كانت معروفة في خطوطها العامة. بل كان مصدرها السياق السياسي الخاص الذي حسم توقيت الإعلان، والمعرفة التفصيلية بما كان مطروحا في عمومياته، والأهم الطابع الاقتصادي الصرف المهيمن على حل مطروح لصراع تاريخي معقد وشائك.

من ضمن 181 صفحة شكلت صفحات الوثيقة، المسماة: «السلام من أجل الازدهار. رؤية من أجل تحسين حياة الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي»، شغل القسم السياسي 53 صفحة فقط، بينما تضخم القسم الاقتصادي ليحتل 122 صفحة، مصاغة بطريقة تذكرنا بكراسات التسويق المرفقة بصناديق شحن السلع الكهربائية.

وكان من الطبيعي أن تجد تلك الخطة صفوفا من المرحبين، ولكن النظرة الموضوعية تفيد أن كتلة الناقدين ليست فقط أوسع من المؤيدين، بل أيضا أكثر موضوعية وأبعد نظرا. وتمنحنا آراء الناقدين منظورا جيدا لنقد الخطة. وهنا لن نلجأ للاستعانة بآراء عربية أو فلسطينية أو حتى أوروبية، مع وفرة الموضوعي منها. بل سنكتفي بتحليل آراء قدمتها دوائر وشخصيات أمريكية وإسرائيلية، نافذة فكريا أو ذات تاريخ مشهود في مؤسسات بلادها السياسية.

ما الذي تخبرنا به تلك الانتقادات الإسرائيلية؟

تخبرنا أن الخطة الأمريكية ليست في النهاية سوى الحصيلة العملية لسياسات واقعية استمرت طويلا، أو بكلمات أخرى: «التحول لاستخدام اللغة السياسية والقانونية المباشرة المعبرة عما يجري في الواقع». كتب يوسي بيلين المعلق السياسي الإسرائيلي في المونيتور: «ما قدمه الأمريكيون والإسرائيليون هو اتفاق إسرائيلي- أمريكي يطرح على الفلسطينيين الحقائق الموجودة على الأرض فعلا». وإذا كانت حقائق الأمر الواقع قد تراكمت على مدى عقود، فإن عملية نقل الأمر الواقع إلى مستوى المعايير القانونية المنظمة للعلاقة مع الفلسطينيين، انطلقت فعليا مع ترامب خلال سنوات حكمه.

كتب المحلل الإسرائيلي نيمرود جوردون في جيروزاليم بوست: «انتهجت إدارة ترامب سلسلة من التدابير عززت مبادئ الخطة قبل إعلانها. فامتنعت عن الاعتراف بالتزامات أمريكا السابقة بحل الدولتين، وغيرت الموقف الأمريكي التقليدي من القدس، ومارست انتقادات شديدة ومتواصلة للقيادة الفلسطينية وسعت لنزع شرعيتها، وقلصت الأموال الموجهة للمؤسسات الفلسطينية والدولية، ووافقت علي مشاريع الاستيطان، وعقدت مناقشات وقمم استبعدت فيها السلطة الفلسطينية». وكان الوجه الآخر لإهدار الجذر السياسي للصراع تبني الخطة لسياسة تعويض الفلسطينيين من خلال الإغراءات الاقتصادية.

لاحظ يوسي بيلين: «الواقع أن المكون الاقتصادي الموجود في الخطة، يحتوي علي ما هو أكثر من تقديم أشجار تثمر مبالغ ضخمة. فهو محاولة لجعل الفلسطينيين يدركون أنهم سيتلقون تعويضا ماليا، مقابل حرمانهم من حل الجزء المهم والأساسي من مشكلتهم». وهو نفس ما يشير إليه إبراهام بن تسفي في «إسرائيل تو داي»، في حديثه المعجب عن نجاح ترامب في خلق دينامية سياسية جديدة، عبر «طرح حزمة من العوامل الاقتصادية، تستهدف تعويض الفلسطينيين عن القيود المفروضة على تطلعاتهم الخاصة بحق العودة وطبيعة الدولة الفلسطينية». وهذه النزعة ذاتها بتجلياتها العديدة في صفحات الوثيقة، يقيمها دانيل ليفي المفاوض الإسرائيلي السابق هكذا: «وحتى ينتهي المرء من قراءة صفحات الوثيقة، وإن لم يكن يعرف جيدا التاريخ الحقيقي للصراع، سيكون من الصعب عليه أن يقدر مدى الاحتقار الذي تحمله تجاه الفلسطينيين، وروح الاستعلاء العنصري الاستعماري الذي يتخللها».

