المنوعات

متى يحق للمترجم خيانة النص، وماهي رؤية الأدباء للمترجمين..؟

15 ديسمبر 2019
15 ديسمبر 2019

إشكاليات الترجمة مابين المهنة والإبداع -

استطلاع - بسام جميدة -

منذ بداية عصر الترجمة وإلى اليوم، لايزال هناك جدل كثير يدور حول إشكاليات الترجمة ومشاكلها وصعوباتها، رغم أهميتها البالغة كونها أداة للتواصل بين الأمم والشعوب، يتم بواسطتها التعرف على ثقافة الآخر، وعلى علومه وفنونه.

لم يكن للمترجم ذات يوم تلك الصورة البهية له شخصيا فيما يقدم من ترجمات، بل يتوارى بتقادم السنين وراء اسم المؤلف، ويصبح الجندي المجهول مع مرور الزمن، والقلة من يتذكر من الذي ترجم هذا أو ذاك الكتاب المشهور بل يتذكر اسم الكاتب وربما الناشر أيضا.

في هذه المادة كان لابد لنا من التعرف على أراء عدد من المترجمين والأدباء لمعرفة أرائهم في بعض من إشكاليات الترجمة.

المترجم المهني

د. يوسف شحادة، شاعر وأكاديمي ومترجم مقيم في بولندا يقول عن إشكاليات الترجمة: «يدخلنا الحديث عن إشكاليات الترجمة بين الكاتب والمترجم في موضوع يصعب الفصل فيه بين العامل الذاتي والعامل المادي في التعامل مع النص المترجم. يحيلنا العامل الذاتي إلى مقدار كيمياء الإعجاب بالكاتب والانبهار بالنص، حينها نجد انكباب المترجم على النص شديدا ومشبعا بالإبداع والحميمية فيخرج النص المنقول إلى لغة أخرى بديعا، وقد يبز النص الأصلي في حسن الأسلوب والصياغة فيأتي وكأنه نسخة محسنة عن الأصل، إذ يمكن للمترجم أن يتلافى الهنات والسقطات التي لم يلتفت إليها المؤلف عند الكتابة. بيد أن المترجم قد يؤدي دورا سلبيا حينما ينقل النص إلى لغته دونما حماسة وانبهار، ولذلك أسباب أولها الدافع المادي وأساسه التعاقد المالي، أي الترجمة من أجل المال والالتزام بعقد لأجل مسمى لإنجاز العمل، عندئذ تصبح علاقة المترجم بالنص علاقة مادية بحتة، وهذا يضر بجودة النص المترجم لغة وأسلوبا ومعنى».

ويتابع شحادة قائلا: «بالنسبة إلي، فأنا أتعامل مع النص المترجم على أنه يجب أن يكون صورة صادقة عن النص الأصلي. طبعا يمكن الخروج قليلا عن النص الأصلي، وأرجو وضع خط عريض تحت كلمة «قليلا». لكن يجب أن يكون الهدف من وراء ذلك الالتفاف على بعض الأمور التي قد يصعب على المتلقين من أبناء اللغة المترجم إليها فهمها ثقافيا أو اجتماعيا أو معنويا. وقد واجهتُ مصاعب جمة لدى نقلي لنصوص شعرية من بدايات القرن التاسع عشر، وجلها يخص مفاهيم اجتماعية وثقافية محددة ومغلفة بانزياحات لغوية مرتبطة بها. وكذلك يصبح الأمر أكثر عسرا عند ترجمة أدب الأطفال، ومن ذلك أن عددا من الناشرين العرب طلبوا مني أن أستبدل بعض الكلمات لكي تناسب مستوى أطفالنا المعرفي، على الرغم أن تلك الكلمات المستخدمة في النص الأصلي لا يعسر فهمها على أي طفل من الفئة العمرية ذاتها التي يستهدفها النص المترجم. وقد اضطررت أحيانا إلى تغيير أسماء النباتات(الشبث، على سبيل المثال) رغم مقاصدها الوظيفية والاجتماعية الموجهة إلى الطفل في النص الأصلي، لأنها غير مفهومة في بلادنا إلا عند المختصين. ومن المفترض أن يُسأل الكاتب عن رأيه في تغيير ما قد يفيد النص ويجعله قريبا إلى روح القارئ الآخر ووجدانه، ومن ذلك أخذ موافقته على تغيير العنوان أو أسماء الأبطال وبعض الألفاظ، وحذف ما يمكن الاستغناء عنه من حشو واستطرادات دون الابتعاد عن المعنى العام لما ورد في النص الأصلي. في المحصلة سيكتسب النص الجديد نصيبا من أسلوب المترجم، وشيئا من نفحات روحه، لا يخفى على القارئ النبيه.

