أفكار وآراء

عندما تصبح الأحزاب عبئا على الحياة السياسية

04 يناير 2020
04 يناير 2020

د. عبدالعاطي محمد -

عندما أعاد العراق صياغة نظامه السياسي، من حكم الحزب الواحد إلى التعددية الحزبية، ومن الرئاسي المطلق إلى البرلماني الفيدرالي، بدا مشهد الحياة السياسية في العراق مثاليا إلى حد كبير.

ولكن سرعان ما كشفت الممارسة عن الفجوة بين الطموح والواقع، تلك الفجوة التي تتحمل الأحزاب الجانب الأكبر في حدوثها، بما يعني أنها لم تعد عونًا للتجربة وإنما أصبحت عبئا عليها، الأمر الذي جعل المحتجين في الساحات المختلفة يطالبون بإقصائها من أي محاولة للإصلاح، وذلك بعد نحو 15 عاما من العمل بدستور جديد.

وليس من الإنصاف في هذا المقام التعرض بالتشكيك في التجربة العراقية كما حدد إطارها القانوني الدستور الجديد، وارتضاها الشعب العراقي وقواه السياسية على اختلاف توجهاتها منذ سنوات، بأنها لم تكن هي الأفضل للانتقال إلى الحياة الديمقراطية. فذلك من حق الشعب العراقي وحده. كما أن العمل بالنظام البرلماني والذي يستوجب الأخذ بالتعددية الحزبية ليس بدعة، لأنه معمول به في عديد البلاد المتقدمة، وإن كان العمل بالنظام الرئاسي هو الأكثر انتشارا. ولكن موضع الاهتمام بالتركيز على ما تتحمله الأحزاب العراقية من مسؤولية عن تدهور الأوضاع في العراق يجد سنده في الخطاب العام للمحتجين الذين يكيلون الاتهامات لهذه الأحزاب ويعترضون كثيرا على أي محاولة من جانب السلطات المعنية لاحتواء الأزمة القائمة والاقتناع بما يطرح من تصورات سياسية، ووصل الرفض إلى حد المقاطعة مع كل الأحزاب في سابقة فارقة ضمن مسار التغيير الممتد منذ سقوط نظام صدام حسين.

إذا وضعنا التقييم المسبق جانبًا لأن كل نظام وكل شعب له الحرية في اختيار طريقة الحكم وشكل الممارسة السياسية، وإذا تمهلنا كثيرا في مسايرة مطالب المحتجين بخصوص ضرورة التخلص من الأحزاب القائمة، بالنظر إلى أن ذلك غير ممكن لا نظريًا ولا عمليًا لأن التجربة برمتها تخضع لدستور أقره الشعب نفسه فضلا عن كونها جزءًا لا يتجزأ من الواقع الاجتماعي والثقافي والسياسي.

إذا وضعنا هذا وذاك جانبا ونظرنا إلى الأداء الحزبي ذاته، هل هو ملتزم بقواعد الممارسة الحزبية كما عرفتها التجارب العريقة في هذا المجال أم لا، وما الذي قاد العلاقة بين الشعب (الرأي العام) والأحزاب إلى حالة الصدام والانسداد، من الممكن الوقوف عند التشخيص الأقرب إلى الذهنية الموضوعية، ومن ثم استشراف آفاق الأزمة الراهنة.

يعرف المفكر والأكاديمي الفرنسي موريس ديفرجيه صاحب أشهر المؤلفات الرصينة عن الأحزاب السياسية، يعرف الديمقراطية بكلمات بسيطة هي: النظام الذي يختار فيه المحكومين الحاكمين عن طريق الانتخابات الصحيحة والحرة.

وللوصول إلى قواعد عملية الاختيار طور فلاسفة القرن الثامن عشر نظرية التمثيل التي تعني ببساطة أن الناخب يعطي للمنتخب وكالة ليتكلم ويتصرف باسمه.

والأحزاب هي الطرف الثالث الذي يدخل لتفعيل الحوار بين الناخب والمنتخب أو بين الأمة والبرلمان.

ومع نمو الأحزاب في التاريخ السياسي لتطور الكثير من المجتمعات تعقدت العمليتان: الاختيار والتمثيل. بمعنى أصبح من المشكوك فيه دائما ما إذا كانت عملية الاختيار قد تمت على الوجه الصحيح، وما إذا كان التمثيل في البرلمان مجسدًا لحقيقة الرأي العام أم لا.

وبالتوازي مع هذه المشكلة التي لا تسلم منها أفضل التجارب الليبرالية تثور دائما مشكلة أخرى هي قوانين الانتخابات العامة ذاتها، حيث تتنوع وتتعقد من نظام إلى آخر بل من وقت إلى آخر من جانب النظام نفسه، وغالبا ما تثير جدلا وخلافا شديدين داخل الأوساط السياسية المعنية وتسبب في التشكيك في عمليات الانتخابات العامة.

ويتطرق موريس ديفرجيه في كتابه الأحزاب السياسية (الهيئة العامة لقصور الثقافة المصرية) إلى قضية أكثر خطورة تشير إلى أن الأحزاب غالبا ما تؤثر في الرأي العام (أي في الأمة) بالشكل الذي يحقق مصلحتها هي وليس مصلحة الأمة! يقول إن العلاقة التعاقدية بين الناخب والمنتخب باعتبارها صلب الطبيعة الديمقراطية للحكم أيا تكن تسمياتها: وكالة إلزامية أو تمثيلية أو فردية أو جماعية، لا قيمة حقيقية لها من حيث التمثيل، مع تدخل هذا الطرف الثالث أي الحزب السياسي. «إنها تمويه ذكي لتحويل السيادة القومية الوطنية المعلنة (التي يمثلها الناخبون) رسميا إلى سيادة برلمانية، إن كلمة تمثيل تطبق هنا على ظاهرة اجتماعية وليس على علاقة حقوقية. فهي تحدد التشابه بين آراء الأمة السياسية وآراء البرلمان.

