544898
544898
إشراقات

د. محمد الشتيوي: الفقه الإباضي أثبت قدرا من المرونة استجابة لمقتضيات الحياة

16 يناير 2020
16 يناير 2020

عبر كتابه: «الرخصة والمجاز عند الإباضية: نظرات في منهج التيسير والتأويل» -

صدر حديثا كتاب: «الرخصة والمجاز عند الإباضية: نظرات في منهج التيسير والتأويل» للدكتور محمد الشتيوي من جامعة الزيتونة بالجمهورية التونسية طرح من خلاله مبحثين مهمين الأول: «الرخصة ومنهج التيسير» عند الإباضية والثاني: «موقفهم من المجاز وما يتعلّق به من تأويل»، فمن خلال مبحثه الأول أشار إلى أن الفقه الإباضي أثبت قدرا معقولا من المرونة استجابة لمقتضيات الحياة المتنوعة وقد كانت الرخص عندهم سبيلا من سبل مراعاة تقلبات الظروف وتطورات العصور، واختلاف الأحوال.. وقد روي عن بعض مشائخهم النهي عن الترخيص بقوله: «إيّاكم والترخيص لئلاّ تفارقوا دينكم وأنتم لا تشعرون» لكنّ هذا القول ليس إنكارا للرخصة، بل هو تحذير من المبالغة في متابعة الرخص لأنّ ذلك يعوّد المسلم على التساهل في غالب أمره بحيث يخشى عليه التفريط في الدين، وليس هذا التحذير أمرا خاصا بهم بل إنّ كثيرا من العلماء ينهون عن متابعة رخص المذاهب. والحاصل أنّ الرخصة عندهم إذا قام على مشروعيتها دليل شرعي واقتضاها عذر شرعي فإنّ الأخذ بها جائز بل قد يكون واجبا في بعض الحالات.

وفي المباحث الثاني «المجاز والتأويل» أوضح الشتيوي أن الكلام على المجاز في النصوص الشرعية هو كلام على ثرائها الدلالي، وعلى وجه من أهم وجوه الإعجاز البياني فإذا كان المجاز استعمالا للّفظ فإنّ التّأويل فهم وحمل للّفظ على أحد وجوهه المحتملة، فهو في حقيقته استنطاق عميق لأغوار النصّ وخفاياه وعدم اكتفاء بظواهره خاصة إذا كانت غير معقولة أو مخالفة لأصول الدين وقطعياته المحكمة، موضحا: أن موضوع المجاز والتأويل في علم الكلام وعلم أصول الفقه والتفسير حظي ببحوث عميقة وثرية، وأثبت العلماء المسلمون على مرّ التاريخ قدرات عالية في سائر البحوث الدلالية كالمنطوق والمفهوم، والمحكم والمتشابه وغير ذلك ممّا يطول ذكره. ولم يكن علماء الإباضية بمعزل عن هذه الجهود العلمية، بل دلّ تراثهم العلمي على رسوخ قدم في هذا المجال، فاجتهدوا وصنّفوا موافقين لغيرهم في مسائل ومخالفيهم في أخرى ممّا يسوغ فيه الاختلاف، ولم يكونوا في ذلك كلّه ظاهريين أو حرفيين، بل إنّ سلفهم وخلفهم يثبتون المجاز إلى جانب الحقيقة، ويعملون بالظاهر إذا كان واضح الدلالة ويؤوّلونه بالدليل إذا كانت القرائن تقتضي صرفه عن معناه الظّاهر. وهم لا يختلفون في هذا المنهج عن عامّة علماء الأشاعرة والمعتزلة وإن خالفوهم في بعض التأويلات كما اختلفوا هم فيما بينهم، وبما أنّ المجاز يقابل الحقيقة فمن المهمّ الكلام عليها في البداية على جهة الاختصار، ثمّ يأتي بعد ذلك الكلام على التأويل وما يتعلّق به من المحكم والمتشابه، مبينا: أنّ المجاز ظاهرة لغوية يقرّ بها عامّة علماء اللغة والأصول والكلام وغيرهم، فلو لم يكن المجاز موجودا في نظرهم لما فصّلوا أحكامه، ولما ضربوا له الأمثال من القرآن واللغة، بل ذهب ابن جنّي (ت: 392هـ) إلى أنّ أكثر اللغة مجاز لا حقيقة. لكنّ هذا الأمر الذي استمرّ الإقرار به في معظم مدوّنات العلوم الإسلامية كان محلّ اعتراض عند بعض العلماء. فقد نسب إنكار المجاز في اللغة والقرآن إلى عالمين لغويين شهيرين هما أبو إسحاق الإسفراييني (ت: 418هـ) وأبو علي الفارسي (ت: 377هـ) وقد شكّك بعض العلماء في هذه النسبة ونسب الحنابلة إنكار المجاز في القرآن إلى بعض أصحابهم، والذي عليه عامّتهم هو إثباته، بل رووا أنّ الإمام أحمد نصّ على ذلك، ونسب إنكار ذلك إلى أهل الظاهر، وهي نسبة مناسبة لمنهجهم في التمسك بظواهر النصوص، لكنّ ابن حزم الظاهري صرّح بإثبات المجاز وردّ على منكريه غير أنّه تشدّد في قبوله إذ اشترط أن يدلّ عليه نصّ أو إجماع أو حسّ. أما بالنسبة للمحكم والمتشابه فأشار إلى أن العلماء اختلفوا في وجه التفريق بين المحكم والمتشابه. وقد بيّن الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور أنّ الجمهور لهم في ذلك مذهبان: المذهب الأوّل: أنّ المحكم ما اتضحت دلالته، والمتشابه ما استأثر الله تعالى بعلمه، أما المذهب الثاني فيرى «أنّ من القرآن ما هو محكم متضح معناه، ومنه ما هو متشابه على الأذهان لا يدرك معناه إلاّ بتأمّل لخفائه، وربّما لا يدرك أصلا كالحروف المقطّعة فإنّه لا سبيل إلى معرفة معانيها إلاّ بتوقيف من الشارع» وبما أنّ المتشابه هو ما خفي معناه فإنّ الخفاء يعود إلى سببين ينقسم المتشابه بناء عليهما إلى قسمين:

