1422143
1422143
عمان اليوم

السياسة العمانية .. ممارسـة «فن الممكـن» أمام تناقضـات أجـندات الأمـم

21 يناير 2020
21 يناير 2020

حافظت على مسار ثابت وصنعت فارقا على المسرح الدولي -

ســــالم بن حمــــد الجهـــــوري -

استطاعت السياسة العمانية أن توجد لها نهجًا بعيدًا عن المدارس التقليدية في إدارة الدول وعلاقاتها مع الآخرين خلال التجربة التي طبقها جلالة السلطان الراحل -طيب الله ثراه- في الخمسين عامًا الماضية، لتحقق بعد كل هذه السنوات نتائج ملهمة، وتحصد الإشادة بامتياز من العالم القريب والبعيد على نجاح هذا النهج الذي ارتكز على ثوابت مهمة جدًا، قلّ نظيره في فلسفة إدارة السياسة كواجهة لأي دولة يمكن أن تستغل كل مقوماتها وأن تبني عليها حاضرها ومستقبلها، وهذا ما جنّب عمان طيلة العقود الخمسين الماضية الكثير من المتاعب من القاصي والداني، وان تفتح عقلها وذراعيها للعالم مرحبة بهم والتعاون معهم في جعل هذا الكوكب أقل تناحرًا بين دوله، وهذا التقدير انعكس على الزخم الكبير الذي تلقته السلطنة من أطاف العالم خلال رحيل مؤسسها السلطان الراحل خلال الأيام الأخيرة، وهذا ما جعل كل الفرقاء يلتقون في مسقط على مختلف أطيافهم، وقبل ذلك ينشدون السلام منها.

لم تأت الممارسة السياسية التي اختطها جلالة السلطان الراحل من فراغ أو اجتهاد، بل كانت استحضارا للسياسة العمانية من عبق التاريخ، مرتكزة على ثوابت أساسية كانت هي الدافعة إلى تشكيل الفكر السياسي للسلطان الراحل، الذي استطاع أن يوظف كل تلك المعطيات في قالب عصري آمن به وزاد عليه من قناعاته ورؤيته، وأن عمان يمكنها التفوق في هذا الجانب، كيف لا وهي تملك هذا الإرث الزاخر من التمدد الجغرافي إلى عهد قريب واستطاعت أن تتعاطى مع القوى الكبرى المهيمنة في المنطقة والعالم تارة سلما وتارة حربا، وهي تستلهم من تلك الأفكار للائمة والسلاطين على مر التاريخ.

ثوابت شكّلت المستقبل

شكلت الثوابت السابقة قوة الدفع التي سارت عليها السياسة العمانية لعل أبرزها الإرث الحضاري والتاريخي والديني

إلى جانب أخرى، لعل العامل الحضاري في تشكيل الدولة العمانية وما تميز به خلال الحقب التي مر بها طيلة العصور القديمة والحديثة كان ميراثا غنيا من تلك التجارب المستخلصة حول إدارة الحكم قدمت تجربة سياسية ناضجة للعهد الجديد الذي وظفها في سياقاته المتعددة، ورغم تعدد الأسر التي حكمت عمان والتي برزت في أواخرها النباهنة واليعاربة والبوسعيد، فإن الممارسة السياسية في الداخل والخارج كان لها تلك الثوابت العقلانية بعدم التدخل في شؤون الغير والانحياز إلى فئة أخرى، والتمترس في أحلاف لا تزيد إلا الفرقة.

