1410191
1410191
إشراقات

حفظ النفس والنسل.. والرعاية الصحية

02 يناير 2020
02 يناير 2020

الوقاية خير..

حمود بن عامر الصوافي -

من الضرورات التي ينبغي الالتفات إليها والحفاظ عليها في ظل استفحال الأمراض وزيادة الأطعمة المعلبة وتنوعها وكثرة الواردات من هذه الأطعمة التي لا يعلم حلالها من حرامها ولا صحتها من سقمها وما زالت الأرقام والرسائل التي تصلنا من حين لآخر تنذر بخطر عريض في الإكثار من هذه الأطعمة.

ميز الإسلام بين الضروري وغير الضروري ووجه أفراده منذ ميلاده إلى مراعاة أحوال الناس وطرق معيشتهم وأرزاقهم فلم يهمل جانبا على جانب، ولم يغلب جانبا على جانب وإنما راعى المصلحة العامة وقدمها على غيرها وجعل للدين أساسيات لا ينبغي تخطيها أو تجاوزها أو الإعراض عنها أو محاولة التنصل منها لأنها تعد من أساسياته فلو نظرنا نظرة نبيهة إلى الأحكام الفقهية والتشريعات الإسلامية للاحظنا أن الإسلام راعى ضروريات مختلفة وجعل الحكم الشرعي يدور في كثير من الأحيان حولها بشرط ألا تضر بأخرى.

فهناك أشياء واجب مراعاتها وتبين أوجه اللزوم فيها وتقديمها على غيرها أطلق عليها الإسلام الضرورات الخمس وهي: الدين والنفس والعقل والعرض والمال فإن راعى المجتمع هذه الضروريات وقدمها وفق مراد الشرع سعد الفرد في هذه الحياة واستطاع أن يعيش فيها قرير العين طيب النفس وإن أهملها أو حاول تفويتها فإنه سيشقى في الدنيا والآخرة، قال تعالى: « وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى، وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى».

وهذه الضروريات لا تقدم على حسب الأهواء والمصالح الآنية وإنما يجب مراعاة جوانب جانبية فيها حتى لا يعتدي الناس على بعضهم بعضا بحجة مراعاة ضرورة أو تقديم مصلحة فيفسدون من حيث يظنون أنهم مصلحون، ومن ذلك مراعاة قاعدة (لا ضرر ولا ضرار في الإسلام) فمثلا لو أشرف الإنسان على الموت فلا يجوز له أن يقتل أخاه المسلم ليبقى هو محافظا على ضرورة النفس ويفوت الضرورة على صاحبها فهنا ليست ضرورته بأولى من غيره كما أنه بفعاله سيقتحم ضرورة أخرى أعلى وأولى وهي ضرورة الدين لذا يحرم عليه فعل ذلك بينما لو كان الإنسان بين ضرورتين وهي النفس والمال فيجوز له تفويت الأخف منهما أو لا يؤاخذ على فعله لكونه مضطرا إلى أخذ ما يحيي به نفسه بشرط ألا يتمادى في ذلك ولا يفرط في أخذ المال فكما قال الإمام جابر بن زيد الضرورة تقدر بقدرها فصحيح أنه قد يباح لك أخذ مال غيرك مضطرا ولكن لا يباح لك أن تتمادى وتفرط في أخذ أموال غيرك.

وفد فهم الصحابة هذه الضرورات وطبقوها في حياتهم ومعيشتهم ولنا في قصة عمر بن الخطاب عام الرمادة خير مثال فقد أوقف حد السرقة لأن الناس لم يسرقوا إلا بسبب شبهة الجوع وظهور شبح الموت.

ومن الضرورات التي ينبغي الالتفات إليها والحفاظ عليها في ظل استفحال الأمراض وزيادة الأطعمة المعلبة وتنوعها وكثرة الواردات من هذه الأطعمة التي لا يعلم حلالها من حرامها ولا صحتها من سقمها وما زالت الأرقام والرسائل التي تصلنا من حين لآخر تنذر بخطر عريض في الإكثار من هذه الأطعمة.