وعن الجدل القائم بين الكاتب والمترجم يوضح شحادة بقوله: «أظن أنه قليل الحدوث، إذ أنه يعتمد أساسا على ادعاءات النقاد الذين تأتي نقودهم في كثير من الأحيان غير موضوعية بإزاء النص المترجم. أو قد ينشأ الجدل نتيجة للأغلاط اللغوية والابتعاد عن المعنى الذي أراده الكاتب. لكن الشيء الفظيع أن يدرك القارئ أن النص المترجم ركيك اللغة مضعضع الأسلوب، ولا تمكن قراءته بسلاسة ومتعة إذ يعجز عن إقناع المتلقي بأنه نقل أمين للنص الأصلي الذي عادة ما يكون مصنفا من الأعمال المميزة».

-وحول مهنية المترجم وإبداعه، يقول شحادة: «المهنية في الترجمة تأتي في المكان الثاني، وغالبا ما يكون المترجم المهني فاشلا في نقل الأعمال الأدبية بروحها وقيمتها الإبداعية، فيولد العمل المترجم جافا لا روح فيه ومثقلا بالتراكيب والعبارات الشائعة إلى حد الابتذال. وليس بالضرورة أن يكون المترجم ممتهنا الكتابة الأدبية، ففي المقام الأول تأتي الموهبة اللغوية وتذوق الجمال والإبداع وحب الكتابة والتعبير، وهذا لا يقتضي أن يكون ناقل النص كاتبا محترفا».

ظلم كبير

يشير الروائي السوري عدنان فرزات إلى أنه: «ثمة فكرة سائدة بأن الترجمة هي خيانة للنص، وهذا ظلم كبير ومصطلح مجحف بحق نقل العلوم والآداب والمعارف إلى لغات أخرى. فالخيانة عمل غير مشروع ولا أخلاقي على صعيد النوايا، بينما الترجمة هي عمل يجمل الكثير من النوايا الحسنة وإن وقع سوء فهم أو عدم إيجاد المفردة المرادفة للنص الأصلي من قبل المترجم. فالترجمة الأدبية لا بد أن يحدث فيها ذلك فهي ليست ترجمة حرفية أو قانونية لعقود تجارية ذات مصطلحات واضحة ومباشرة».

ويتابع فرزات قائلا: «أعرف الكثير من الأمثلة على صعوبة نقل المعنى بروحه إلى لغة أجنبية، فمثلا عنوان رواية: «أغمض روحي عليك» للكاتب الكويتي طالب الرفاعي واجهت هذه المشكلة. كما واجهتُ أنا شخصياً هذا الأمر في عنوان رواية روايتي «جمر النكايات». لأن العنوان ليس مباشراً بل مركباً على مدلولات لغوية متشعبة».

وأردف قائلا: «من خلال تجربتي في ترجمة عدد من رواياتي إلى اللغة الإنجليزية أو البولندية فإنني لا أتدخل في عمل المترجم خصوصاً أن لغتي تحتوي على لغة شعرية وهذا النوع ليس من السهل نقله بروحه إلى لغة أخرى بذات الإحساس الذي كتبت فيه الرواية. الشخص الذي ترجم روايتي «تحت المعطف» إلى الإنجليزية، هو بروفيسور في فلسفة الأخلاق مثلاً يدعى ميشيل متياس وهو ليس أديباً، ولكنه لم يخن النص بل ترجمه وفق رؤيته التي وجدها ملائمة للمحتوى».

وحول العلاقة بين الكاتب والمترجم يقول فرزات: «هي ليست مثل علاقة الكاتب بمخرج عمل سينمائي للرواية، فالأخير يمكن أن يتدخل فنياً بما يضعف النص وهو ما حصل في كثير من الأعمال ومنها رواية لأحلام مستغانمي حين تحولت إلى عمل تلفزيوني، وكذلك رواية «ساق البابمبو» للكاتب سعود السنعوسي. فهنا خيانة النص تكون أكبر لاضطرار المخرج إلى تقليص عشرات الصفحات بدقائق معدودة، أما الترجمة فهي اجتهاد مخلص وحقيقي وليست خيانة بل جسر بناه مهندس لغوي بين الشعوب وعلينا أن نشكره وإن حصل بعض الخلل في هندسة الجسر طالما أنه سيبقى صالحاً لعبور المعارف بين الأمم ولا يقع».