ثانيا: العامل التاريخي الذي تميزت به السلطنة على مدى قرون من العلاقات الناجحة مع الغير والتي تواصلت فيها عمان عبر قنواتها الدبلوماسية بدءًا مع الفراعنة قبل 3500 عام ثم مع الصين منذ 1400 عام، وكان اقدمها زيارة وفد عماني بقيادة أبو عبيدة عبدالله بن القاسم، ومع الحضارات الأخرى التي قامت في المنطقة كالسومرية والفينيقية والبابلية والفرعونية والرومانية، وصولا إلى العصر الحديث بالعلاقات التاريخية المتميزة مع المملكة المتحدة وهولندا وإسبانيا والبرتغال والهند واليابان وباعتراف عمان باستقلال الولايات المتحدة الأمريكية عندما أرسلت السفينة سلطانة وعلى متنها السفير أحمد بن نعمان الكعبي سنة (1840) م إلى نيويورك، والتي يستحضرها الأمريكيون كزيارة استثنائية في علاقاتهم مع الشرق، وتلك الزيارة للوفد العماني برئاسة أبو عبيد الله الصحاري على السفينة الشراعية إلى الصين، وأيضا التي يتذكرها الصينيون بكل فخر وكانت أحد أهم الزيارات التاريخية لهم من هذه المنطقة.

ثالثا: الجانب الديني الذي استمدت أيضا بعض المبادئ التي تؤطر للعلاقات بين الجيران وكذا إضفاء عنصر النقاء والوضوح في كل التعاملات بين الأخوة والأصدقاء، والتعاون على البر والتقوى وتوحيد الجهود والتشاور في المنشط والمكرة، كل هذه شكلت كل تلك الملامح المهمة والمؤثرة جانبًا مشرقًا من السياسة العمانية.

الدبلوماسية الهادئة

استطاعت الدبلوماسية الهادئة التي انتهجت منذ بواكير النهضة في التعبير عن المواقف بشيء من التحضر، أن تأسر الآخرين، بعيدة عن ردة الفعل السريعة التي عادة ما تأخذ المواقف السياسية للدول إلى مساحات بعيدة عن المعالجات، ورغم ما تعرضت له السلطنة من بعض المواقف المتضادة معها إلا أن مسقط لم تتوقف عندها كثيرا بل فسحت لها المجال أن تمر إلى الماضي الذي سيكون كفيلا أن يطوي تلك الصفحات، وحتى في المواقف الغاضبة كانت السلطنة «تغضب بصمت» وتتعامل مع الجيران في أشد المواقف «بلطف» وهذه الدبلوماسية الناعمة كانت كفيلة أن تتخطى العديد من الصعاب، وأن تبقي حبال الود قائمة وغير مقطوعة، واستطاعت أن تجعل من الآخرين يراجعون مواقفهم ويتراجعون عنها وبعد حين، ولعل ما خاضته السلطنة في بواكير عهدها مع الداعمين لما يزعم بثورة ظفار من مواقف، كان كفيلا أن يكون درسًا مهمًا في التعاطي السياسي الهادئ، فبعد انتهائها مدت عمان يدها كبادرة سلام رغم «سلام المنتصرين» لكل من دعم تلك الثورة المزعومة، فباتوا اليوم من اقرب الدول للسلطنة في مواقفها، ومع مرور الوقت قدمت لهم كل ما يمكن من عون ومساعدة في مجالات عدة ولم تنتقم لتلك المواقف التي طواها التاريخ التي أبدوها للإضرار بعمان التي أظهرت نبلا راقيا في التعاطي الدبلوماسي معها.

وهكذا أراد جلالة السلطان الراحل أن يكون المسلك السياسي لعمان أن لا تعامل الآخرين بما يعاملونها به من مسلك، وإنما أن تعاملهم بنبل أخلاقها التي غرسها القائد الراحل رغم أن ذلك كلف السلطنة في بعض الأوقات التنازل من اجل الحفاظ على الجار.

هذه الدبلوماسية الناعمة التي اختارتها السلطنة كان لها مردودها على المدى البعيد، وحصدت منها تلك القيمة والموثوقية التي تميزت بها وجعلتها محط أنظار العالم الذي استمع عن قرب في مسقط وعواصم العالم ومنابر الأمم المتحدة للخطاب السياسي العماني الذي حدد المسارات والخطوط في كل المناسبات.

الواقعية العقلانية

شكلت الواقعية العقلانية حجر الزاوية في النموذج السياسي العماني الذي أثبت مع الأيام صدق ذلك التشخيص الدقيق للمستقبل والوضوح في تلك القراءة المتأنية دون التأثر بالمعطيات الأخرى التي قد تشوش على تلك الرؤية المتأنية، وتجلت في المواقف التي اتخذتها السلطنة بدءًا من حرب 73 التي خاضها العرب مع الكيان الإسرائيلي وانتهت بانتصار السادس من أكتوبر «العاشر من رمضان» والذي أعاد بعضا من الهيبة العربية.

