5556669
5556669
المنوعات

«لما البحر ينعس» جديد رؤوف مسعد المثقل بالرؤى والذكريات

31 يناير 2020
31 يناير 2020

ابن القسيس الذي سجنته الشيوعية يحلق فوق سنوات العمر -

يواصل الكاتب المصري رؤوف مسعد اتساقه مع الذات كإنسان وكاتب، ففي كتابه الجديد «لمَّا البحر ينعس» الصادر عن دار النسيم بالقاهرة كجزءٍ أول لمقاطع من حياة الكاتب، يحلق رؤوف كطائر فوق سنوات العمر الذي تعدى الثمانين عامًا، فيلتقط مواقف وأسماء بقيت في الذاكرة، ليعيد التذكر ـ وربما التذكير ـ بهؤلاء الذين تقاطعت حيواتهم مع حياته.

يستمد الكتاب عنوانه ـ

كما يشير الكاتب في استهلالهـ من ذلك الاعتقاد «الأسطوري» لجماعة من الصوفيين الذين يعتقدون أن النيل يدخل من وقت إلى آخر في نوبة نعاس، ومن شهد منهم نعاسه فهو المحظوظ الذي لو تمنى شيئًا لحدثَ، كالسير على الماء، أو الوجود في مكانين في وقت واحد! وهنا يمكن أن نتأول العنوان، فإذا كان العمر نهرًا فإن نعاسه سيصبح فرصة للكتابة عبر الحياة، والحياة عبر الكتابة، ما يعني الحلول بالذكرى والواقع في زمن واحد.

وتتجلى في الذاكرة اليقظة للكاتب أيامُ الطفولة والدراسة وسنوات «الصعلكة»، والأيام الصعبة في حياة العائلة، وآلام فترة السجن بين السودان ومصر، إذ يستعيدها بشفافية واختصار، وحتى ما قد يظنه المتجملون مُحرِجًا لا يتردد الكاتب غير المتجمل في ذكره فهو يتحدث بوضوح وبالأسماء عن الذين كانت لهم يدٌ في مساعدة أسرته ماديًا أثناء مرورها بظروف خاصة، تلاشت فيها قدرة الوالد ـ وهو العائل الوحيد للأسرة ـ على العمل نتيجة للمرض، كما يتحدث عن مساعدات أصدقائه له أثناء فترة انتهاء الدراسة وعقب خروجه من السجن، وكذلك عند عودته إلى القاهرة مفلسًا عام 1982 بعد أن أمضى 12 عامًا في بيروت! أمَّا الآثار السلبية التي تركتها فترة سجنه من عام 1960 وحتى عام 1964 على نفسه فتمثلت في عدم قدرته على احتمال الضجيج، واحتمائه خلف الأبواب المغلقة حتى ولو كان وحيدًا في بيته، بعد معاناته من انتهاك خصوصية الجسد في السجن الذي كان النوم فيه جماعيًا، وقضاء الحاجة في دورات مياهٍ منزوعة الأبواب!

وتتردد عبر صفحات الكتاب أماكن ومواقف وأسماء مهمةٌ، ففي الوقت الذي تجري فيه الكتابة عن شاعر العامية الكبير «فؤاد حداد» باحترام ومحبة، تَغمِزُ علي شاعرٍ آخر؛ فالأول فتح الطريق وأسس لشعر العامية المصرية، وعاش ومات فقيرًا، والثاني استفاد من جهود الأول باعتباره رائدًا، ولبس الحرير والياقوت حقيقةً لا مجازًا!

ولرؤوف مسعد أراء سلبية في محمود أمين العالم ويوسف إدريس وعبد الرحمن الأبنودي وآخرين ممن جمعته بهم الحياة والمواقف، لكنه يلمح دون أن يصرح، فهو ـ بحسب تأكيده ـ يكتب ذكريات لا مذكرات ولا يوميات، وهي ذكريات حرة أو شذرات، لا يتبع فيها منهجًا محددًا أو التزامًا زمنيًا خطيًا، وإن كان «التشذر» ذاته قد يعد منهجًا في الكتابة. غير أن التحرر من الالتزام الخطي قابله الكاتب بإلزام نفسه بعدم قول كل شيء عن أناس مروا في حياته، ولكنهم رحلوا الآن عن الحياة لا لشيءٍ سوى لأنهم لم يعد بوسعهم حق الرد.

