أفكار وآراء

عن القيصر بوتين في عشرينيته

10 يناير 2020
10 يناير 2020

إميل أمين - كاتب مصري -

[email protected] -

قبل عشرين عاما وعشية العام الجديد شهدت روسيا صدمة حيث أعلن الرئيس الروسي وقتها بوريس يلتسين في خطاب متلفز للشعب الروسي استقالته المبكرة على نحو غير متوقع.

ولعل التساؤل الذي يطرحه الروس والعالم اليوم: « ما الذي دفع يلتسين قبل 6 اشهر من نهاية ولايته للتخلي عن مقعده الرئاسي لفلاديمير بوتين رئيس وزرائه البالغ من العمر 47 عاما، والذي اصبح تلقائيا قائما بمهام رئيس روسيا؟»الشاهد أن الرئيس الروسي يلتسين لم يقصر في أن يترك الجواب، وهو جواب فيه الكثير من الحنكة إذ أشار إلى انه:«يجب على روسيا أن تدخل الألفية الجديدة بسياسيين جدد، بأشخاص جدد، أذكياء أقوياء تملؤهم الحيوية...»

يومها اكمل يلتسين قائلا:« لم يتعين علي التمسك بالسلطة، عندما يكون هناك في البلاد رجل قوي، يستحق أن يكون رئيسا، تتعلق به آمال المستقبل لكل مواطن روسي؟

لم يجب علي أن أعطله؟ لم الانتظار ستة اشهر أخرى؟ كلا، هذا ليس أنا، ولا يتماشى مع شخصيتي.

باختصار غير مخل ومن غير اجترار للأحداث، كان يلتسين يعلم علم اليقين أن بوتين هو رجل الساعة، وانه كان سيفوز في الانتخابات الرئاسية، حتى لو كانت جرت في شهر مارس وليس شهر يونيو كما هو متوقع، فلن يكون للتأخير مدة 3 اشهر أي تأثير على الإطلاق، إلا إذا حدث أمر غير متوقع بالمرة، وهذا لم يحدث وبات بوتين رئيسا لروسيا الاتحادية بالفعل.

هذه الأيام تمر عشرون سنة على وصول فلاديمير بوتين إلى قمة السلطة في الكرملين، ومن المنتظر أن يظل في منصبه إلى عام 2024 إلا أيضا إذا جرت أقدار ونوازل بغير ذلك.

في ختام السنوات العشرين يتساءل أي مراقب للشأن الروسي هل اختلف مشهد روسيا غداة تسليم يلتسين السلطة لبوتين؟

يحتاج الجواب إلى عودة لشخص بوتين وإعادة قراءة رؤاه عما جرى للاتحاد السوفيتي، فقد اعتبر بوتين أن اكبر خطأ جرت به مقادير القرن العشرين قبل أن ينصرم هو سقوط الاتحاد السوفيتي على النحو الذي رأه الروس وعاشه العالم قبل ثلاثة عقود.

لم يكن بوتين رجل سياسة يوما ما بل رجل استخبارات، وهذا ما أضفى على شخصه الكثير من الغموض، والكثير من العزم والتصميم في الوقت نفسه للثأر من المعسكر الغربي الذي أذل بقايا الاتحاد السوفيتي واخضعها لأهوائه، ففكك بناءها التكتوني، وصدر إليها منظومته الاستهلاكية، وعمل جاهدا على تفريغها من علمائها، الذين استقطبت أوروبا وأمريكا جلهم، عطفا على إدخال روسيا في الدائرة القاتلة التقليدية المهلكة للبنك الدولي وصندوق النقد.

احتاج بوتين نحو عشر سنوات، كي تقف روسيا على قدميها مرة أخرى، عشر سنوات شهدت معاناة كبرى وصراعا اقتصاديا ضاريا حتى جعل بلاده تخرج من دائرة العبودية الرأسمالية المعاصرة.

ثمة ما يشير إلى أن مسيرة بوتين كانت ولا تزال سلسلة طويلة من المعارك التي بدأها على مختلف الجبهات وفي وقت واحد.

فهناك معركته مع ابرز رموز طواغيت المال «الاوليجاركيا »، الذين طالما نجحوا في الاستئثار بمقاليد الحكم في البلاد سواء بشكل مباشر من خلال مواقعهم في السلطتين التنفيذية والتشريعية، أو من وراء ستار، مما دفعهم إلى الإعلان صراحة عن حقهم في ذلك.