ثم ذلك الاصطفاف العماني مع القاهرة في اتفاقية كامب ديفيد التي وقعت بين مصر وإسرائيل، والتي رأت فيها النظرة العمانية خطوة للأمام نحو دعم السلام بين البلدين والذي أسس لهدنة استمرت اكثر من 40 عامًا، في الوقت الذي قاطع العرب القاهرة وذهب بهم الحال إلى نقل جامعة الدول العربية إلى تونس، ثم عادت العرب من البوابة العمانية إلى القاهرة بعد قرابة 8 سنوات من الجفاء.

لتواصل السياسة العمانية خطواتها الواثقة في دعم تأسيس مجلس التعاون لدول الخليج العربي الذي رأي النور في 1981في العاصمة أبوظبي ليستمر هذا الكيان رغم العواصف العاتية التي وقف أمامها صلبًا وصلدًا، بإرادة أصحاب الجلالة والسمو، وفي مقدمتهم جلالة السلطان الراحل، الذي استطاع مع أشقائه أن يوازنوا بين المخاطر والسلام، واندلعت مع انطلاق المجلس الحرب العراقية الإيرانية التي أحرقت الحجر والبشر، واستمرت الجهود العمانية اليومية لإطفائها وفلحت مع جهود أخرى بعد 8 سنوات لم تقطع فيها مسقط العلاقة مع أي من الطرفين، بل استطاعت أن تقرب بين وجهات النظر ودعم الجهود الدولية.

ثم كان لعمان ذلك الموقف الرائع من غزو العراق للكويت في الثاني من أغسطس 1990، حيث دفعت السلطنة بقواتها إلى جانب قوات الأشقاء في مجلس التعاون وكانت أول الواصلين إلى أرض المعركة في الخفجي بشمال بالمملكة العربية السعودية حتى تم بالتعاون مع قوات التحالف الدولية زحزحة الاحتلال إلى الحدود العراقية، وعارضت الغزو الأمريكي للعراق وقالت موقفها بوضوح: إن ذلك ستكون له أضرار على المدى البعيد وها نحن نعايش عدم الاستقرار العراقي إلى اليوم.

وكان للسلطنة مواقف مساندة للقضية الفلسطينية التي جاءت واضحة بأن لا علاقات مع إسرائيل حتى قيام الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية وإطلاق سراح السجناء ودعمت التحرك الفلسطيني في نضاله الدبلوماسي في المنابر الدولية، واستنكرت قيام إسرائيل ببناء المستوطنات والتوسع على الأرض بهدم منازل الفلسطينيين واغتيالهم في الميادين والأماكن العامة وفي الحواجز العسكرية التي تقيمها على الأرض وحصار غزة، وقدمت العديد من المساعدات في مسارات عدة للقضية الفلسطينية واستضافت 3 زيارات لكل من رؤساء الوزرات الإسرائيلية بدءا برابين وشمعون بيريز في منتصف التسعينات من القرن الماضي، وبنيامين نتانياهو خلال العام الماضي سعيا لإيجاد مخرج للسلام الذي رفضته إسرائيل في كل مرة. وفي ملفات الأزمات العربية في اليمن كانت على مسافة واحدة من الجميع الذين التقوا على ارض السلطنة بغية التوصل إلى اتفاق تاريخي يعيد لليمن الاستقرار والأمن ويحقن دماء الأبرياء، وكذا الحال في الأزمة الليبية وأيضا كانت السلطنة محطة حوار بين الجانبين الأمريكي والإيراني في السنوات الماضية من خلال إنجاز الملف النووي الذي انسحبت منه واشنطن العام الماضي، وما زالت الجهود مستمرة لإعادة الطرفين إلى طاولة الحوار، وأيضا جسر عبور لتقريب وجهات النظر بين ضفتي الخليج.

