أفكار وآراء

الحداثة والاغتراب

25 ديسمبر 2019
25 ديسمبر 2019

محمد جميل أحمد -

بدأ فهم الحداثة في المنطقة العربية، منذ مرور أكثر من 200 عام على حادثة الاحتكاك الأولى مع حملة نابليون في مصر، حتى اليوم، ينوس بين معنيين في الاغتراب والتغريب. وفيما بدا التغريب، على ما تدل عليه دلالة أولية، ضربًا ماديًا للتأثر بالحياة المعاصرة، أي شكلًا من أشكال التحديث، إلا أنه مع ذلك كثيرًا ما ينشأ خلط بين مفهومي الاغتراب والتغريب والحداثة والتحديث!

في تقديرنا، إن في التغريب ضربا سطحيا من الاغتراب، وهو اغتراب يأخذ تعبيراته في تلك الوحشة التي كان يشعر بها الفرد العادي، قبل عقود، في المجتمعات العربية حين يفارق مألوفًا تقليديًا له سواء في لبس الثياب الغربية أو في طريقة الأكل، أو حتى في نمط الحياة العصرية الذي تضخه نماذج لامتناهية للإنتاج الفني والإعلامي عبر بث الأفلام والمسلسلات.

لكن بالإمكان القول، كذلك، إن الاغتراب السطحي بسبب الاندراج في ظاهر التغريب، أصبح اليوم كذلك هو الآخر، في ظل الحياة التي عممت نمطها العام مظاهر العولمة وعرضت طبيعتها التواصلية ثورة المعلوماتية والاتصال، ضربًا من عادية الحياة المعاصرة توحدت فيه الكثير من المظاهر والسلوكيات.

مع ذلك، فإن جميع المشتغلين بفهم ظاهرة الحداثة في المنطقة العربية من مفكرين وباحثين يجمعون على أن الحداثة العربية حتى الآن لم تنسلك في مسار واضح يقطع مع طبيعة التعاطي العقيم الذي ظل مستمرًا لأكثر من قرن.

إن التغريب أو التحديث الذي عممته الحداثة كتيار عالمي شكل صورة الحياة العصرية وحدد طبيعتها ونمطها، كان هو نصيبنا المتجدد في المنطقة العربية، وفي كل مرة نتوهم فيها طريقًا للحداثة لا يعدو أن يفضي هذا الطريق إلى أفق مسدود!

لقد كان استيهام التواصل مع الحداثة ينظر إليه دائما بمنظار التحديث، دون أن يتحول التحديث إلى حداثة، أو دون أن يتحول التغريب إلى اغتراب.

إن حقيقة الاغتراب في فهم الحداثة، بطبيعة الحال، شرط فردي وخيار خاص يختبره المفكرون والفنانون والمبدعون، لكنه في النهاية، إذا ما كان اغترابا حقيقيا، سينعكس عبر تجارب الأخيرين ليشكل تيارا عاما يترك بصماته في الوعي الكلي للمجتمع.

بعبارة أخرى، الاغتراب في الحداثة هو ضرب من القدرة على تأسيس قناعات فكرية ومعرفية وكونية صلبة، قناعات تقتلع صاحبها، مبدعًا كان أو مفكرًا أو فنانًا، من واقعه المتخلف بحيث تجعله مؤمنا إيمانا حقيقيا بالقيم الإنسانية للحداثة، كالفردية، والاستقلالية، والضمير العام، والمواطنة، وحقوق الإنسان.

لكن للأسف، دلت تجارب كثيرة لمفكرين ومبدعين، طالما بشروا بقيم الحداثة عبر كتاباتهم وفنونهم وإبداعهم، لكنهم في النهاية عجزوا عن تمثل قيم الحداثة التي ربما كان «الاغتراب» هو أحد أهم مفاعيلها الإيجابية.

أن تكون مغترباً بوعيك الحداثي، يعني أن تكون مختلفا في رؤيتك لعاديات كثيرة يظنها الناس في منطقتنا العربية كما لو أنها جزء من الطبيعة، فيما هي جزء من التخلف، كالعنصرية والعصبية، والاستبداد والأوتوقراطية والقطيعية.

وما لا ينتبه له كثيرون، هو أن هناك فرقا كبيرا بين تمثُّل قيم الحداثة وبين الحديث النظري البارد عنها دون أدنى استعداد للتخلي عن عاديات التخلف.

لكن ما سيكون أكثر استغرابا، هو أن تلك القيم الكونية للحداثة رغم القدرة على التنظير فيها والكلام الطويل عنها، إلا أنها قيم لا يمكن أن تنعكس في واقع الناس وعاديات حياتهم إلا إذا اغترب رواد في الفكر والإبداع في مجتمعاتهم وأصروا باغترابهم ذلك على أن يحدثوا فرقًا في واقع مجتمعاتهم المتكلسة. وهو فرق لا بد أن يكون ذا طبيعة واضحة جداً تتمثل في القدرة على استعداد تلك النخب الفكرية والإبداعية للتضحية من أجل تلك المبادئ والقناعات الكونية للحداثة.

ذلك أن ما يجعل البشر أكثر تأهيلًا للانفعال بالمبادئ والقيم هو فقط حين تتجسد تلك القيم في نماذج بشرية ومواقف إنسانية، وفقط حال رؤيتهم أصحاب القيم الحداثية نماذج حية للتضحية والإصرار على القيم الكونية للحداثة في مواجهة مجتمعاتهم بها، فالاستعداد الدائم من أجل التضحية في سبيل قيم الحداثة حينئذ لا يكون مؤشرًا فقط على قبول البشر العاديين وتأثرهم بحيث يكونوا أكثر قدرة على تغيير حياتهم، بل وكذلك على مصداقية وحقيقة تلك القيم ذاتها.

ذات مرة قال محمود درويش «لم يبلغ الحكماء غربتهم» ويبدو أن كثيرين من دعاة الحداثة اكتفوا بظاهر التحديث إيثارًا للسلامة، فيما ظن البشر العاديون في مجتمعاتنا، أن التحديث هو عين الحداثة، ولأن التحديث سيرورة لامتناهية من استخدام مظاهر الحداثة فسيظل كذلك باستمرار كالسراب الذي يحسبه الظمآن ماءً. فهذا الجزء من العالم المسمى عربيًا لا يزال حتى اليوم يعيش الناس فيه بأجسادهم في قلب الأزمنة الحديثة، فيما يعيشون بأفكارهم الشخصية وعلاقاتهم البينية، وتصوراتهم لإدارة الاختلاف والتناقضات بينهم بعقليات القرون الوسطى، كما قال الشاعر العربي الكبير أدونيس.

إن وعي هوية الاختلاف بين التغريب والاغتراب والحداثة والتحديث ووعي استحقاق ذلك الفرق هو ما سيحدث الفرق في وعي النخب العربية.