Untitled-1555
Untitled-1555
المنوعات

شهادة مثقف مصري على حقبة التحولات الكبرى

18 يناير 2020
18 يناير 2020

«كنت شابا في الثمانينيات»

إيهاب الملاح -

-1-

بعد أربع سنوات من صدور الجزء الأول من سيرته الثقافية والاجتماعية بعنوان «كنتُ صبيًا في السبعينيات» (يناير 2016، عن دار الكرمة للنشر والتوزيع)، يواصل الناقد والمثقف المصري القدير محمود عبد الشكور التجوال في سيرته الذاتية، خلال حقبة الثمانينيات التي ستشهد مرحلة الفتوة والشباب والانطلاق نحو اكتشاف الذات والعالم، بعيني طالبٍ جامعي متفوق وشاب طموح وواعد، سيقدَّر له أن يكون من بين أهم نقاد الثقافة والأدب والسينما في العالم العربي كلِّه منذ السنوات الأولى من الألفية الثالثة وحتى الآن.

تبدأ السيرة الثقافية والاجتماعية في هذا الجزء من العام 1980 ثم سنوات الجامعة (جامعة القاهرة) والتحاقه بكلية الإعلام، وتتوقف في أغسطس 1990 بالغزو العراقي للكويت، وإسدال الستار الحزين على ما كان يسمى بالتضامن العربي والوحدة العربية!

ومثلما سار في سرد الوقائع والأحداث في الجزء الأول، يسير على المنوال ذاته في الجزء الثاني، الذاكرة هي المنبع والمصب منها يمتح ويستلهم ثم يربط ويحلل، ويقدم خلاصة رؤيته في النهاية. نقطة البداية ستكون منذ الالتحاق بالجامعة وأربع سنوات في رحاب كلية الإعلام، ستقتضي انفصالا عن الأسرة واستقلالا بالذات والحديث عن تجربة شديدة الأهمية في حياة كل طالب مغترب هي تجربة «المدينة الجامعية» التي ستكون مكتظة بذكرياتها ووقائعها وشخوصها مازجا الذاتي بالموضوعي والشخصي بالعام.

لا ينسى محمود أبدا أنه «ناقد ثقافي» بكل معنى الكلمة، وأنه معني طوال الوقت برصد الظواهر الثقافية والاجتماعية وتأطيرها تاريخيا وفنيا، سيرصد مثلا تراجع حضور المذياع ودوره الكبير لحساب التلفزيون، يكشف عبد الشكور مظاهر تراجع هذا الدور «الراديوي» كثيرا بعد مرحلة الجامعة، واقتصر على متابعة الأخبار والأحداث الكبرى، يقول «تحدثت عن الراديو بشكل مفصل في مرحلة الدراسة الجامعية، وتحديدا عن نشرة «البي بي سي»، ومونت كارلو اليومية، وقد ذكرت أن أحد أسباب دهشتي مما حدث في الجامعة يوم تمرد الأمن المركزي عام 1986، أنني لم أكن سمعت في صباح ذلك اليوم بالتحديد، نشرة «البي بي سي» المعتادة، وكان ذلك استثناء لم يتكرر».

-2-

في دائرة الميديا والإنتاج الثقافي، سيرصد محمود عبد الشكور بعيني الناقد وحسه الدور الذي احتله التلفزيون بعد تراجع حضور الراديو

يذكر أنه كان يتابع التليفزيون بعد المرحلة الجامعية في منزله في أوقات الإجازة، ويصف في مشهدية عالية ورائقة انعزاله في البيت عقب غزو قوات صدام حسين للكويت لمشاهدة تطورات الأحداث في تلفزيون بيتهم بالصعيد، أو في المنزل الذي كان يقيم فيه بالقاهرة، حيث كان هناك في الشقق التي سكن فيها مع أصدقاء تلفزيونات ملونة، يقول «وتواصل اهتمامي بالذات بالأفلام الأجنبية، ولكن نسبة مشاهدة التليفزيون قلّت بشكل واضح، إما بسبب الانشغال في العمل الصباحي الصحفي، أو نتيجة الانهماك في القراءة».

من أهم ما سيقدمه عبد الشكور عن متابعاته التلفزيونية في ذلك تحليلاته النقدية لأعظم ما قدمته الدراما المصرية والعربية في الثمانينات، كانت الفترة التي تألق فيها الثنائي المدهش أسامة أنور عكاشة عميد الدراما التلفزيونية المصرية، وإسماعيل عبد الحافظ المخرج القدير.

في الفصل الخاص بالتلفزيون، سيتوقف محمود عند مسلسلات بعينها تابعتها في سنوات الثمانينات مثل «ليلة القبض على فاطمة»، و«رحلة السيد أبو العلا البشري»، كما تحدثت عن مناسبات استثنائية شاهدتُ فيها التلفزيون في أماكن غير متوقعة بالمرة، مثل مباراة مصر وهولندا التي شاهدتها في تلفزيون في حجرة بمطار القاهرة، لأنني كنت في استقبال أبي القادم من عمان في إجازة، وقد وصفت في الكتاب فرحة الناس بالمطار بهدف مجدي عبد الغني».