فضرورتي حفظ النفس والنسل تحتم علينا أن نعد العدة قبل استفحال المشكلة وقبل أن يصلنا شرارها وها هو شرارها يتكشف بين الفينة والأخرى، فيجب أولا أن نستعد لذلك منذ أمد بعيد لتنشأ معنا الثقافة المبكرة في ذلك وهذا الاستعداد يجدر أن نبدأه منذ أول خطوة نخطوها لتكوين أسرة متكاملة أو قبل ذلك من خلال الحث على تيسير أمر الزوج إلى الرعاية الصحية التي يتلقاها الفرد في بلده فلا بد أن يختار الرجل المرأة التي توافقه ويرتاح قلبه إلى معاشرتها والاقتران بها لينشأ البيت على محبة ورحمة ويؤدي إلى تكوين أسرة متحابة مترابطة ثم يراعي أولاده صحيا وجسديا فلا يطعهم إلى الجيد من الطعام ولا يبالغ في شراء المأكولات المعلبة والأغذية غير الصحية لأولاده حتى يقيهم شر الأمراض وسلسلة قنطارات العلاج.

ولا يقتصر دور الأسرة على التوجيه فحسب بل يجب أن يكونوا قدوة لأبنائهم فلا يدخلون إلى بيوتاتهم إلا ما هو صحي من الطعام ويتناسب معهم لأن الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يعرفها إلا المرضى ويجب توجيه الأبناء بأن الصحة نعمة من الله تعالى لا يجوز تفويتها أو الإضرار بها بل يعد ذلك كفرانا للنعم فالله تعالى أمرنا أن نشكر النعم ولا ريب أن شكر النعم لا يقتصر على الحمد والتسبيح بل يرافقه تطبيق عملي لذلك فلا ندفع بأنفسنا إلى الأمراض لأن الجسد من خلق الله تعالى ومن نعمه فمن غير اللائق أن نبطر النعمة ونرمي بأنفسنا في الأمراض أو محاولة أكل ما لا ينبغي أكله أو ما يسبب الأمراض لأنفسنا، وما حرم الخمر والخنزير والميتة إلا لتأكد الأمراض فيها وأضرارها البالغة لذا لا يجوز الإقدام على أكل ما يضرنا في أبداننا وأنفسنا بل أحيانا الأكل يؤدي إلى مهلكة والله تعالى يقول: « وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ»، وقد حرم الله تعالى الخنزير والميتة وما يضر البدن لوجود المضار الشديدة فيها وحفاظا على نفوسنا وأبداننا من أكلها، قال تعالى: « إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ».

وكذلك حرم الإسلام كل خبيث فأدخل العلماء في ذلك كل أنواع المخدرات والدخان وما يضر البدن بشكل كبير وواضح لا لبس فيها لأنها خبائث تضر بالصحة ولها مساوئ كثيرة على الفرد والمجتمع فلا يقتصر ضررها على متعاطيها بل ينفث سمها في المجتمع ويرهق الدولة بعلاجات كثيرة، وهي محرمة شرعا بنص عموميات القرآن فقد أعطانا القرآن قاعدة لتمييز الحلال من الحرام والخبيث من الطيب فأدرج كل خبيث في دائرة الحرام وكل طيب في دائر الحلال قال تعالى:« وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ».

فنفث الدخان والتهاون في ارتكاب ما نهانا عنه المولى لا سيما فيما يتعلق بالصحة يضعنا أمام مساءلات يلزمنا ترك المساس بهن وهي الدين والنفس والمال فلا نحن حافظنا على ديننا لأننا ارتكبنا ما حرمه الله تعالى علينا ولا نحن حافظنا على أنفسنا من ضرر الدخان مثلا ولا نحن حافظنا على مالنا من التبذير والإسراف والله تعالى يقول:« يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ» فهذا في الحلال فما إثم مرتكب الحرام والمسرف فيه؟ لا شك أن إثمه عظيم وضرره كبير وسخط الله عليه كبير لذا حذار من الولوج في مستنقعات الإثم واختراق هذه الضرورات التي أمرنا الله تعالى أن نحافظ عليها وأن نوليها العناية والاهتمام قال تعالى:« وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ».

