أفكار وآراء

دروس مستفادة من حياة ونهاية البغدادي

15 نوفمبر 2019
15 نوفمبر 2019

نبيل نجم الدين - كاتب مصري -

في ليل السبت السادس والعشرين من شهر أكتوبر الماضي، قتل أبو بكر البغدادي، ابن سامراء، زعيم ما يسمى بـ«داعش» في عملية عسكرية أمنية دموية خاطفة، نفذتها في إدلب شمال غرب سوريا، وحدات القوات الأمريكية الخاصة لتضع لإجرام وإرهاب المطلوب الأول عالمياً نهايةً مخزية، والذي كانت حياته زاخرة بأعمال وجرائم الرعب والقسوة التي روعت آمنين في دول العالم المختلفة على مدى السنوات الخمس الماضية.

ولد أبو بكر البغدادي في 28 يونيو 1971 في الطوبجي، إحدى المناطق الفقيرة في مدينة سامراء الواقعة في شمال العاصمة العراقية بغداد، وحمل عند ولادته اسم «إبراهيم عواد إبراهيم علي البدري السامرائي» ينحدر من عائلة كان فيها عدد من الدعاة المتشددين الذين كانوا يعتبرون أن الذين ينتمون إلى المذاهب الإسلامية الأخرى كفارا.. ويرون حُرمانية في عبادة الأديان الأخرى..

لم يحمل البغدادي السلاح قبل الاجتياح الأمريكي للعراق في عام 2003، لكنه انضم إلى تنظيم القاعدة تحت إمرة أسامة بن لادن بُعيد ذلك، قبل أن يعتقل ويمضي فترة في أحد السجون الأمريكية في العراق. عرف عنه انه مقاتل شرس لا يرحم، فقد تتلمذ على يدي أبو مصعب الزرقاوي. وانضم البغدادي لحركة التمرد السلفي في عام 2003 في ذات عام اجتياح الولايات المتحدة العراق، فاعتقلته القوات الأمريكية واحتجزته عاماً ثم أطلقت سراحه ظناً منها أنه ليس سوى شاب أهوج يحرض ويحتج ولا يمثل تهديدا أمنيا عسكريا.

لم يسمع العالم شيئاً اسمه البغدادي حتى الرابع من يوليو من عام 2014 عندما صعد البغدادي منبر الجامع النوري العتيق في الموصل، ذلك المسجد الذي شيد عام 1172 صعد المنبر خلال صلاة الجمعة وأخذ يخطب في المصلين ويندد بالاحتلال الأمريكي، ويعلن قيام دولة الخلافة منصباً ذاته باسم «الخليفة إبراهيم أمير المؤمنين»، ورفع العلم الأسود للتنظيم على منارة المسجد المائلة.

بعد تلك الخطبة في الجامع النوري العتيق أخذ الآلاف ممن يطلق عليهم بالمتطوعين المجاهدين يتدفقون من مختلف أنحاء العالم على كل من العراق وسوريا.. لكي يصبحوا جند الخليفة..!! وأولئك هم الذين انضموا إليه في حربه على الحكومة العراقية، وعلى حلفائها الأمريكيين والغربيين.

وهكذا فقد ولد «داعش» من رحم تنظيم القاعدة في العراق، وتشكل تنظيم القاعدة في بداياته من تحالف وخليط غريب عجيب من ضباط سابقين في الجيش العراقي الذي انهار بعد الغزو الأمريكي، وكذلك ضباط سابقين في الاستخبارات العراقية، أولئك الذين تحالفوا مع عدد من الجهاديين المتعصبين الذين توافدوا من عواصم العالم العربي.. ومن عدد من العواصم الأوروبية.. والذين وحدتهم، كما آمنوا وأعلنوا، راية مقاومة الاحتلال الأمريكي.