ومن الراديو والتلفزيون إلى أفلام السينما والأغاني والإعلانات إلى التطورات الاجتماعية والسياسية التي شهدها العالم كله في تلك الفترة وضمنها عالمنا العربي، كانت الصحافة المصرية والعربية في ذلك الوقت نشطة للغاية، وكان الحلم الكبير لكل طالب طموح في إعلام أن يسير على خطى أحد أعلام الصحافة في ذلك الوقت، محمد حسنين هيكل، وأحمد بهاء الدين، وجلال الحمامصي، وفتحي غانم، وصلاح الدين حافظ، ومصطفى أمين.. إلخ.

«كنتُ شابا في الثمانينيات ـ سيرة ثقافية واجتماعية» يدور بكامله خلال الفترة من 1980 إلى 1990 وهي الفترة التي تمنيتُ أنا شخصيا وكثيرا على عبد الشكور أن يسجلها بين دفتي كتاب؛ ذلك لأنني أعتقد أنها فترة مهمة للغاية وشهدت تحولات كبيرة وكانت بمثابة مرحلة انتقال بين عالم القرن العشرين الآخذ في لملمة أوراقه والاستعداد للمثول بين يدي ذمة التاريخ، وبين الاستعداد للدخول في عالم القرن الحادي والعشرين بكل إرهاصاته المؤذنة بالتطور المذهل في الإنجازات والاكتشافات العلمية وما سيترتب عليها من حركة وسرعة مرعبة في تغيير إيقاع الحياة بل شكلها من الألف إلى الياء، وسنكون على أعتاب الانفجار المعلوماتي والمعرفي الكبير جراء ثورة الاتصالات التي كانت تتبلور جنينا في رحم الثمانينات فيما أعتقد.

كان عقد الثمانينات يمثل خبرة وتجربة شديدة الأهمية والقيمة، يجب أن توضع الآن بين يدي شبابنا وطلابنا في الجامعات المصرية والعربية، خاصة بين طلاب الإعلام والمقبلين على العمل الصحفي والإعلامي، لأسباب سيكتشفونها هم بأنفسهم عقب قراءة الكتاب الممتع.

-3-

كان محمود يحكي لي في جلساتنا المطولة في مكتبنا بمجلة (أكتوبر) عن حواراته الصحفية الأولى التي أجراها مع أعلام السياسة والأدب والفكر والصحافة؛ لقد التقى وجها لوجه مع السياسي المخضرم فؤاد سراج الدين، كما حاور كلا من أحمد بهاء الدين، وفرج فودة، ومحمد سعيد العشماوي، وأثمرت تلك الفترة الحوار النادر الذي أجراه مع نجيب محفوظ عام 1990 عن قصصه القصيرة، ثم حواره مع الروائي الفذ فتحي غانم صاحب المتون الروائية الشهيرة «زينب والعرش» و«حكاية تو» و«بنت من شبرا» و«الرجل الذي فقد ظله» وغيرها..

كل ذلك في سرد بديع لذكرياته الممتعة عن فترة الجامعة، والمدينة الجامعية، والمشاغبات التي كان يعيشها ويرصدها بين زملائه في الدفعة الذين صاروا من أهم وألمع أسماء الكتابة في الصحافة المصرية والعربية لما يزيد على العشرين عامًا أو الذين صاروا بعد ذلك نجوم ما يعرف بـ «التوك شو» (إبراهيم عيسى، عبد الله كمال، وائل الإبراشي،... إلخ)

لقد رُوي هذا الكتاب على مسامعي، كلمة كلمة وحرفا حرفا، ومع إلحاحي الشديد المزعج لتسجيل هذه الذكريات (وأنا سجلّتُ بعضها فعلًا بصوته) علمني محمود فضيلة «الصبر»، التي لا أتحلى بها، كي أقرأه مخطوطًا بعد سنواتٍ طالت من استماعي وسماعي لمشاهده، وبعد أن أيَّدني ودعَّم محاولاتي لإخراج كنوز عبد الشكور إلى النور صديق مشترك الذي سيمثل ظهوره انتصارًا كبيرًا على عزوفِ عبد الشكور عن النشر، وننجح أخيرًا بصبر أيضًا في إخراج ما لديه؛ ويظهر «كنتُ صبيًا في السبعينيات» في ديسمبر 2015، ويلقى ما لاقاه من محبة وانتشار ونجاح كبير، ثم ينتهي محمود من كتابة «كنتُ شابًا في الثمانينيات» قبل عامين من الآن ويعلِّمني -هو وصديقنا المشترك سيف سلماوي هذه المرة- أن أتحلى بالصبر مجددًا، وأن أنتظر إتمام ونضج العمل على مهلٍ وتروٍ وتأنٍ..

وها أنا أخيرًا أستمتع بقراءة «كنتُ شابا في الثمانينيات» مطبوعًا ومنشورًا بين دفتي كتاب جميل متميز كالعادة بإخراجه الفني، وصوره الموزعة بدقة ووعي على صفحات الكتاب، وغلافه المبهج المعبر عن محتواه، وبصدق ومحبة ودهشة محمود عبد الشكور التي تجعله فعلًا من أنبل المثقفين والكتاب في زمننا المعاصر.