فلنتعاون جليا في المحافظة على هذه الضرورات من خلال طرق كثيرة نبدأها بالتوعية في البيت والأسرة والمدرسة والوظيفة كل يدلو بدلوه فهذا في بيته وذلك في مدرسته وذاك في منبر الجمعة وآخر في الجريدة وثان في التلفاز فكل أطياف المجتمع يجب أن تشترك في ذلك وأن تجتمع على كلمة سواء في مقاومة أي ضرر يلحق المجتمع فيحصن الأطفال من داء الأمراض المعدية وتراقب وزارة الصحة المنتجات وتنظر البلديات في التراخيص الصالحة وغير الصالحة ويراعى في ذلك سلامة الأغذية وحليتها أيضا لأن الله تعالى لم يجعل الطيب في الحرام كالميتة والخنزير وغيرها فكيف نطعم أولادنا وأنفسنا ما حرمه الله تعالى ويعود علينا بالضرر، قال تعالى:« حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ».

فيجب أن نراقب مداخلنا ومخارجنا لنمنع ما يضرنا ويضر صحتنا فنحن جميعا مؤتمنون على كل ما يدخل بلدنا فلا نفرط في المراقبة ولا نترك الأمور للأقدار والله تعالى أمرنا أن نسعى ونغير أقدارنا للأحسن قال تعالى:« إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ»

فإذا لم نغير من حالنا ولم نسع لمراقبة محلاتنا والنظر في صادراتنا ووارداتنا فمن يحفظ الصحة لأولادنا ومن يعيننا على أداء مهمتنا بأحسن حال فليكن في خلدنا أن صحة المواطن لا تباع بالتبر والدينار وأن المال الغادي رائح ولكن الصحة والدين والعلم والمعرفة يجب أن تبقى ويعلى من شأنها.

 

الرعاية الصحية الجيدة -

هلال بن علي اللواتي -

لما يتصفى الباطن من الكدورات النفسية والصفات الذميمة فإن الثقافة مهما كانت نورانية ومهما كانت جميل ومهمة وخطيرة فإنها تنقلب في نفس صاحبها إلى سلاح خطير قد يصل إلى تدمير الشعوب، وإلى إلغاء الآخر تماماً، لاحظ القرآن الكريم وهو يبين الغاية التي عليها دعوة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله: «لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ»، فإن التزكية تقدمت على التعليم، لأن بالتزكية يتلون العلم بلونها، وإذا لم تكن هناك تزكية فإن العلم سوف يتلون بلونها غير المزكى.

حفظ النفس والنسل.. من ضروريات الإسلام.. ومن حفظ النفس الرعاية الصحية.. ما الذي دعا إليه الإسلام لتعزيز حفظ النفس والنسل صحيا وما الذي ينبغي على الدول الإسلامية في سبيل تحقيق هذه الضرورة تارة يوجب الشيء بحكم عقلي، وأخرى يوجب بحكم عرفي، وثالثة بحكم شرعي، ورابعة بحكم قانوني، وأما الواجب العرفي فليس بالضرورة أن يكون موافقاً من قبل العقل والشرع، إلا أن الواجبين والحكمين العقلي والشرعي فيجتمعان، وليس المقام في معرفة المتقدم والمتأخر رتبة أو وجوداً، وأما الحكم القانوني فيتركب من مجموعة من اللحاظات المتقدمة، وتتفاوت فيه شدة وضعفاً.

وأخرى يلحظ الشيء بلحاظ آخر وهو الوجوب النفسي وأخرى بالوجوب الغيري، وكما أنه يلحظ بلحاظ ثالث وهو اللحاظ اللزومي، وفيه أيضاً أقسام، كما يلحظ الشيء بلحاظ الحكم الأولي، وأخرى بلحاظ الحكم الثانوي، ولربما يتعدى إلى الثالث.

