1389287
1389287
المنوعات

مرفأ قراءة.. «حوليات نجيب محفوظ».. الإصلاح نهجًا ومذهبًا!

07 ديسمبر 2019
07 ديسمبر 2019

إيهاب الملاح -

(1)

لكل أديب وكاتب كبير وعظيم أعماله التي خلدت اسمه في مدونة التراث الإنساني؛ في الغالب بل في المقام الأول تكون أعمالا إبداعية خالصة؛ وإن كان بعد اكتمال تجربته وانقضاء رحلته الحياتية برحيله ثمة نصوص أخرى تكمل المتن وتوضحه وتضيف إليه وتكشف كثيرا من الفجوات والمناطق المعتمة، ربما تضيئها هذه النصوص التي يمكن أن تكون قصاصات ورقية مهملة أو مسودات وخطاطات مزوية، ويضاف إليها ما تشكل عبر رحلته من حوارات ولقاءات وأحاديث ومقالات منشورة عبر سنوات الرحلة.

ولهذا، (ونحن نحتفل بالذكرى الـ 108 لميلاده) فإن «حوليات نجيب محفوظ» التي أصدرتها الدار المصرية اللبنانية مطالع هذا العام في ثلاثة مجلدات كبيرة تمثل أهمية كبيرة ودقيقة في مجمل المتن المحفوظي والنص «النجيبي»، إذا جاز التعبير. تضم «الحوليات» أغلب أو معظم ما نشره من مقالات عبر صفحات جريدة (الأهرام) منذ تفرغه للكتابة لها مستهل السبعينيات من القرن الماضي، واستمر ينشر بها زاويته الأسبوعية «وجهة نظر» حتى وفاته في 2006.

تبدأ قصة هذه المقالات وجمعها حينما اضطلع الأستاذ فتحي العشري (السكرتير الخاص ومدير مكتب نجيب محفوظ بالأهرام لسنوات طويلة) بجمع وتصنيف وتبويب وفهرسة مقالات نجيب محفوظ التي كان ينشرها في جريدة (الأهرام) خلال الفترة من (1976) إلى (1987)، وقبل حصوله على نوبل بعام واحد.

حتى حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل في الآداب، لم تكن هذه المقالات، والكتابات الأولى، قد جمعت بين دفتي كتاب واحد، فأخذ بعض الباحثين والمهتمين بتراث نجيب محفوظ، ومنهم الكاتب الصحفي فتحي العشري، في جمع هذه الأعمال وإعدادها للنشر وإخراجها بين دفتي كتاب واحد.

وهكذا، وعن الدار المصرية اللبنانية، أخرج فتحي العشري سلسلة من الكتب التي ضمت مقالاتٍ وكتاباتٍ قديمة لمحفوظ، وقام بتبويبها وتصنيفها، بحسب موضوعاتها التي تعددت بين السياسة، والدين، والأدب، والفلسفة، والتربية، والثقافة والحرية والشباب.. إلخ. وفي كل واحدة منها، وفي كل مقال من تلك المقالات يلقي الأديب النابغة بوجهة نظره في موضوعٍ ما يشغل العالم أو الوطن العربي أو الوطن المصري.

وصدر الكتاب الأول من مجموعة المقالات بعنوان «حول الدين والديمقراطية» سنة 1989، وكان هذا الكتاب هو باكورة منشورات الدار المصرية اللبنانية الخاصة بإنتاج نجيب محفوظ من المقالات، واستمرت في إخراج أجزائها تباعا حتى اختتمتها بمجموعة مقالات «حول الأدب والفلسفة» التي صدرت عام 2003.

(2)

تشكلت مجموعة المقالات التي صدرت في تسعة أجزاء؛ حسبما صنفها العشري كما يلي:

«حول الدين والديمقراطية»، وصدر للمرة الأولى بين عامي 1989/‏‏ 1990 (صدرت الطبعة الثانية في نوفمبر 1998، والطبعة الثالثة في مايو 2004)، ثم «حول الشباب والحرية»، صدر للمرة الأولى عام 1990 (صدرت الطبعة الثانية في مايو 2004)، ثم «حول الثقافة والتعليم»، صدر للمرة الأولى عام 1990، وصدر الجزء الرابع بعنوان «حول التدين والتطرف»، صدر للمرة الأولى في أكتوبر 1996 (وصدرت الطبعة الثانية في مايو 2004)، والخامس «حول العدل والعدالة»، صدر للمرة الأولى في أكتوبر 1996

والسادس «حول التحرر والتقدم»، صدر للمرة الأولى في أكتوبر 1996. ثم صدر الجزء السابع بعنوان «حول العلم والعمل»، صدر للمرة الأولى في أكتوبر 1996 (وصدرت الطبعة الثانية في مايو 2004)، والثامن «حول العرب والعروبة»، صدر للمرة الأولى في أكتوبر 1996 (وصدرت الطبعة الثانية في مايو 2004)، وصدر الجزء التاسع والأخير «حول الأدب والفلسفة»، صدر للمرة الأولى في أبريل 2003