وصل بين ثقافتين

د.عبد المقصود عبد الكريم شاعر ومترجم من مصر قال عن الإشكالية والجدل في الترجمة ما بين الكاتب والمترجم والمتلقي: «نفترض غالبًا أن الكاتب ابن ثقافة وأن المترجم والكاتب أبناء ثقافة مختلفة (لأنني أفترض أن الترجمة تتم غالبًا، أو من الأفضل أن تتم، إلى اللغة الأم)، ويمثل المترجم هنا حلقة الوصل بين الثقافتين. لا أظن أن هناك إشكالية بيني، مترجمًا، وبين الكاتب الذي أترجم له، لكن الجدل دائم بيننا بالطبع، بيني وبينه، أو بالأحرى بيني وبين النص الذي أترجمه، لا أكف عن طرح الأسئلة، على الكاتب وعلى النص الذي أترجمه وعلى نصوصه الأخرى، حتى أصل إلى الدلالة الحقيقية للنص الذي أترجمه. وهنا تبرز الإشكالية الحقيقية مع المتلقي، الذي ينبغي أن يكون المترجم أمينًا معه على مستويين: دقة الترجمة، ومراعاة طبيعة لغة الترجمة، أن تحافظ على روح النص ولا تفقد خصائصها أو بعض خصائصها».

وهل الترجمة مجرد مهنة أم تحتاج إلى مهني مبدع..أجاب مقصود قائلا: «الترجمة مهنة، لكنها ليست مجرد مهنة. الترجمة مهنة، بمعنى أنها تحتاج إلى أدوات وإلى تدريب وإلى خبرة. تحتاج إلى إجادة لغتين على الأقل، إحداهما اللغة الأم بالضرورة، والتعرف على أسرارهما، والتدريب على كيفية النقل من اللغة الأجنبية إلى اللغة الأم، بدون تشويه روح النص، وبدون الجور على اللغة الأم. لكنها مهنة تحتاج إلى موهبة. القدرة على التعبير موهبة، لا يكفي أن تفهم معنى النص الأجنبي لتنقله إلى اللغة الأم بدون أن تتمتع بالقدرة على التعبير في اللغة الأم. والكتابة الأدبية مشكلة مضاعفة. لا يكفي في الترجمة الأدبية أن تكون قادرًا فقط على نقل النص الأجنبي إلى اللغة الأم بدقة، بل لابد أن تكون لديك القدرة على صياغته صياغة أدبية، وبالتالي إذا كان المترجم لا يمارس الكتابة الأدبية أصلًا، فينبغي على الأقل أن يتمتع بذوق أدبي، أو بموهبة أدبية. بعض الترجمات الأدبية الدقيقة جدًّا يمكن أن تكون ترجمات ميتة إذا لم يكن المترجم يتمتع على الأقل بذائقة أدبية».

وحول إمكانية خروج المترجم عن النص دون موافقة كاتب الرواية أوضح: «على المترجم أن يحافظ على النص الأدبي الذي يترجمه بقدر ما تحتمل لغة الترجمة، وأن يوازن بدقة بين دقة الترجمة واللغة الأدبية للترجمة، وليس من حقه الخروج على النص حتى بموافقة الكاتب. والترجمة الأدبية في النهاية نتاج مشترك بالضرورة بين المؤلف والمترجم، ومن هنا قد تتعدد الترجمات لنص أدبي معين بدون الوقوع في التكرار. حيث يكون لكل ترجمة مذاقها الخاص، بشرط الدقة. أستبعد دائمًا في حديثي الترجمات التي تفتقر للدقة».

- وحول حق المترجم المهضوم، قال: «أتفق في أن حقه مهضوم تمامًا، ساعة عمل المترجم لا تساوي شيئًا. لكن علينا، حتى لا نظلم دور النشر بشكل مطلق، أن نضع في الاعتبار دائمًا عدد النسخ المطبوعة، وهي في أحسن الأحوال بضعة آلاف. أظن أن الأمر لابد أن يتغير تمامًا حين يكون هناك قراء عرب بأعداد تسمح بطبع عشرات الألوف أو مئات الألوف.

هذه شروطي لترجمة رواياتي

وأشار الكاتب والصحفي حمود الشايجي من الكويت إلى شروطه لكي يمنح المترجم حق ترجمة إحدى رواياته بقوله: « من أهم الشروط هي التواصل المباشر معي، أنا مؤمن أن الترجمة هي عمل مواز للعمل الأدبي، وفي أحيان كثيرة يفوق العمل المترجم العمل الأصلي، وأحيانًا العكس، وهذا يعطينا دلالة أن الترجمة هي عمل ومجهود منفصل ومصاحب للعمل الإبداعي الروائي، بمعنى أن النسخة المترجمة ليست مرآة للنسخة الأصلية للعمل الروائي، لكنها بوجهة نظري هي الصديق المقرب الذي يعكس الكثير من صورة صديقه، لذلك شرطي الأساسي في قبول أي مترجم أن أستطيع أن أكون صديقه، وهذا ما سينعكس على نصه الإبداعي الموازي لنصي والمتشابك معه في الوقت ذاته.