أ- متشابه سببه الإجمال: والمجمل حكمه الوقوف عن القول فيه حتى يرد بيان من الشارع. وهو في الحقيقة نوعان أحدهما ورد بيان إجماله فلم يعد متشابها مثل كيفيات الصلاة ومقادير الزكاة ونحوها، وثانيهما ما استأثر الله تعالى بعلمه ولم يطلع عليه أحدا إلاّ من اصطفى من رسول، مثل موعد الساعة، ومقادير الثواب والعقاب وغير ذلك من المبهمات. فهذا القسم يجب الإيمان بحقيقته والتوقف عن القول فيه بلا علم.

ب- ما كان ظاهره التشبيه: وحكم هذا القسم أن يردّ إلى المحكم بدليل قوله تعالى «منه ءيت محكمت هن أم الكتب» والمقصود بأمّ الكتاب أصله، وأصل الشيء هو الذي يرجع إليه سائره، فدلّ ذلك على أنّ المحكم أصل لسائر ما في الكتاب، لذلك يجب الرجوع إليه عند الاشتباه. والسبب في وجوب ردّ المتشابهات إلى المحكمات هو نفي التناقض عن القرآن الكريم الذي لا يدخله الباطل ولا الاختلاف الذاتي. فمثلا قوله تعالى:

(وَإِذَا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها) متشابه لأنّ ظاهره يوهم أنّ الله يأمر بالفسق، فيجب تأويله بردّه إلى المحكم من القرآن مثل قوله تعالى: (إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَأۡمُرُ بِٱلۡفَحۡشَآءِۖ) فالمأمور به محذوف، وهو أمرناهم بما نأمرهم به على لسان رسولهم فعصوا الرسول وفسقوا. ومثال ذلك أيضا قوله تعالى: (ٱلرَّحۡمَٰنُ عَلَى ٱلۡعَرۡشِ ٱسۡتَوَى) فهو متشابه يوهم التشبيه، فيجب ردّه إلى المحكم، وهو قوله تعالى: (لَيۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَيۡء).