في هذه الأجزاء التسعة التي صدرت فيما بين عامي 1989 و2004 نماذج غاية في الروعة والقيمة لمقالات نجيب محفوظ وكتاباته التي عالج فيها موضوعات فكرية وثقافية وسياسية تتصل بوطنه مصر أو محيطه العربي أو هموم عالمه الإسلامي أو الإنسانية بأسرها، وفيها بصمته الأسلوبية وعبق كتابته «المحفوظية» الخالص، وحسه اللغوي الخاص. ورغم أن هذه المقالات كان يتوجه بها إلى قارئه مباشرة دون أي تشكيلات جمالية وإبداعية خاصة، فإنها في الوقت ذاته حملت كثيرا من رؤاه وأفكاره الأساسية حول التقدم والحرية والعدل والديمقراطية والعلم والاشتراكية.. إلخ، وهي كلها الأفكار والقيم التي دارت حولها أعماله الخوالد منذ بداياته في مرحلته التاريخية وحتى آخر نصوصه القصيرة المكثفة في «أحلام فترة النقاهة».

فنجد، مثلا، في المجلد الأول من «الحوليات» مقالات لمحفوظ يتحدث فيها عن حال العرب والجامعة العربية وعبد الناصر وحرية الصحافة ومشاكل الشباب، أو علاقة الدين بالمجتمع ودوره في التحضر والتطور أو الثبات والجمود، بحسب حيوية الفكر الذي يُنتج حوله، وعلاقته كذلك بالديمقراطية كفكرة ومذهب عمومًا، وبتطورنا السياسي في النصف الثاني من القرن العشرين بالأخص، ويتحدث في هذا الجزء أيضًا عن الإسلام وخاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم، والشيوعية والديمقراطية من خلال العديد من الأحوال العربية والمصرية.

ويكتب مثلًا عن الدين قائلا «إن الدين ليس علما من العلوم (بالمعنى الطبيعي)، ولا فرعا من المعرفة (بالمعنى الفلسفي والفكري)، ولكنه تربية روحية يتجلى جوهرها في المعاملة والسلوك والرؤية».

(3)

أما الذي يميز هذه الطبعة الجديدة من المقالات الصادرة باسم «الحوليات»، فهو جمعها وتبويبها وتصنيفها من جديد، ولمّ شتات الأجزاء التسعة المبعثرة بين دفتي ثلاث أجزاء كبيرة متصلة، يتراوح عدد صفحات الجزء الواحد منها بين 550 و600 صفحة (من القطعة الأصغر من المتوسط). وجمع الجزء الأول منها مقالات محفوظ التي دارت حول (الدين والفلسفة والثقافة)، والجزء الثاني حول (العرب والعلم والتقدم)، والجزء الثالث حول (السياسة والمجتمع والشباب)، وقدّم بين يدي هذه الطبعة الجديدة الكاتب والصحفي مصطفى عبادة، الذي أوضح في تقديمه لها أن نجيب محفوظ كتب طوال حياته المديدة، ما يزيد على الألف مقال، بل إن كتابة محفوظ للمقال ونشره سبق إبداعه الروائي والقصصي، ويعود أقدم هذه المقالات إلى عقد الثلاثينات من القرن الماضي، وهي الفترة التي شهدت كثافة ملموسة في نشر مقالات فلسفية وأدبية وتأملات وجودية ومعرفية.

إذن، تمثل تلك (الحوليات/‏‏ المقالات) بأجزائها الثلاثة، منذ بواكيرها الأولى في الثلاثينات وحتى آخر ما أملى محفوظ قبل وفاته، وبما تتضمنه من تنوعٍ وآراء تحمل عصارة تفكير وتأمل، قيمةً فكرية وإنسانية وتاريخية مهمة، تتوزع بين مجالات الحياة وجوانبها، وهي مقالات «إصلاحية» في منطلقاتها وتوجهاتها، ثرية في تعددها وتنوعها وتناولها، ويمكن أن نطلق عليها بحق «المجموعة الذهبية»، كما يصفها عبادة.

ولقد أثبتت الأيام والسنوات صواب ودقة وعمق ما طرحه محفوظ حول عديد من القضايا والإشكاليات التي ما زلنا نعاني منها حتى الآن وبخاصة في مجالات التعليم والثقافة ومواجهة التطرف والإرهاب، وكذا في بعض القضايا والموضوعات التي تتصل بالكتابة الفنية وثقافة المبدع وتكوينه وما يلزمه من تحضر واستعداد للقيام بمسؤولياته ككاتب حقيقي وجاد.

إنها ليست مجرد مقالات كُتبت في حينها ومضى عهد فائدتها، وإنما هي كلمات تستحق المطالعة والدراسة، كلمات أديب ومتفلسف وصاحب إبداع عالمي بكل معنى الكلمة، عاصر العديد من الأحداث والعهود، وتوّج حياته الزاخرة بالحصول على جائزة نوبل العالمية في الآداب عام 1988، ليكون أول مصري وعربي يحصل على الجائزة المرموقة.