في منتدي سياسي وقف عامي ايالون الرئيس الأسبق لجهاز الأمن العام الإسرائيلي (شاباك) ينتقد مجمل التوجه السابق للخطة، فقال: «صفقة القرن هي خطأ استراتيجي، والبدء بنقاش الطابع الاقتصادي للصفقة قبل الخوض في المسائل الجوهرية هو خطيئة لا تغتفر. وإذا كان لدى الإسرائيليين من يعرف تاريخ الصراع عبر العقود الثلاثة الأخيرة، فهو يعلم أن هذه الخطة نسخة طبق الأصل مما كان يسمي سابقا السلام الاقتصادي وقبل ذلك الشرق الأوسط الجديد.» ثم يستطرد أن هذه الخطة: «صفعة مجلجلة للفلسطينيين، وعدم فهم للطموحات الوطنية للشعب الفلسطيني، ولو كان في الإمكان شراء الفلسطينيين بالأموال لكي يتنازلوا عن آمالهم الوطنية، لكان هذا الأمر قد حدث من قبل. وبالتالي لسنا هنا أمام عدم فهم للقضية فقط، بل أيضا أمام نمط تفكير غير أخلاقي بالمرة ويفتقر للمصداقية. «وهو جوهر مقاله المعلق الإسرائيلي التلفزيوني اميت سيجال باختصار بليغ: «عندما حصلت إسرائيل على كل ما تريده ودونما شروط، أصبح على الفلسطينيين أن يمروا بطبقات الجحيم السبع إذا أرادوا الحصول علي حقوقهم.» ثم يأتي جدعون ليفي في هاآرتس ليضع الطرح السابق في إطار أوسع: «ترامب لم يوجد فقط إسرائيل جديدة، ولكنه أوجد أيضا عالما جديدا، عالما بلا قانون دولي، ودونما أي احترام للقرارات الدولية، ودونما حتى التظاهر باحترام العدالة».

وماذا بشأن الانتقادات الأمريكية؟

أول ما يلفت الانتباه وجود شبه الإجماع على تحديد أسباب توقيت إعلان الخطة. جاء في خطاب أرسله 12 سيناتورا للرئيس: «نرى أن توقيت إعلان هذا الاقتراح المتوافق مع توجيه الاتهام بالرشوة لرئيس الوزراء الإسرائيلي، يثير أسئلة مثيرة للانزعاج بشأن وجود نوايا للتدخل في الانتخابات الإسرائيلية، ولهذا طالب سياسيون إسرائيليون بارزون بتأجيل إعلان الخطة حتى ما بعد الانتخابات المقررة في 2 مارس». وهو نفس ما سنجده في خطاب أرسله إلى الرئيس 30 مسؤولا أمريكيا سابقا عملوا في البيت الأبيض والخارجية الأمريكية، مع إضافة عامل سعى ترامب لدعم موقفه الانتخابي، وما سنجده في تعليقات لفيليب جوردون في مقالة على موقع مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي وايشان ثارور في واشنطون بوست وآرون ديفيد ميللر في بوليتيكو.

وثاني ما يلفت الانتباه تشديد الناقدين على أن الخطة المستهدف فرضها هي تتويج عملي لسياسات القوة وفرض الأمر الواقع التي يمارسها الإسرائيليون وجاء ترامب لمنحها الشرعية، وهي أيضا قطيعة كاملة مع القواعد التي اعتمدتها الدبلوماسية الأمريكية تجاه المشكلة على مدى عقود، وهي تسعى عمليا لإعطاء ضوء أخضر لإسرائيل للمزيد من الضم وفرض حقائق جديدة.

