ghada
ghada
أعمدة

ثقافـة المقـاهـي

14 فبراير 2020
14 فبراير 2020

غادة الأحمد -

يجمع المشتغلون بالكتابة والثقافة عامة على ممارسة اتفاق، غير معلن، لكنه شديد الوضوح، يضع حدوداً بين كلامهم الشفوي وكتاباتهم، والحدود إنما علامة تمييز وتباين وفصل لا لبس فيه.

والفصل بين التداول الكلامي الشفوي من جهة وبين الكتابة من جهة أخرى له تبريرات عديدة كل منها كاف إذا أخذنا بعين الاعتبار أن كل «ثرثرة» أو كلام يصدر مباشرة دون وقت طويل من التفكير، لهو أخف مسؤولية من الجملة المكتوبة، والأهم، هو أقصر عمراً، وكذلك محدود الانتشار.

ومن هذه الناحية نستطيع دون تمحيص أن نؤيد أو نعارض أو نحكم بعبارات غير دقيقة على المشهد الثقافي في بلداننا وأخص «سورية» في جلساتنا في المقاهي والنوادي، بجدية نسبية لا تقارن بجدية التصريح المكتوب ومسؤوليته. وعلى هذا الاعتبار فإننا نتساهل مع أنفسنا طلوعاً ونزولاً في جلسات الليل ومجالس المقهى بل ثمة إجماع أن لا جمارك على الكلام، وغالباً ما تكون الشهادة القائمة على السماع ضعيفة جداً وقد لا يؤخذ بها على الإطلاق.

والثقافة على تنوع معانيها إنما هي صقل الكلام والأفكار تمهيداً لصوغها مادة مكتوبة أي أن الثقافة غالباً ما هي صنعة مهنة التدوين والتعبير الموثق، المشغول بأناة وصبر، استدراكاً منها لمسؤوليتها وديمومتها كمادة تطمح للتأريخ والتداول كما هي، بكل أصالتها، مؤرشفة ومكتملة، ولا مجال للتبديل في طبيعتها، فالكتابة ـ أي التدوين ـ إنما هي شهادة مغلقة تؤخذ بكليتها الصلبة وبداهة حقيقتها، وباختفاء المادة المدونة ربما لا تستطيع اكتشاف حضارة على الرغم من أن تواتر الحكايات والقص قد يعطي إيحاءات وإشارات كثيرة إلى حدث وحادث وتعبير وإرث وتاريخ، إلا أنَّ ما هو مدّون وحده يقدم الدليل أو يعدمه.

ولا يسعنا إنكار أن كل ما هو شفوي، له ثقافته وأنساقه وآدابه، ولياقاته، وقواعده، وغالباً ما يكون التدوين أو فعل الكتابة له أصله الشفوي الذي عليه ارتقاء مراتب متعددة والمرور بمراحل كثيرة من التحول ليصبح لغة مكتوبة لها قوام التدوين وبنيان الإنشاء. ولا يلزمنا جهد كبير لنستنتج أن ثمة ثقافتين (شفاهية ـ كتابية) منفصلتان وإن كانت هناك قنوات غير محصورة تربطهما وتديم اتصالهما وتبادل تأثرهما ببعضهما البعض، فنحن في اللغة العامية إنما نستعمل ثقافة عامة تتسع معانيها وتضيق وتتأرجح وتنحرف وفق مراتب اجتماعية وبنيوية (الضواحي، القرى، المدن، الأمي، المتعلم، والجامعي، الغني، الفقير إلخ) في حين أن الكتابة وإن كانت تستجيب لهذه التأثيرات إلا أنها تنفعل بطرق أخرى وتعبر عنها بمظاهر متباينة، فاللغة الفصحى كائن تاريخي ثابت المعاني والدلالات بنسبة عالية. والحديث الشفوي حين يخرج فهو يخرج مباشرة وبالصوت ولا نملك القدرة على استرداده وضبطه وإبطائه مثلما نفعل في الكتابة التي تتعرض قبل إعلانها لعمليات تشذيب وحذف وتصحيح قدر ما نشاء، وعلى هذه الأساس تختلف المسؤولية هنا وهناك اختلافاً بيناً.

ولا غضاضة أن أشير ثانية إلى أن عموم المثقفين عادة ما يحملون الآراء الشفوية مسؤولية أقل من الرأي المكتوب، وعلى الأغلب فإن الخلط بين الأمرين يؤدي إلى جملة مواقف واستنتاجات اعتباطية، أما إذا أصبحت الثقافة المكتوبة رديفاً دونما فواصل للثقافة الشفوية فعند هذا الحدّ، قد نجد صعوبة في تعيين الثقافة وتنسيقها وترتيبها والأخذ بها فهي عند ذاك تصير ملامحها بدائية ومشاعة وعمومية إلى أقصى حد ومن سماتها الخفة والتلاشي والميوعة.

فالكتابات النقدية التي لا أساس اليوم لها إلا الكلام الشفوي «النميمة» وتقوم على آراء اعتباطية شفوية ومقهوية «المقهى» وتخلط قصداً بين نسقين وثقافتين ولغتين في نية واضحة للوصول إلى محصلة مفادها أن الثقافة والمثقفين إنما يؤخذون من حوادث عارضة وخواطر عابرة، لا من نصوصهم ونتاجاتهم وكتاباتهم ومقالاتهم ومساواة «النص» لصاحبه مما أدى إلى اختصار الثقافة على نتوءات ونوافل الحياة الاجتماعية؛ مما عوّم ثقافة «المقاهي» ونقد الأخوانيات أو النقد القائم على التجريج والإساءة والإلغاء وهي ثقافة باتت تشيع في عالمنا العربي على مختلف بلدانه.

إنني في هذا كله أود الإشارة إلى خطورة الحالة الثقافية المبنية على تغليب ما هو شفهي «على ما هو مدون» والثقافة التي نتجت من هذه الحالة ثقافة تستند إلى آراء اعتباطية وتعسفية وقمعية نتج عنها تراجع وضمور الحالة الثقافية الصحيحة المستندة إلى إعمال العقل في النقد وتوجيه سهامه إلى النص لا إلى صاحبه لاستعادة حالة ثقافية غابت عن مشهدنا الثقافي الذي تحكمت فيه «نمائم المقاهي» زمناً طويلاً!