الوضوح والشفافية

تميزت السياسة العمانية بالوضوح والشفافية وهذا ما جعل لها القدرة على التفوق وإعطائها الأفضلية في ثقة الآخرين بها، ولم يسجل العالم أو يلتبس عليه أن عمان لها أي أجندات خفية أو خاصة من أجل تمرير مراميها وغاياتها التي تراها هدفا لابد أن يتحقق وبأي ثمن، فكانت الدبلوماسية العمانية واضحة وضوح الشمس لا غبار عليها وقدمت مواقفها للعالم في إطار من الشفافية وإن اختلفت معها، كتبادل وجهات النظر الدائمة مع الولايات المتحدة الأمريكية، والمملكة المتحدة حول أوضاع المنطقة وقدمت وعبرت عن رأيها بكل وضوح، دون أن يكون لها موقف آخر مختلف عن الذي أعلنته للعيان. لذلك كان لتلك الممارسة السياسية التراكمية بعدا لدى الآخرين عزز الثقة ومكنها وضاعف الطمأنينة التي يرونها في عمان وضوحا في المواقف . لذلك اختبر العالم معدن السياسة العمانية ووقف على أبعادها وقدرتها على التعاطي وإقناع الآخرين كونها تقف على قاعدة من المبادئ التي لا تتغير ولعل أبرزها هذا الشق.

الثقة والاحترام

استطاع العالم أن يثق بشكل كبير في النهج السياسي العماني، بعد استيعابه للمحاور التي بنيت عليها ويأتي أبرزها الثقة والاحترام، فمنذ البواكير الأولى لسنوات النهضة، أكد جلالة السلطان الراحل -طيب الله ثراه- أن السلطنة لن تتدخل في شؤون الغير، كما أننا لا نقبل أن يتدخل الغير أيضا في شؤوننا، وهذا ما سارت عليه السياسة الحكيمة طوال الخمسين عاما الماضية، و أوجد احتراما كبيرا لعمان في أصقاع المعمورة، وكانت الدلائل شاهدة على كل المجالات السياسية التي خاضتها السلطنة وشكلت منها مواقفها المتواصلة، بعد أن استطاعت أن تقنع الكثير من الدول بهذه المبادئ والتي من بينها الثقة والاحترام وهو ما شكل جوهر نظام تلك العلاقات المتفردة، التي أتت أكلها بصورة ملفتة بعد 50 عاما.

ثم أن ذلك الاحترام الكبير الذي بادلت به السلطنة دول العالم التي حرصت على التواصل معها في السراء والضراء، جعلتها تؤمن بهذه الرسالة التي تحملها من ود للجميع وتآخي والتعبير عن قيمة أي نظام للدول في العالم، مما شجع الآخرين على حرص التواصل الدائم وبناء العلاقات الإيجابية وفتح آفاق التعاون في المجالات المتعددة وتنفيذ الزيارات بين المسؤولين لتبادل الخبرات والاستفادة من تجارب الآخرين.

مستقبل قائم على الثوابت

لذلك فإن السياسة العمانية تعد تاج النهضة العمانية التي قادها المغفور له بإذن الله حضرة صاحب الجلالة السلطان الراحل مؤسس عمان الحديثة، الذي أبهر العالم بتلك القدرة على كسب محبة الآخرين، وهذا ما تجلى في العديد من المواقف، وجنّب العمانيين الخوض في صراعات لا طائل منها، حرصا منه على مصالحهم والحفاظ عليهم لبناء مستقبلهم دون أن تكون لهم عداوات في العالم، وهذا ما حدث خاصة خلال السنوات العشر الماضية ، ولعل هذا الكم من المعزين والمهتمين من دول العالم كان له الأثر الأكبر بعد التوافد على مسقط من دول العالم قاطبة والاهتمام الإعلامي المميز خلال الأيام الماضية، لما تمثله عمان من قيمة سياسية وجغرافية وتاريخية وحضارية، وهذا ما عرف بمكانة عمان الكبيرة وقائدها بين هذا العالم المتعدد الاتجاهات الفكرية والإيديولوجيات التي يؤمن بها في التنوع السياسي، ودعما لسلطانها الجديد.