وأشار الشتيوي إلى أن التأويل نظر عميق في النصوص يسبر أغوارها، ويدفع عنها ما يحفّ بها من إشكاليات لو حملت على ظواهرها، أو وقع الاقتصار على حقائقها اللغوية. لكنّه مغامرة تطرأ عليها محاذير كثيرة، لذلك احتاج بالضرورة إلى الدليل. وقد عرّفه الشيخ البطّاشي بأنّه «صرف الظاهر إلى المعنى الباطن بدليل» ومعلوم أنّه لا يقع صرف الظاهر عن ظاهره إلاّ إذا كان محتملا، والمقصود بالمعنى الباطن ما كان خفيا ومحتملا، وليس المقصود به ما يقوله الباطنية بلا دليل. والدليل هو ما يستند إليه في حمل الظاهر على معنى آخر. لذلك انقسم التأويل إلى أقسام بحسب قوّة الدليل أو ضعفه أو انعدامه. فإذا حمل الظاهر على معنى محتمل بدليل فهو تأويل صحيح، وإن حمل بدليل ضعيف أو بما يظنّ أنّه دليل فهو تأويل بعيد، أمّا إن لم يستند إلى دليل أصلا فهو فاسد، فتأويل المتشابهات والعمل بالمجاز عند الإباضية كثيرة فهم يعملون بالحقيقة عند انعدام القرينة الصارفة، ويذهبون إلى المجاز إذا توفرت فيه العلاقة والقرينة. كما أنّهم يحملون الظاهر على ظاهره إذا كان معناه راجحا، ويؤوّلونه إذا كان معناه متعذّرا في حق الله تعالى. وأكد الدكتور الشتيوي أن العلماء المسلمين أثبتوا على مرّ التاريخ قدرات عالية في سائر البحوث الدلالية كالمنطوق والمفهوم، والمحكم والمتشابه، ولم يكن علماء الإباضية بمعزل عن هذه الجهود العلمية، بل دلّ تراثهم العلمي على رسوخ قدم في هذا المجال، فاجتهدوا وصنّفوا موافقين لغيرهم في مسائل ومخالفيهم في أخرى ممّا يسوغ فيه الاختلاف، ولم يكونوا في ذلك كلّه ظاهريين أو حرفيين، بل إنّ سلفهم وخلفهم يثبتون المجاز إلى جانب الحقيقة، ويعملون بالظاهر إذا كان واضح الدلالة ويؤوّلونه بالدليل إذا كانت القرائن تقتضي صرفه عن معناه الظّاهر. وأكد د. محمد الشتيوي في مقدمة كتابه أنّ من أهمّ شروط البحث العلمي أن يكون موضوعيا خاليا من التعصّب، والتسرّع في إصدار الأحكام العامّة دون تثبّت. ويتأكّد هذا الشرط على الخصوص في الدراسات النقدية والبحوث المقارنة بين الأفكار والمذاهب، وهذا يقتضي نقل أقوال المخالفين من مصادرها الأصلية، وتجنّب عرض المقالات بالواسطة، مؤكدا: أن من أخطر وسائط النقل الاعتماد على روايات الغير، والاستناد إلى ما يشاع من غير تحقيق، مشيرا إلى أنّ المذهب الإباضي من المذاهب الإسلامية التي كثر نقل أفكارهم بواسطة غيرهم من دون الرجوع مباشرة إلى كتبهم وأقوالهم. لذلك صار كثير من المسلمين لا يعرفون هذا المذهب معرفة مطابقة لحقيقته، وإنّما يحملون عنه أفكارا مسبّقة يكتنفها كثير من الغموض.

يذكر أن د. محمد الشتيوي من مواليد 1956 بالوردانين، حاصل على الإجازة في الشريعة اختصاص فقه وسياسة شرعية سنة 1979 من الكلية الزيتونية للشريعة وأصول الدين بتونس، دكتوراة مرحلة ثالثة في العلوم الشرعية سنة 1993، ودكتوراة دولة في العلوم الإسلامية سنة 2008، وأستاذ تعليم عال بجامعة الزيتونة ومدير سابق للمعهد العالي لأصول الدين، وحاليا مدير عام مركز البحوث والدراسات في حوار الحضارات والأديان المقارنة بسوسة ورئيس وحدة فقهاء تونس بجامعة الزيتونة وعضو بالمجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون- بيت الحكمة وخطيب جمعة ومنتج لعدة برامج إذاعية، وله مقالات وبحوث كثيرة منشورة في مجلات علمية بتونس وخارجها. وله العديد من المؤلفات منها كتب مطبوعة ومنشورة منها: «العلاقة بين علم أصول الفقه وله الكلام) و(إشكالية التعارض في النص الديني) و(تاريخ المذاهب الفقهية بإفريقية) و(المنطوق والمفهوم) و(نجوم سورة النجم) و(تجليات الرحمة في سورة مريم) و(فاتحة التنزيل: سورة العلق وتأسيس القراءة بالاسم) وغيرها...