أفكار وآراء

خطة ترامب «غير العادلة» لا تترك شيئا للتفاوض

11 فبراير 2020
11 فبراير 2020

مارتن إنديك ترجمة: أحمد شافعي -

يستحق فريق الرئيس دونالد ترامب للسلام في الشرق الأوسط الثناء، فقد اقترح حلا شاملا وخلَّاقا للصراع الإسرائيلي الفلسطيني. وبرغم أن ترامب لا يدخر جهدا في إدانة جهود الإدارات السابقة الفاشلة، فقد اعتمد فريقه في واقع الأمر على مفاهيم الخطط السابقة ومبادئها وعلى صياغاتها اللفظية أيضا. غير أن الوسطاء الأمريكيين السابقين حاولوا إقامة قاعدة للاتفاق من خلال إقامة جسور تعبر بين المواقف المتفاوتة للطرفين. أما فريق ترامب فقد حلَّ القضايا ببساطة مستعينا على ذلك بخفة اليد: إذ قرَّر في جميع قضايا الوضع النهائي ـ أي الحدود والأمن والقدس واللاجئين والاعتراف المتبادل ـ مواقف محابية لإسرائيل حتى قبل أن يبدأ التفاوض.

على سبيل المثال، طالما أبدى المفاوضون الأمريكيون اهتماما خاصا بتأمين الحدود بين الأردن والدولة الفلسطينية المستقبلية خشية أن تصبح معبرا للأسلحة أو الإرهابيين إلى الضفة الغربية ومنها إلى إسرائيل. وفي فترة رئاسة الرئيس السابق باراك أوباما، وضع فريق من خبراء أمن أمريكيين ـ بالتشاور مع نظراء لهم إسرائيليين وفلسطينيين ـ خطة تستطيع قوات الأمن الفلسطينية بموجبها أن تتولى تدريجيا السيطرة على الحدود، وذلك على مدار عدة سنوات تتاح فيها للقوات الفلسطينية فرصة إظهار التزامها وقدراتها.

استعار فريق ترامب من تلك الخطة مفهوم إقامة معايير ومقاييس أمنية لتقدير التقدم الفلسطيني، لكنه بدلا من تطبيقها على الأمن الحدودي طبَّقها على الأمن الداخلي في الدولة الفلسطينية، جاعلا إسرائيل الحكم النهائي على الأداء الفلسطيني. في حين حلَّ مشكلة الأمن الحدودي بأن أعطى لإسرائيل كامل وادي الأردن بمنتهى البساطة. وهكذا تحيط خطة ترامب الدولة الفلسطينية بأراض إسرائيلية، قاطعة تماسها مع الأردن محيلة أريحا إلى جيب فلسطيني وجاعلة من الدولة الفلسطينية مستعمرة محاصرة.

بالمثل، كافحت مفاوضات سابقة من أجل المصالحة بين المطالبات المتنافسة بالسيادة على القدس، خاصة القسم المقدس الذي يضم المدينة القديمة والمقدسات المسيحية والإسلامية واليهودية. في الماضي سعت المفاوضات إلى حل قضية السيادة من خلال حكم مشترك للمدينة القديمة، وبدلا من ذلك حلَّ فريق ترامب القضية بمنح إسرائيل السيادة على المنطقة كاملة دون استثناء للحيين المسيحي والمسلم والمسجد الأقصى.

وفي حين أن اليهود قادرون منذ 52 عاما على زيارة الموقع المعروف بجبل الهيكل لدى اليهود وبالحرم الشريف لدى المسلمين، لكن الحكومات الإسرائيلية المتتابعة لم تسمح ـ بسبب الحساسيات الدينية ـ لغير المسلمين بالصلاة هناك. وبات ذلك جزءا من الوضع القائم الحاكم لإدارة المواقع المقدسة. وتلتزم خطة ترامب بالحفاظ على هذا الوضع القائم، لكنها تسمح أيضا لليهود بالصلاة في جبل الهيكل وهذا في واقع الأمر انحراف ملتهب.