ولم يكن بوتين ليغفل كذلك ضرورة بدء معركته مع أقطاب الإعلام وقياصرته من أمثال «فلاديمير جوسينسكي»، صاحب اكبر امبراطورية إعلامية..

أما عن معركته مع الحركات الانفصالية فقد توجها خلال اشهر قليلة بإخماد الحركات الانفصالية في الشيشان وشمال القوقاز.

احد اهم الأسئلة التي تواجه الباحث عن بوتين في عشرينيته: هل كانت رؤيته لروسيا القوية هي السبب الرئيسي في نشوء وارتقاء دولة اقرب ما تكون لحدود روسيا القيصرية مرة جديدة ؟

وإذا كنا نتحدث عن القوة فهل نعني بها القوة الخشنة فقط أي القوة العسكرية، أم كانت هناك جوانب أخرى أدت إلى جعل روسيا بعد عشرين سنة من حكم بوتين دولة أشبه بطائر الفينق الأسطوري الذي يقوم من رماده مرة جديدة؟

يمكن تقديم جواب عن السؤال المتقدم من خلال المقاربة بين مشهدين:

الأول: متعلق بوضع روسيا في مارس 2003 أي حين صممت الولايات المتحدة الأمريكية على غزو العراق، وإسقاط نظام صدام حسين، وقتها كان بوتين في سنواته الأولى يعمل جاهدا على معالجة الأخطاء القاتلة التي خلفها من ورائه بوريس يلتسين، وبخاصة تحكم الاوليجاركيات المختلفة في مفاصل الدولة، ناهيك عن أوضاع العسكرية الروسية التي بدت متهالكة في ذلك الزمان، والاهم من هذا وذاك فقدان الثقة في مقدرة روسيا على الفعل.

من هنا بدا وكأن روسيا مستسلمة لأقدارها في 2003، ولم يقدر لها أن تقاوم في مجلس الأمن، ولا أن تمنع الأمريكيين من دخول العراق، وربما قاد الفكر الاستخباراتي لبوتين إلى توقع أن تكون العراق مستنقعا جديدا للأمريكيين في أوائل الألفية الثالثة، بالضبط كما كان الحال في زمن ستينات القرن الماضي وما حدث في فيتنام.

الثاني: أما المشهد الثاني فهو مغاير شكلا وموضوعا، وقد جادت به الأقدار عينها حين أرادت الدوائر وثيقة ولصيقة الصلة بالجماعات الأصولية الاقتراب من حدود روسيا التقليدية.

وبالمزيد من الصراحة تجلت روسيا المغايرة حين حاول البعض تصعيد الأصوليات في الشرق الأوسط، لتضحى لاحقا الخنجر الذي تطعن به روسيا مرة أخرى، وربما الصين، وذلك من خلال تسريب وتهريب الأصوليين إلى عمق الداخل الروسي والصيني ليضحوا لاحقا أدوات التفكيك والتفجير وبذلك تنهار روسيا من جديد.

هنا ظهرت روسيا مغايرة بقيادة بوتين، روسيا التي عزمت على أن تقابل الخطر وتلاقيه خارج أراضيها قبل أن يصل إلى عمق أعماقها الجغرافية أو الديموغرافية، وتمثل ذلك بنوع خاص في الدخول إلى سوريا ودعم بشار الأسد، من اجل القضاء على الدواعش والقاعدة وبقية الجماعات الإرهابية التي عاثت فسادا لنحو خمس سنوات.

هنا يمكن القطع بان روسيا بوتين أعلنت عودتها لملء كل الفراغات الاستراتيجية التي فرغتها أمريكا من خلال رؤية باراك اوباما المعروفة بالقيادة من وراء الكواليس، وقد كانت الترسانة العسكرية الروسية سندا ودعما في إلقاء ظلالها على روسيا من جديد، ولهذا بات الكثيرون يعتبرون بوتين قيصر روسيا جديدا، يعيد سيرة القيصر الروسي الأشهر بطرس الأكبر، وربما لا تنقصه إلا كاترينا العظيمة.