وثالث ما يلفت الانتباه هو أن الخطة في سعيها السابق ذكره ترتكب أكثر من خطأ سيحكم عليها بالفشل الأكيد. فهي تتجاهل أنها تتعامل مع حركة وطنية لشعب يسعي لممارسة حقه في تقرير مصيره، وهي في تجاهلها هذا تطالب هذا الشعب بالتخلي عن كرامته وأحلامه وتاريخه على مدى عقود طويلة، وهي في إصرارها علي ما سبق لا ترى سوى ردود الفعل العربية الآنية والمباشرة والمؤقتة الأمر الذي يدفعها نحو التمادي، وهي تدعم وهمها السابق بوهم آخر يجعلها تتخيل إمكانية ضمان استمرارية هذا العجز وشراء تعاون الفلسطينيين عبر سياسة الإغداق الاقتصادي.

ورابع ما يلفت الانتباه هو أن هذا الحل ضار بأمريكا ومعها إسرائيل، فهي بموقفها من القدس ووادي الأردن تضع علاقاتها مع حلفائها العرب في وجه رياح ستكلفها خسائر جسيمة، وهي في تصورها لشكل الوجود الفلسطيني في شكل معازل مفتقرة للتواصل الجغرافي وفاقدة للسيادة السياسية ولا يتمتع فيها الفلسطينيون بحقوق المواطنة تحول إسرائيل لدولة ابارتهيد، وهي تضع نفسها في وجه الشرعية والإجماع الدوليين وبالتالي سيظل الموقف دائما مثيرا للنزاعات وخالقا للصدوع السياسية.

كتب ديفيد ميللر بشأن السياق المشكل لخطة السلام: «للخطة أهداف كثيرة ليس من ضمنها تحقيق السلام. فلا مفاوضات تشكل بداية لانطلاقها، ولا تقريب بين الطرفين من اجل البدء في عملية المساومة، ولا حتى الإعلاء من شأن تفاهمات ضمنية، أملا في أن يعلن الطرفان التزامهما بها». ويستكمل فيليب جوردون الصورة: «تبدو الخطة تقنينا للوضع الإسرائيلي الراهن، أكثر من كونها اقتراحا جادا بمفاوضات سلام.

ففي كل القضايا الكبرى، من أول الأمن مرورا بالأراضي المحتلة والقدس، تخبر الإدارة الأمريكية الفلسطينيين بوضوح أن عليهم التراجع عن كل مطالبهم، والإقرار بأنهم هزموا والقبول بالحقائق التي تم تأسيسها على الأرض».

وخلف الخطة يقف بكلمات ميللر: «إيمان بالقوة واستخدام القوة» دفعها لاتخاذ قرارات ضخمة، وعندما مر كل قرار منها دونما رد فعل عربي حاسم، جعلها هذا: «أكثر ثقة وجرأه في سعيها لفرض إرادتها، وأكثر قناعة بقدرتها على فعل ما تريد بمجرد الإصرار على فرض إرادتها».

ومن شأن هذا أن يدمر الثقة في الدور الأمريكي. وكما عبر خطاب السيناتورات: «لقد قامت إدارتكم بعكس المسار الذي انتهجه كل الرؤساء السابقين على مدى عقود، والذي مكنهم من الاحتفاظ باحترام الإسرائيليين والفلسطينيين للدور الأمريكي، كدور جدير بالثقة في مفاوضات صعبة. تلك الثقة التي دمرها تحرككم الأخير وجعلها مستحيلة».

وهكذا تبدو الخطة بكلمات شادي حميد: «قائمة على دعوة الفلسطينيين للمساومة على كرامتهم وتدمير إرادتهم، أملا في أن يؤدي اليأس يوما ما بهم إلى الإذعان». ولكن لما كانت الخطة تراهن فقط على الإغراءات الاقتصادية، يحذر شبلي تلحمي: «أن نفترض أن الوعد بتحسين الأوضاع الاقتصادية، سيكون من شأنه أن يغلب ويتخطى الآمال الإنسانية لشعب ناضل عقودا من أجلها، لا يعني هذا سوى تجاهل طبيعة الحقائق الإنسانية».