وعلى سبيل تعويض الفلسطينيين عن مطالبتهم بالسيادة على الحرم الشريف ـ وهو ثالث أقدس المواقع الإسلامية ـ تعرض الخطة على الفلسطينيين مركزا سياحيا إلى شمال القدس ومسارا إلى المواقع الإسلامية والمسيحية خاضعا للسيطرة الإسرائيلية. وهذه نوعية العروض التي رفضها ياسر عرفات في كامب ديفيد في يوليو سنة 2000 قائلا للرئيس بيل كلينتون إنه لو قبل بها لما انتظر من شعبه أن يقتله، بل لبادر هو إلى قتل نفسه.

كما تتخلى خطة ترامب عن صيغ أضنى المفاوضين عن الوصول إليها ، مؤثرا عليها صيغا سافرة تؤصل الظلم والاختلال. فعلى سبيل المثال، ظلت قواعد المحاصصة ـ منذ إدارة كلينتون ـ في جميع العروض الأمريكية المتعلقة بالقدس تنص على بقاء الضواحي العربية في القدس الشرقية تحت السيادة الفلسطينية وبقاء الضواحي اليهودية تحت السيادة الإسرائيلية. أما خطة ترامب فتضع أغلب الضواحي العربية في القدس الشرقية تحت السيادة الإسرائيلية غير تاركة للفلسطينيين إلا ضاحية عربية واحدة ومخيما للاجئين في الجانب الشرقي من الجدار تخلت عنه إسرائيل خلال الانتفاضة الثانية. وعلى هذه الشظية من القدس الشرقية يقال للفلسطينيين الآن إن بوسعهم إقامة عاصمتهم منفصلةً بجدار عن كل من المسجد الأقصى وعن 300 ألف مقيم فلسطيني في القدس الشرقية.

أما عن المستوطنات، فقد نظر المفاوضون الإسرائيليون والفلسطينيون سابقا في ضم إسرائيل لكتل المستوطنات الرئيسية الواقعة بمحاذاة حدود 1967 بين إسرائيل والضفة الغربية ما دام الفلسطينيون سيحصلون على أرض مساوية من إسرائيل تعويضا لهم. وفي ظل اتفاقية كهذه، تستوعب إسرائيل 85% من المستوطنين المقيمين على ما بين 3 و5% من أرض الضفة الغربية. أما المستوطنات البعيدة الواقعة في قلب الضفة الغربية فتُخلَى للسماح بدولة فلسطينية متصلة الأرض. ولقد تبنَّى فريق ترامب للسلام فكرة تبادل الأرض ـ لكن الخطة تعرض أرضا جرداء على الحدود المصرية تعويضا عن ضم جميع مستوطنات الضفة الغربية إلى إسرائيل بما فيها المستوطنات البعيدة. وستكون النتيجة دولة فلسطينية شبيهة بالجبن السويسري بلا إمكانية للاتصال بين أراضيها. وبدلا من ذلك تقترح خطة ترامب اتصالا «نقليا» من خلال أنفاق تربط الجزر التابعة للسيادة للفلسطينية. وتلك الأنفاق سوف تخضع بالتأكيد للسيطرة الإسرائيلية.

كثير من الإسرائيليين والأمريكيين بل وبعض زعماء العرب حسني النية يوافقون الكاتب بريت ستيفنز على ما ذهب إليه أخيرا في نيويورك تايمز من أن الفلسطينيين «بصورة شبه حتمية، سوف يحصلون في الغد على ما هو أقل مما قد يرفضونه اليوم». فرئيس وزراء إسرائيل الأول ديفيد بن جوريون قبل في نهاية المطاف بالمساحة البسيطة التي منحتها له الأمم المتحدة سنة 1947 وأقام الدولة اليهودية عليها. بل إن عرض الأمم المتحدة ذلك لم يتضمن شذرة من القدس تكون عاصمة لإسرائيل، إذ ذهب العرض إلى أن تتبع المدينة إشرافا دوليا. وتذهب هذه الحجة إلى أن على الفلسطينيين أن يتبنوا نهجا مماثلا، فعليهم أن يقبلوا بالدولة الفلسطينية الضئيلة المعروضة عليهم ويساوموا من أجل شروط أفضل. والحق أن جاريد كوشنر ـ المهندس الأساسي لخطة ترامب ـ قد قال إن بوسع الفلسطينيين إذا لم تعجبهم بعض جوانب الخطة أن يناقشوا من أجل التغيير.