والصحة تلحظ تارة بلحاظ ذاتها وأخرى بلحاظ غيرها، كما أن الحكم عليها أيضاً يكون بلحاظ عقلي أو بلحاظ شرعي أو بلحاظ عرفي أو بلحاظ قانوني، وبما أن الكلام هنا بلحاظ الدين الإسلامي وما دعا إليه من ضرورة الاهتمام بالجانب الصحي؛ فإننا نلحظه تارة بلحاظ ذاتي وأخرى بلحاظ غيري، وثالثة بلحاظ مقدمي - مقدمة شيء ما -، أو بلحاظ لزومي، فبالنتيجة يتفق رأي الدين الإسلامي في كل اللحاظات على أهمية الصحة، بل ولربما يصل التأكيد فيه إلى الواجب الشرعي، ويتبدل الحكم من الحكم الأولي بالإباحة والجواز مثلاً إلى الوجوب واللزوم.

وفي عالم الصحة لا تلحظ الصحة البدنية فقط بل نجد الاهتمام منصباً على أنواع أخرى من الصحة من قبيل الصحة النفسية والصحة العقلية والصحة الروحية، الأمر الذي ظلل على مجمل ثقافة الفرد وكذا على ثقافة المجتمع بالتبع، بل وبدأت العدسات العلمية تؤكد على أن للصحة النفسية والعقلية تأثيراً على الصحة البدنية وبشكل مباشر ووضاح، الأمر الذي دعا الكثير من رواد عالم التربية والنفس والاجتماع بل وكذا السياسة والاقتصاد بالاهتمام بهذا الجانب اهتماماً بالغاً، فظهرت المدارس الفكرية والنفسية والاجتماعية التي تعنى بهذا الجانب، واصبح مورداً لكسب أصوات الناخبين إذا ما أراد شخص أن يصبح رئيساً في دولة ما أو صاحب مكانة سياسية واجتماعية.

والدين الإسلامي ما انفك يدعو إلى ضرورة الاهتمام بالصحة النفسية في عين إرشاده إلى ضرورة الاهتمام بالصحة البدنية وكذا الروحية والعقلية لما لهذا الرباعي من تأثير على شخصية الإنسان الفردية والاجتماعية على حد سواء.

وبرز الاهتمام بالصحة العقلية في القرآن الكريم في آيات كثيرة جداً، وكما هو شأن الآيات القرآنية أن تمدح المتلبس بالصفة لا لمجرد الصفة كما هو شأن الفلاسفة وعلماء الأخلاق، فنجد أن القرآن الكريم يمدح المتلبس بصفة العقل كما في قوله تعالى:« إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب»، وفي أخرى: «وآتينا لقمان الحكمة»، وثالثة: «إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب» ففي التفسير القلب يعني العقل وهكذا تتعدد أسماء العقل بتعدد اللحاظات التي يكون عليها العقل.

والصحة العقلية تكون بالحفاظ على البديهيات العقلية، فهي تعد المبنى العلمي العقلي للإنسان، فإذا اختل هذا المبنى اختلت الثقافة الإنسانية التي يتزود بها الإنسان، ومن ثم يضيع صاحبها، ومن دون المبنى العقلي السليم فإن الإنسان يصبح لقمة سائغة للمغالطات، ولن يتمكن من تمييزها بسهولة، وقد ينحرف انحرافاً كبيراً عن جادة الصراط المستقيم والاعتدال، ويكفي فيما ورد بالأثر الشريف:( لا دين لم لا عقل له).