لكن الهمجية والوحشية التي سبقت تنظيم الدولة، وكذلك رعونته الدموية في التعامل مع المدنيين مثل قطع أصابع أي شخص يضبط مدخناً السجائر.. جعلت القبائل العراقية تنحاز إلى جانب الحكومة في قتالها ضد القاعدة، لكن الحكومة العراقية لم تحسن الاستفادة من زخم القبائل العراقية التي مالت إليها، وأخذت تلك الحكومة العراقية في صيف 2014 تتبنى سياسات شعر بعض من العراقيين معها أنهم يُعاملون كمواطنين من الدرجة الثانية في بلدهم العراق، ومن ثم تمكن «داعش» من استمالة أولئك الناقمين والاستعانة بهم في الوصول والاستيلاء على مدينة الموصل ثاني أكبر المدن العراقية دون مقاومة، ومع تخلي كبار ضباط الجيش العراقي عن مسؤولياتهم.. وتدهور معنويات الجيش العراقي أخذ تنظيم داعش يتقدم ويستولي على ثلث مساحة العراق تقريباً.

أما في سوريا فقد ساعد استمرار الحرب الأهلية وانتشار الفوضى على تمدد تنظيم داعش بترويعه المدنيين وارتكابه الكثير من الحوادث الإحرامية في مساحات واسعة من الأراضي السورية، وقام البغدادي بتوحيد جماعات دولة العراق الإسلامية المسلحة، ومنظمة جبهة نصرة أهل الشام في سوريا في تنظيم واحد قوي يحمل اسم تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام الذي اشتهر بـداعش.

وبلغت قوة تنظيم داعش ذروتها في عام 2016 حيث كان التنظيم يسيطر ويتحكم في الملايين من البشر الذين يعيشون في أراض شاسعة تمتد من شمال سوريا عبر مدن وقرى على امتداد نهري دجلة والفرات حتى مشارف العاصمة بغداد.

كما أخذ التنظيم يعلن مسؤوليته عن هجمات إرهابية ارتكبها في عشرات من المدن العالمية منها باريس، ولندن، وبرلين ونيس، وأورلاندو، ومانشستر، وفي مدن دول أخرى في الشرق الأوسط منها إيران والسعودية ومصر.

واقترنت تلك الجرائم بصفتين أساسيتين للبغدادي هما الحذر والحرص الشديدين، والقسوة التي لا تعرف الرحمة والتي قضى بها على خصومه، فلم يستثن منها حلفاء سابقين حتى من السلفيين، كما أنه لم يتورع عن شن حرب على الجناح السوري في تنظيم القاعدة في سوريا الذي عرف باسم جبهة النصرة بعد انفصاله عن الظواهري الزعيم العالمي لتنظيم القاعدة في عام 2013.

ظل البغدادي لفترة طويلة هدفا للقوات الأمريكية، وقوات أمنية أخرى في المنطقة حيث كانوا كلهم يسعون للقضاء عليه وعلى تنظيم داعش، حتى بعد استعادة معظم الأراضي التي سيطر عليها التنظيم.. وعرضت الولايات المتحدة في 16 ديسمبر 2016 مكافأة مالية قيمتها 25 مليون دولار لمن يدلي بمعلومات تؤدي للقبض عليه.

ذاع الصيت السيء والمشين لما يسمى كذباً وزوراً بالدولة الإسلامية، أو تخرصا بدولة الخلافة التي أعلنها البغدادي من جانب واحد في 29 يونيو 2014، على ربع مساحة العراق وسوريا، ذلك بفعل الجرائم والفظائع التي دأب على ارتكابها إرهابيو داعش بحق أبناء الأقليات الدينية، فلا يجب أن ننسى جرائم الإبادة الجماعية التي ارتكبها البغدادي وعصابته بحق الطائفة اليزيدية التي تعد من أقدم الطوائف والملل في الشرق الأوسط، فقد ذبح ونحر الآلاف من أبناء الطائفة اليزيدية على جبل سنجار، موطن أسلاف اليزيديين في شمال غرب العراق، وتعرضت نسائهن للقتل أو السبي وكما تعرض أبناء طوائف دينية أخرى للسبي أو القتل أو الجلد. ولا يمكن نسيان مشاهد قطع رؤس الرهائن من دول كثيرة بينها اليابان وبريطانيا والولايات المتحدة ومصر، وكذلك تلك الهجمات التي شنتها عناصر داعش في قارات العالم الخمس، فلم تفرق رصاصات التنظيم الإرهابي ولا قنابله بين مسلم ومسيحي ويهودي وبلغت حماقاته وجرائمه مسلمين من أصحاب الفكر المعتدل.

