ghada
ghada
أعمدة

زكريا تامر نمرٌ عصيٌ على الترويض

21 ديسمبر 2019
21 ديسمبر 2019

غادة الأحمد -

«نهر المخلوقات البشرية تسكع طويلاً في الشوارع العريضة المغمورة بشمس نضرة، حيث المباني الحجرية تزهو بسكانها المصنوعين من قطن أبيض ناعم ضغط ضغطاً جيداً في قالب جيد وتعرج النهر عبر الأزقة الضيقة وبين المنازل الطينية المكتظة بالوجوه الصفراء والأيدي الخشنة، وهناك امتزجت مياهه بالدم والدموع وبصديد جراح أبدية».

بهذه الكلمات المعبرة، وبهذه الصور المشحونة بطاقة شعرية عالية بدأ الجواد الأبيض مسيرته الإبداعية والكفاحية، واتضح منذ الجملة الأولى موقفه وخط سيره واصطفافه! فقد اختار الإنسان الصغير المهمش هدفا لقصصه وبقي قارا في صميم وعيه الإبداعي، فالقارئ لأعمال زكريا تامر القصصية يحس بقوة حضوره كقارئ فيها لما تتمتع قصصه من قوة التأثير ولما تحققه من مصداقية في الاستجابة العاطفية.

امتلك زكريا تامر ناصية اللغة وكان ساحراً في صنعته فمزج بين أسلوبين وخط بهما ما يريد قوله فأبدع في أسلوبه الشاعري الغنائي في التعبير عن معاناة الإنسان وعجزه ونقائه ولم يتخل عن أسلوبه العقلاني بالآن نفسه الذي اعتمد المفارقة في قراءة الواقع قراءة واعية وضع فيها يده على أسباب اختلال المعايير بين الأطراف المتصارعة. لم يعتمد العنف اللغوي في كسر ألفة اللغة الاعتيادية وحسب بل اعتمد المجازات والمبالغات ورسم صوراً خلقت فجوات توتر مقصودة لم تغرب الواقع بقدر ما كشفت عن القيم الشائهة فيه فولدت اللغة والصور بكثافتها التعبيرية طاقة انفعالية رؤيوية لا تنتظر المتعة القرائية فقط بل تنتظر متوالية من الدلالات اللامتناهية والسلوكيات العملية.

وبهذه الطاقة الشعرية عبر زكريا عن انسحاق الإنسان المفتقد لحاجاته الأساسية التي تحقق شرطه الإنساني الحالم بوطن دافئ ومعافى ساوى فيه بين الخبز والمرأة والمدينة.

أبرز زكريا عبر مرحلتين من الكتابة مدى العسف الواقع على الإنسان كما أكد ضآلة هذا الإنسان أمام قوى السلطة الظالمة التي استغلت العامل الاقتصادي لترويضه، وأشار إلى التحالف الخفي بين السياسة والدين وإلى تبدل المفاهيم وتضاؤل الفكر الغيبي لصالح المعادل الاقتصادي والواقعي.

ربما كان الجنس في الأعمال الأولى شاهدا على الحاجات الفعلية وأحد شواهد التعبير عن بساطة الطموح بالحياة المستقرة الآمنة والملجأ للإنسان الخائف المكتئب الجائع أما الجنس في المرحلة الثانية فقد كان شاهداً معبراً على التحول القيمي في المجتمع وعلى الانحلال الخلقي وانهيار القيم الإنسانية على حين أظهر التحالف الجديد بين قوى السياسة والدين ( حتمية العذاب الإنساني) ولعل أهم عامل أشار إليه زكريا في أعماله الأخيرة هو افتقاد إنسان هذا العصر للروح الثورية المناهضة

كما أشار إلى ظهور تحالف جديد في التواطؤ شارك في ترسيخ الواقع السلطوي ألا وهو التحالف بين المثقفين ورجال السلطة على اختلافها. ولعل الانتباهة الذكية في أعماله الأولى حققت قدرا لا يستهان به من ثبات الحس الإنساني النبيل والنظافة الأخلاقية على حين بدا إنسان زكريا في أعمال المرحلة الثانية متحولاً بتحول الواقع فاقداً لنبله ونظافته غير متأثر بما حوله تسمه اللامبالاة تجاه الحوادث الكبرى فبدا أقل انسحاقاً وأقل شعوراً بهذا الواقع المتفاقم وبهذا يكون عبر مسيرته القصصية المبدعة النمر العصي على الترويض نبذ الخوف ولم يختر التحالف طريقاً لبث ما يقول، وعمق صورة الواقع البائس الذي يعيشه إنسان هذا الوطن كاشفاً عن قبحه بهدف إدانته، متشوفاً لواقع إنساني أكثر عدلاً وأكثر جمالاً، لذلك يستحق زكريا تامر أن يكون رائداً ليس للقص العربي فحسب؛ بل رائداً للقص الإنساني على مدار العصور.