أفكار وآراء

من ألمانيا إلى أسبانيا.. طفرة اليمين الأوروبي

15 نوفمبر 2019
15 نوفمبر 2019

إميل أمين - كاتب مصري -

[email protected] -

مثير جدا شأن القارة الأوروبية وما يجري على أراضيها في الأعوام الأخيرة من صحوة غير محمودة لتيارات فكرية آخذة في الصعود عبر مرتفعات المد اليميني، وكأن القارة الأكثر قربا من عوالم التنوير لم تأخذ في قراءتها ما جرى لها في النصف الأول من القرن العشرين، حين سادت نزعتان مدمرتان، النازية التي ضربت ألمانيا وما حولها، والفاشية ومن لف لفها في إيطاليا، وقد كان من جراء ذلك التطرف حرب عالمية كبرى أخذت في طريقها نحو سبعين مليون قتيل، وملايين الجرحى، وخسائر اقتصادية احتاجت إلى عقود كي تتعافى منها دول القارة الأوروبية.

ما الذي يستدعي فتح هذا الملف مرة جديدة هذه الأيام؟

من الواضح أن نتائج الانتخابات التشريعية التي جرت الأيام الماضية في أسبانيا وتمكن فيها حزب فوكس اليميني المتطرف من مضاعفة عدد مقاعده ليصبح ثالث أقوى حزب في أسبانيا، هو الدافع للتفكير في هذه الإشكالية مرة جديدة.

دعا فوز حزب فوكس إلى فتح النقاش الأوروبي عامة والأسباني خاصة حول تلك الظاهرة وما ورائياتها، فقد قال البعض إن حركات الإرهاب التي ضربت أوروبا في الأعوام الماضية هي التي كانت السبب الرئيس في النمو المضطرد لمثل تلك الأصوات الشعبوية المغرقة في القومية، والمصابة إلى حد الوباء بداء القوميات المهلك إن جاز التعبير.

أما البعض الاخر ففي تحليله لظاهرة صعود اليمين الأوروبي فقد ذهب في مسار الأزمات الاقتصادية التي أصابت القارة العجوز طوال عقد من الزمن تقريبا، وكان جزء منها مجرد ارتداد لما حدث في الولايات المتحدة الأمريكية، عطفا على أن بعض المحللين يرون أن ما جرى في أمريكا لا سيما بعد وصول الرئيس ترامب إلى الحكم قد شجع الحركات اليمينية والنزعات الوطنية الأوروبية للصعود، ما يعني أن تناغما ما يتجلى الآن في الأفق بين جانبي الأطلسي، تناغم لا يتسق أبدا وتاريخ أوروبا التنويري والإنساني.

والشاهد إن أسبانيا بنوع خاص كانت وطوال العقد الماضي تبدو محصنة ضد الانتشار الذي يحققه اليمين المتطرف في أنحاء القارة الأوروبية، ولم تكن الديكتاتورية العسكرية للجنرال فرانسيسكو فرانكو قد تلاشت بعد من أذهان الكثيرين، لكن ها هو حزب فوكس قد رسخ موضع قدمه كقوة أساسية في مضمار السياسة الأسبانية.

والثابت أن المخاوف من صعود حزب فوكس اليميني المتطرف كانت قد هيمنت على اليوم الأخير من الحملة قبل انتخابات الأحد، لا سيما وان هذا الحزب القومي المتشدد والمناهض للهجرة يستثمر في غضب قسم من الأسبان حيال الانفصاليين الكاتالونيين بعد الاضطرابات التي اندلعت في أكتوبر، وعليه كان من الطبيعي أن يضاعف مقاعده ليصبح القوة السياسية الثالثة في البلاد.

يوما تلو الأخر يكتسب حزب فوكس أرضية في الشارع الأسباني فقد حاز دعم الحزب الشعبي اليميني، وليبرالي سيودادانوس في برلمان منطقة مدريد لا قرار نص رمزي يطالب بحظر كل الأحزاب الانفصالية.

مخاوف الأسبان في واقع الحال مبررة، فقد كان فوكس وزعيمه (سانتياغوا باسكال)، شبه مجهولين العام الماضي، وسرعان ما برزا بقوة في البرلمان الأسباني خلال انتخابات 28 أبريل الماضي عبر فوزهما بـ 24 مقعدا في بلاد ظل فيها اليمين المتطرف مهمشا منذ انتهاء ديكتاتورية فرانكو في 1975.

على أن صعود اليمين في أسبانيا وبحسب المحلل السياسي الأسباني «ميغيل ريكيوتا»، قد تكون له خلفيات خاصة بالداخل وما يحدث من صدامات ونزعات انفصالية، باتت سمة من سمات عالمنا المعاصر، وعنده أن مثل هذا الصعود يرجع قسم كبير منه إلى الاستياء الذي أثارته أعمال العنف الأخيرة في كاتالونيا اثر صدور أحكام مشددة بالسجن منتصف أكتوبر على تسعة قادة انفصاليين بعد محاولة إعلان استقلال الإقليم في 2017.