وأما الصحة النفسية فإنها وإن كان ذات مناشئ عقلية وروحية ومشاعرية، فهي تعد من الأساسيات التي تقيم عليه شخصية الإنسان، ويتضح من خلال مظاهرها هل الشخصية ذات الصحة النفسية السليمة أو غير سليمة؟ فالكذب مثلاً يعد من مظاهر السقم النفسي، ومن مناشئ الكذب هو الاضطراب النفسي والمعارفي العلمي، ولذا نجد الترابط الوثيق بين العقل والنفسي، حيث أحدهما يمثل المبنى الذي يستند عليه الآخر، ولهذا كان التركيز في الشريعة الإسلامية على البناء العقلي والنفسي، وضرورة حفظهما من الانحراف والتطرف، وهذا من حوارات القرآن الكريم مع أهل مكة والنصارى واليهود والمشركين والكفار، فإن دعوة الأنبياء عليهم السلام كانت لمن كانوا يرسلون إليهم تتلخص في ضرورة رفع الحجب والموانع عن العقل والنفسي كي يتمكنوا من شق طريق السعادة والحضارة الصحية من غير مشاكل أو متاعب.

ويدخل في الصحة النفسية «تزكية الأخلاق» والمقصود هنا ليس المدح للذات، بل تصفيتها من الكدورات والشوائب التي تعيق عمل العقل والنفس بالشكل الصحيح، فلاحظ الآية الكريمة: «اذهب إلى فرعون إنها طغى فقل هل لك إلى أن تزكي»، فإن الله تبارك وتعالى ما أرسل النبي موسى عليه السلام إلى أن يمارس الدعوة العلمية والثقافية في فرعون، بل إن أول كلمة علمه الله تبارك وتعالى أن يقوم به هو: الدعوة إلى التزكية.

فلما لم يتصفى الباطن من الكدورات النفسية والصفات الذميمة فإن الثقافة مهما كانت نورانية ومهما كانت جميل ومهمة وخطيرة فإنها تنقلب في نفس صاحبها إلى سلاح خطير قد يصل إلى تدمير الشعوب، وإلى إلغاء الآخر تماماً، لاحظ القرآن الكريم وهو يبين الغاية التي عليها دعوة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله: «لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ»، فإن التزكية تقدمت على التعليم، لأن بالتزكية يتلون العلم بلونها، وإذا لم تكن هناك تزكية فإن العلم سوف يتلون بلونها غير المزكى.

وهذه من أهم الآيات التي فيها بيان عن الصحة النفسية والعقلية التي يبين القرآن الكريم الدور الرسالي للنبي الخاتم صلى الله عليه وآله الطاهرين وأصحابه المنتجبين.

إن التعاليم الدينية بقوة المعادلة الرياضية، وهي تدعو جميع الدول الإسلامية بل كل البشرية إلا أن المسلم معني بالكلام أولاً وبالذات؛ إلى ضرورة التحلي بالتزكية أي بالصحة النفسية ثم تحلية النفس والعقل بالعلوم النافعة، وإلا لا سمح الله سوف تتحول تلكم العلوم النافعة إلى سلاح خطير لا يرحم العباد ولا البلاد. والاهتمام في العلوم الحديثة وما فيها رفع مستوى البلد علمياً واقتصادياً ورياضياً وسياسياً وفكرياً وتربوياً وفنياً وزراعياً وغير ذلك من شتى أنواع التنمية لأمر جيد ومطلوب إلا أن كل هذا مرهون بقاؤه واستمراره على ضمان الصحة النفسية والعقلية، وإهمال هذا الجانب مخاطر كثيرة على الأفراد والمجتمعات وعلى مستقبل كل دولة في العالم.

فعلى الجميع الأخذ بالأسباب الصحيحة للصحة النفسية والعقلية أولاً، وإلا فإن المشاريع اليوم كثيرة وهي تطرح نفسها الأفضل والأجمل، إلا أن معرفة أي منها كذلك فيحتاج إلى ضابطة معيارية مهمة ولعل «الاحتياج الذاتي» يعد من أقوى الضوابط والمعايير اليوم لمعرفة ما يناسب الإنسان وما لا يناسبه، وهو معيار وجداني حر موضوعي أصيل، بعيد كل البعد عن التوجهات والاتجاهات.