هذا الموقف الأخلاقي لا يتعامل به رؤوف مسعد كاملًا مع الأشخاص الذين عبروا بحياته ولا يزالون على قيد الحياة فبإمكانهم الرد وتكذيبه أو الدفاع عن أنفسهم ومن بينهم الروائي صنع الله إبراهيم الذي ينصفه الكاتب في مواقف معينة وينعته في أخرى «بالحج إلى أمريكا»، وهو نعت يشبه الخربشة في لوحة للوجه المثالي لأحد رموز اليسار في الثقافة المصرية، كما أنه يشكك في المقدمة التي كتبها صنع الله لكتابه «يوميات الواحات» وأشار فيها إلى أنه كتب الكتاب أثناء وجوده في المعتقل. إذ لا يتذكر رؤوف مسعد ـ الذي التقاه في تلك الفترة خلف أسوار السجن ـ شيئًا من ذلك!

وبالنسبة لكاتب هو واحدٌ من أعلام الكتابة «الايروتيكية» في العالم العربي ـ وهي ليست كل ما يميز كتاباته بالتأكيد ـ فإن الكتابة عن المرأة والحب لم تكن لتغيب عن الذاكرة وهي تلتقط حبات الذكرى من شجرة العمر، فرؤوف مسعد الذي لا يستطيع أن يعيش دون أن يكون مشغولًا بامرأة سيتناثر وجود المرأة في كتابه كما في حياته مثل التماعات الضوء في ثنايا العتمة، وسيكتب عنها بحب ووله ورقة وتشريح: « في كتاباتي عن النساء أحاول أن أصل إليهن، إلى أعماقهن الخبيئة مثل «خبيئة أثرية» خبأها أصحابها خوفًا عليها من اللصوص وحماية لها من أيد عابثة لا تقدر جوهرها»، والنساء في حياته كما يصفهن: «قطبان سالب وموجب» و «هن أحيانًا متوحشات متغوِّلات» و «أحيانًا يكن مثل النسيم الرقيق يهفهفن على الجراح المُدماة». غير أن المفاجأة هي إزاحة الستار عن الجذور الواقعية لبعض شخصياته النسائية في روايتيه المهمتين «بيضة النعامة» و «دموع التماسيح».

وإذا كان الكتاب قد وقع في كثيرٍ من التكرار، حيث جرى تدوير بعض المواقف والأسماء تحت عناوين مختلفة، فإنه بحاجة إلى معالجة ذلك في طبعات أخرى قادمة، كما أنه بحاجة إلى تدقيق أن حملة يناير كانت في عام 1959 وليست في عام 1995 كما ذكر في (صفحة 48) وأن الدكتورة «ليلى سويف» وليست أختها الدكتورة «أهداف سويف» هي زوجة المحامي والناشط السياسي أحمد سيف الإسلام عبد الفتاح كما ورد في (صفحة 189). غير أن ذلك لا يمثل شيئًا أمام أهمية الكتاب بالنظر إليه كوثيقة أو شهادة كاتب ومثقف على أزمنةٍ وأناسٍ وأحداث تتوضح من خلالها ملامح من أوجه الحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية في مصر.

وفي هذا الكتاب الممتع ـ وكشأنه في مجمل أعماله الإبداعية ـ لا يكتب ابن القسيس الذي سُجن بسبب الشيوعية عن العالم عبر علاقته بالذات، بقدر ما يكتب عن الذات في علاقتها بالعالم، فتحمل كتابته خصوصية الروح التي لا تنفصل عن روح الكاتب القلقة والمثقلة بالحب والأحلام والكثير الكثير من الرؤى والذكريات.