فالنواب يمثلون ناخبيهم، إنما لا كما يمثل الوكيل الموكل، بل كما تمثل الصورة منظرا والهيئة نموذجها، والمشكلة الأساسية تتألف من قياس درجة الدقة في التمثيل، أي درجة التطابق بين الرأي العام وتعبيره البرلماني. وفي هذا المجال يكون تأثير الأحزاب ضخما، فكل نظام حزبي يشكل إطارا يفرض على الرأي العام ويمثله ويشوهه في الوقت نفسه، وهكذا فإن بنية الرأي العام هي إلى حد بعيد نتيجة لنظام الأحزاب».

هنا يذكرنا المفكر الفرنسي الشهير في مجاله بأن نتعامل مع دور الأحزاب السياسية بكثير من الشك والتحفظ، لأن عمليتي الاختيار (قوانين الانتخابات) والتمثيل (الوكالة عن الأمة في البرلمان) تلعب الأحزاب السياسية دورا تشويهيا في كل منهما. هناك قوة الدعاية التي تستخدمها الأحزاب، وقوة المال، والأعراف والصداقات وغيرها من أدوات التأثير على الناخبين، هذا حتى بافتراض نزاهة العمليات الانتخابية. وفي النظام البرلماني تستطيع الأغلبية أو الأكثرية أن تغير مسار الأمة في لحظة وأخرى مع أنها في الحقيقة لا تمثل فعلا كل الإرادة الوطنية. وإذا كان الرجل يتحدث أساسا عن عالم النظم السياسية في البلدان التي قطعت شوطا بعيدا في الممارسة الديمقراطية واستوفت مجتمعاتها المتطلبات الثقافية والاجتماعية اللازمة لها، فماذا يكون الحال بالنسبة للنظم والمجتمعات حديثة العهد بهذه الممارسة وتعاني من الافتقار للمقومات الثقافية والاجتماعية وللأمن والأمان، بالطبع تكون أكثر معاناة من الافتقار إلى الممارسة الحزبية الصحيحة، أو الأقرب إلى الصواب في الحقيقة.

في التجربة العراقية هناك مقومات شكلية لا شك فيها للتعبير عن تحول النظام من الحزب الواحد إلى التعددية الحزبية، ومن النظام الرئاسي المطلق إلى البرلماني الفيدرالي، ولكن ما لا يمكن إغفاله هناك ممارسات حزبية أبعد ما تكون عن الوضع الصحيح.

هناك عدد كبير للغاية من الأحزاب، والمعروف منها قليل جدا والباقي مجهول وأدى ذلك إلى اعتماد طريقة التحالفات، وظهر شكل آخر هو الائتلاف الذي ليس حزبا قدر ما هو تيار وتحالف مؤقت.

والنتيجة هو أننا أمام تشكيلة هلامية لخريطة الحياة الحزبية، والدليل أن البرلمان وقف عاجزا عن تحديد من هي الكتلة الأكبر فيه، هل هي لكتلة البناء أم لكتلة سائرون، كل منهما يضم عدة أحزاب وائتلافات، والأعضاء يتحركون دخولا وخروجا من كل منهما، فلا يعرف المرء كم عدد الأعضاء هنا أو هناك عند التصويت على قرار مهم. وتوزيعات السلطة تتم بالحصص الحزبية وليس بعدد الأصوات، والغريب أن تنفرد التركيبة الحزبية في العراق بأمر غير مقبول في أي من التجارب الأخرى، وهو أن هناك ميليشيات مسلحة تتبع أبرز وأقوى الأحزاب القائمة (فصائل مما يسمى بالحشد الشعبي موزعة بين عدة أحزاب سياسية أو مدنية)! ومن واقع الاستقطاب الذي اتضح خلال المواجهات الاحتجاجية، سواء بين الجموع الغفيرة من المواطنين وبين المؤسسات: البرلمان أو الحكومة، أو داخل الوسط الحزبي نفسه وضح أن الممارسة الحزبية وصلت إلى تطور فريد من نوعه لم تعرفه تجارب أخرى حتى الآن، ألا وهو أن الحزب في ذاته أصبح ما يشبه «الكيان المقدس» الذي يعلو فوق مصالح من يمثلهم ومصالح الوطن عموما. هو أشبه بالقوة القاهرة التي يصعب تحديها مهما كانت قوة الضغط الجماهيري وحجم الخسائر البشرية الذي نجم عن أعمال العنف التي شابت بشدة مشهد الاحتجاجات.

وعندما يصل تطور العمل الحزبي إلى هذا الحد من الانغلاق على الذات والاستقواء بالسلاح، يصبح من المفهوم تقبل طرح المحتجين بإقصاء الأحزاب من المشهد، ولكن واقعيا من الصعب تفعيل ذلك بعد أن أصبحت الممارسة الحزبية جزءا أصيلا من الواقع. فقط وحدها القيادات الحزبية القادرة على تغيير هذه الصورة البائسة للحياة الحزبية، خصوصا أن القيادات عموما تلعب دورا محوريا في مسار أي حزب. ولعل خطر الفراغ السياسي الذي يحدق بالعراق نتيجة أي استقالات رئاسية أو حكومية، يكون محفزًا لهذه القيادات للتوافق على مخرج توافقي للأزمة برمتها.