اليوم وبعيداً عن نشوة الانتصار الزاعقة التي عبر عنها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في بيان إعلان قتل البغدادي، ماهي الدروس المستفادة من كل ما جرى، وهو ليس قليل.. ؟؟

لقد استغرق الوصول إلى مشهد الختام في رواية الإرهابي أبو بكر البغدادي، زعيم ما يسمى بالدولة الإسلامية في العراق والشام ما يقرب من أربع سنوات ونصف من أعمال الترويع والسعي في الأرض فساداً، ومليارات الدولارات من الخسائر الاقتصادية، وعشرات الآلاف من أرواح الأبرياء وغير الأبرياء التي نحرت على مذبح الجنون والعمالة والتآمر والتخاذل.. ناهيك عن التدمير والخراب الذي حاق بالمدن والقرى، وترويع وتهجير الملايين من المدنيين الأبرياء، وترميل وتيتيم مئات الآلاف..

لقد جرى كل هذا في ظل وجود الأقمار الاصطناعية الغربية والشرقية التي تراقب أخص خصوصيات الناس في هذه المنطقة التي عاث فيها البغدادي فساداً.. والتي كذلك تسترق السمع لدبيب النمل كما كانوا وما زالوا يوحون إلينا..!!

لذا فمن المنطق والعقل أن يبرز عدد من الأسئلة الكبيرة، التي هي في الحقيقة أسئلة حيرت وما زالت تحير الألباب.. منها..أين كانت كل أجهزة الاتصالات والأقمار الاصطناعية ومراكز التنصت على المكالمات السلكية واللاسلكية، وأجهزة المراقبة والعملاء والمتعاملين والاستخبارات الكبرى منذ بداية تفشي هذا السرطان في جسد المنطقة؟!

هل حقيقة تمكن ذلك المغامر الأهوج من تضليل كل أجهزة الاستخبارات التي احتفت بالقضاء عليه بطريقة هوليودية زاعقة؟

كيف حصل على كل ذلك السلاح وكل ذلك التمويل؟

لماذا تُرك البغدادي يسرح ويمرح ويسفك الدماء..؟!

والأهم من كل ذلك أين كان موظفو إدارات الهجرة الغربية والشرقية، التي تذيق الشرفاء من أبناء هذه المنطقة الأمرين، للحصول على تأشيرة والانتقال من بلد لبلد آخر بغرض العمل أو حتى السياحة؟!

كيف تمكن عشرات الآلاف من الشباب والفتيات من السفر والانضمام إلى تنظيم ذلك الإرهابي البلطجي في العراق والشام؟

كيف هوت إليه عشرات الآلاف من كل دول العالم هكذا دون رقيب أو حسيب..؟!

ما هي الأنظمة السياسية التي تواطأت وغضت الطرف عن هذا التمدد السرطاني؟ وكذلك إلى متى تستمر تلك البيئة المجتمعية غير العادلة، وغير الرشيدة، التي تهيئ المجال وتسمح لكل مغامر كذاب أشر كالبغدادي استهواء الشباب واستخدامهم في تدمير أوطانهم؟؟

كل هذه الأسئلة في حاجة ماسة للسعي الجاد المخلص من أجل التوصل إلى إجابات دقيقة وافية شافية لها، ذلك حتى لا تعود هذه الرواية الدموية البائسة، وهذا الفيلم السينمائي، وفق وصف الرئيس الأمريكي، سيرتها الأولى ونصحو نحن أبناء هذه المنطقة ومعنا أبرياء العالم بعد يوم أو اثنين على أصوات طلقات رصاص وتفجيرات مغامر أو عميل مزروع أو انتهازي آخر باسم جديد قد يكون هذه المرة أبو جندل الخُراساني..!!