لكن هذه الحجة تتجاهل اختلال الخطة الهائل كنقطة انطلاق للمفاوضات. وتتجاهل حقيقة أن القليل الذي تعرضه خطة ترامب إنما يأتي مشفوعا بشروط قاسية: فمن أجل الحصول على هذا القدر البسيط، على السلطة الفلسطينية أولا أن تحقق معايير الديمقراطية الغربية، ثم عليها أن تتولى السيطرة على غزة وتنزع سلاح العناصر المسلحة فيها، وذلك أمر لا تملك السلطة وسائله. ثم إنه من الذي سوف يقضي بأن الحكومة الفلسطينية حققت هذه الاشتراطات؟ إسرائيل.

والأسوأ من ذلك، أن خطة ترامب معروضة بوصفها إملاء. فأعضاء فريق ترامب يتكلمون وكأن كل شيء قد تم الاتفاق عليه بالفعل بين ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو، فلم يبق لفريق أمريكي إسرائيلي ـ وليس فريقا إسرائيليا فلسطينيا ـ إلا أن يضع الخطوط النهائية لخريطة ترامب المحددة سلفا. وهذه المهمة ـ وكذلك تشكيل حكومة إسرائيلية جديدة بعد انتخابات الثاني من مارس ـ هي العقبة الوحيدة التي تعترض في ما يبدو طريق إسرائيل إلى ضم وادي الأردن وجميع المستوطنات بغض النظر عن وجود أي مفاوضات إسرائيلية فلسطينية من عدمه. ويوضح مهندسو خطة ترامب أن إسرائيل تحصل على جميع هذه المغانم في مقابل القبول بفكرة دولة فلسطينية والتخلي عن 30% من الضفة الغربية. فيحق للفلسطينيين أن يتساءلوا: ما الذي يبقى الآن للتفاوض؟

إن الحكومات الإسرائيلية تعارض منذ سنين أي حل مفروض، فالتزمت الإدارات الأمريكية بشرفٍ أن تجتنب أيَّ حل من هذا النوع. وها هو فريق ترامب قد طبخ ـ بعد تشاور حثيث مع نتانياهو وبلا تشاور مع المسؤولين الفلسطينيين ـ حلا شاملا للصراع الإسرائيلي الفلسطيني يبدو عازما أن يفرضه على الفلسطينيين. فلا عجب إذن في أن الفلسطينيين ينظرون إلى خطة ترامب فيعزفون عن الجلوس إلى طاولة التفاوض التي لا تميل ميلا شديدا إلى إسرائيل وحسب، بل إنها تعطي الجانب الآخر أعلى أوراق اللعب قيمة.

غير أن الفلسطينيين لا يستطيعون التغلب على شيء مستعينين بلا شيء. فرفضهم لخطة ترامب ـ وهو أمر حتمي في ضوء الشروط المعروضة ـ سوف يمنح نتانياهو مبررا للمضي قدما إلى ضم ما أنعم به ترامب عليه. وبدلا من ذلك، يجب أن تلتف القيادة الفلسطينية على خطة ترامب وتعلن عزمها الدخول في مفاوضات مباشرة مع حكومة إسرائيلية جديدة بعد انتخابات الثاني من مارس المقبل. ويجب أن تفعل ذلك بناء على القاعدة المتفق عليها مسبقا التي تتمثل في قرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة القائلة بحل الدولتين والأرض مقابل السلام. وبوسع القادة الفلسطينيين أيضا أن يستحضروا مبادرة الجامعة العربية التي تجعل الدول العربية الاثنتين والعشرين تطبّع مع إسرائيل بمجرد تمام الصفقة الفلسطينية. وهذه خطوة من شأنها أن تعزز الدعم العربي المزعزع وتنشئ تأييدا من المجتمع الدولي. ومن يدري؟ لعل عرضا فلسطينيا مضادا بالمحادثات المباشرة مع إسرائيل يرغم ترامب على التخلي عن فكرته والوقوف وراء نهج أكثر توازنا وواقعية لحل صراع القرن.

مجلة فورين أفيرز في 4 فبراير 2020

كاتب المقال زميل متميز لمجلس العلاقات الخارجية ومؤلف كتاب وشيك الصدور بعنوان «هنري كيسنجر وفن دبلوماسية الشرق الأوسط». سبق له العمل مبعوثا خاصا للمفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية، ووكيلا لوزارة الخارجية الأمريكية لشؤون الشرق الأوسط والأدنى، وسفيرا أمريكيا لدى إسرائيل