يمكن القطع بانه خلال عقدين من الزمن استنهض بوتين القوة العسكرية الروسية، فقد آمن بان الأخلاق والمبادئ الإنسانية الفوقية لا مكان لها في عالم السياسية، ورأى مبكرا أن الناتو لا ينفك يقترب من حدود روسيا الغربية بصواريخه النووية، الأمر الذي يشكل خطرا جسيما على البلاد والعباد في الداخل الروسي ولهذا عمد القيصر الجديد إلى المزيد من الأبحاث العلمية العسكرية التي خلقت أجيالا جديدة من الأسلحة الروسية، أي انه لجأ إلى الكيف وليس الكم، كي لا يسقط في الفخ عينه الذي نصبه الغرب للاتحاد السوفيتي، أي الإنفاق العسكري الهائل الذي اقعد ذلك الكيان وبات في أواخر أيامه مثل العملاق الذي يقف على قدمين من فخار وليس من النحاس.

في هذا الإطار يمكن القول: إن بوتين استلم روسيا وأسلحتها النووية متهالكة، واليوم بات فيها من الأسلحة النووية الحديثة ما يقلق الغرب بالفعل من نوعية الصاروخ ذي العشرة رؤوس نووية المعروف باسم «سارامات».

عطفا على ذلك باتت روسيا اليوم تمتلك أسلحة فرط صوتية مثيرة لخوف أوروبا وأمريكا من نوعية «افنجارد»، أما عن الغواصات المثيرة للرعب مثل بوسيدون القادرة على إحداث تسونامي في المحيطات فحدث ولا حرج.

في عهد بوتين استعادت روسيا بعض قوتها الجيوسياسية التي امتلكها الاتحاد السوفيتي، ما أثار انزعاج معظم دول حلف الناتو البالغ عددها 29 دولة، وقد قوى العلاقات الروسية مع الصين، وضم شبه جزيرة القرم من أوكرانيا، وغير مسار الحرب في سوريا، وباع منظومات الدفاع الجوي لتركيا العضو في حلف الأطلنطي، وابرم صفقات أسلحة ونفط كبرى مع المملكة العربية السعودية، احد حلفاء الولايات المتحدة الرئيسيين، وكذلك فنزويلا، في الوقت الذي تقول فيه المزاعم انه تدخل في الانتخابات الأمريكية الرئاسية عام 2016، ربما ردا على تهكم هيلاري كلينتون التي وضمن انتخابه رئيسا في 2012 بانه انتخاب مزور.

لا يمكن الحديث عن بوتين دون النظر إلى علاقة روسيا بالشرق الأوسط، فقد كانت العلاقات السوفيتية العربية مثار غيرة وقلق من حلف الأطلسي في ستينات وحتى منتصف سبعينات القرن الماضي، غير أنها تراجعت إلى الوراء كثيرا في عقد التسعينات.

لاحقا ومرة أخرى استنهض بوتين أبعاد هذه العلاقة، ولم تقتصر الأمور على دول شمال إفريقيا مثل مصر وليبيا والجزائر وتونس فقط، بل أيضا شمل الأمر دول الخليج، ولم تعد المسألة قاصرة على العلاقات السياسية فقط، بل باتت روسيا ومن جديد احد الأسواق المفتوحة لأسلحة متطورة وحديثة لا تقل عن نظيرتها الأمريكية.

اضف إلى ذلك أن روسيا قد بدأت مجال شراكات مثير للاهتمام يتعلق بنقل خبراتها في توليد الطاقة النووية إلى دول عربية وشرق أوسطية مثل مصر، والتي تبني لها روسيا مفاعل الضبعة النووي الذي يمثل نقلة نوعية ولا شك في توليد الطاقة ونهضة الصناعة والزراعة في مصر.

يقول « توماس غراهامخ » المسؤول البارز في السياسة الروسية في فترتي جورج بوش الابن: إذا قارنت روسيا اليوم بروسيا عام 2000، حين وصل بوتين إلى السلطة، فهي في وضع افضل بكثير، لكن إذا نظرت على مدى السنوات العشر المقبلة، فالسؤال المطروح هو كيف ستحافظ على هذا؟

هل يغيب مثل هذا التساؤل عن ذهن الرئيس بوتين؟

حتما لا يمكن أن يترك القيصر مستقبل روسيا عرضة للأنواء والأهواء مرة أخرى..