وعن الهامش الذي يسمح به للتغيير كي يترجم رواية له قال الشايجي: «هامش التغيير المسموح بالنسبة لي هو التغيير المنصب لصالح القارئ الذي سوف تنتقل إلى لغته الرواية، بالإضافة إلى التغييرات التي قد تفيد النص في لغته الأصلية، لربما تكون رؤية المترجم أكثر دقة من رؤيتي، لذلك كما قلت سابقًا أن من أهم شروط قبولي لترجمة أي كتاب لي هي بناء علاقة صداقة مع المترجم نفسه.

وهل تثق في أي مترجم ممكن يقوم بترجمة أعمالك أجاب الشايجي: «من الصعب تسليم روايتي لأي مترجم، لكن من السهل تسليمها إلى مترجم يكسب ثقتي، وهذه الثقة غير مبنية على منجزه في الترجمة، بل هذه الثقة ستبنى بيني وبينه على أساس العلاقة الشخصية، ففهم كل واحد منا للآخر سوف يختصر الكثير من الأمور في الترجمة، وذلك كله يقوم على الاحترام والاستقلالية بيني وبين المترجم.

إعادة إنتاج النص

عن الترجمة يقول مزوار الإدريسي كاتب ومترجم من المغرب: «قضايا الترجمة هي بالفعل من قضايا الأدب، على اعتبار أنها كتابة تُعيد إنتاج النصوص بكل حمولتها المذكورة، وتُضيف إليها تأويلاً جديداً يَصْدُر عن المترجِم أساساً، فتُقْرأ الترجمة بدورها، وكأنها مُضاعَفة للنص الأصل، لأنه لا يبقى نصاً لصاحبه وحدَه، بل يمتزج فيه صوتُ المؤلِّف الأصل ووجهُهُ مع صوت المترجِم ووجهه، فيَصيرُ الأخيرُ شريكَ الأوّل في الأثر.

لذلك نجد من المؤلِّفين من يطمح إلى أنْ يُترجِمَ له مترجِمٌ بعينه يطمئن إلى كفاءته التأويلية دون آخرين، مثلما حدَث لـ إدْغَارْ أَلَانْ پُو مع الشاعر شارل بودلير الذي نقله إلى الفرنسية في ترجمة حققتْ للمؤلِّف انتشاراً واسعاً، ونوَّه بها كثيرون منهم هارولد بلوم وبورخيس.

وكما حصل لـ غابرييل غارسيا ماركيز مع مترجِم «مائة سنة من العزلة» غريغوري راباسا إلى الإنجليزية، بل إنَّ بورخيس نوَّه بمترجِميه في حوار معه عندما سُئلَ عمّا فعل مُترجِموه بآثاره، فرد: «كلَّما قرأتُ ترجمة لي أقول: يا سلام! ليتني كنتُ قد كتبتُ بهذه الصيغة؛ لا شك في أنّ المترجِمين قد ارتقوا بنصوصي!»، وهذا أمر طبيعي، لأنهم يفتحون أمامَها مسالك لم تكن لتخطر ببال مؤلِّفيها.

القصة لم تنته

حاولت في هذا التحقيق الوصول لمترجمين عرب كثر ساهموا برفد المكتبة العربية بترجماتهم، ولكن اعتذارهم عن المشاركة بسبب ظروفهم الخاصة حال دون معرفة الكثير من هذا الجدل، والوقوف عنده، وإن كان ذلك يستلزم المساحات الأوسع.

كما لم يحالفني الحظ بمعرفة رأي مترجمين أجانب حول ذات الموضوع، مما أبقى الباب مفتوحا لمزيد من الأسئلة التي أتمنى أن نجد لها إجابات مفصلة، على الأقل لكي نسترجع عصر ازدهار الترجمة ذات يوم، فيما تبقى الأسئلة معلقة حول لجان الترجمة في اتحادات الكتاب العرب ومدى فاعليتها، ودور اتحاد المترجمين العرب، ودور العرب وفاعليتهم في الاتحاد الدولي للمترجمين، وعن خصوصية المهنة ومتاعبها وحق المترجم وأمور كثيرة تستحق التوقف عندها.