استفاد فوكس ولا شك من هذا الغضب لتعزيز حضوره بعد تراجعه في انتخابات أبريل في حين يبدو سيودادانوس اكبر الخاسرين لمواقفه المتقلبة.

ولعل من يتابع آراء الناخبين في الداخل الأسباني يستشعر بالفعل خطرا جسيما داهما وربما جاثما على صدور الأسبان وعلى مستقبل البلاد والعباد دفعة واحدة، فقد استطاع أن ينفذ إلى عمق أفكار طبقة واسعة من المواطنين الأسبان باتوا يؤمنون بان المهاجرين الأفارقة هم جزء فاعل من مشاكل أسبانيا اليوم، لا سيما وانهم يتسببون في الكثير من الجرائم التي ارتفع معدلها بشكل غير مسبوق، الأمر الذي دعا المواطن الأسباني «رافايل غارسيا»، والبالغ من العمر 84 عاما لان يصوت لمصلحة اليمين في مدريد دفاعا عن ما اطلق عليه «وحدة أسبانيا والمتقاعدين»، من دون أن يسمى الحزب الذي صوت لصالحه.

ولعل النتيجة المؤكدة للانتخابات التشريعية الأسبانية الأخيرة هي أن فرص اليمين تترسخ يوما تلو الآخر، واذا كان فوكس قد احرز المركز الثالث هذه المرة وبات رقما صعبا في المعادلة الانتخابية الأسبانية، فمن يدري إلى أي مدى من الانتصارات يستطيع أن يمضي في قادم الأيام، وقد صار ثابت الأقدام في مضمار السياسة الأسبانية.

يستلفت النظر في فوز فوكس في أسبانيا ردات الفعل لدى الجماعات اليمينية الأوروبية التي لم توار أو تدار فرحتها البالغة لانتصار فوكس واعتبار انه انتصار لها هي عينها.

على سبيل المثال عمدت زعيمة اليمين المتطرف في فرنسا ماريان لوبان الى موقع تويتر لتهنئة حزب فوكس على ما احرزه من انتصار كبير، كما أعلن الإيطالي ماتيو سالفيني من الحركة الشعبوية عن سعادته جراء النجاح الذي حققه حزب فوكس، وغرد سالفيني على تويتر قائلا: ليست عنصرية ولا فاشية نهائيا. في إيطاليا كما في أسبانيا، كل ما نريده أن نعيش بسلام في أوطاننا.

احد الأسئلة المهمة والمصيرية في هذه السطور: هل ما جرى في أسبانيا له خلفية فكرية وأيديولوجية انطلقت من ألمانيا في السنوات الماضية؟

يرى كثير من المراقبين أن الانتصارات اليمينية الأسبانية هي رجع صدى لا يتلكأ ولا يتأخر لما جرت به المقادير في ألمانيا خلال السنوات الماضية فمنذ العام 2013 وحزب «البديل من أجل ألمانيا»، يحقق انتصارات كبيرة حتى أضحى أول حزب يميني متطرف يدخل البرلمان الألماني في سبتمبر 2017 وبعدد مقاعد تصل إلى المائة مقعد، وبات بدوره ثالث اكبر كتلة حزبية في البرلمان الألماني.

وبعد ذلك التاريخ بعامين، وبالتحديد في الأول من سبتمبر الماضي، حقق حزب البديل لأجل ألمانيا نتائج قوية وغير مسبوقة في الانتخابات المحلية في ولايتي ساكسونيا وبراندنبورغ، شرقي ألمانيا، وحصد الحزب 27.5% من الأصوات في ولاية ساكسونيا محتلا المرتبة الثانية بعد «الحزب الديمقراطي المسيحي»، والذي احرز 32% وهو الذي تنحدر منه المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل.

هنا ربما ينبغي التساؤل من تهدد تلك الأحزاب وصحوتها في الداخل الأوروبي؟

يمكن القطع بداية أنها تهدد أوروبا والأوروبيين أول الأمر، أنها تهدد الإرث والتاريخ التنويري للأوروبيين، ذلك المسار الذي من خلاله تخلصت أوروبا من ربقة الأيديولوجيات والدوجمائيات وانتصرت لكل ما هو انساني الطابع ويتجاوز أفكار العنصرية والتمييز على أساس من الجنس والعرق، أو اللون والدين والطائفة، وبقية قائمة الموروثات التي تعود بالعالم إلى زمن القرون الوسطى وأفكار الظلامية.

ولعل هناك بعد اخر مهلك بدوره تنتجه عملية تصاعد تلك التيارات، وهو ذاك المرتبط بإعطاء ذريعة لكافة التيارات الظلامية أمثال القاعدة وداعش، انطلاقا من انهم سيضحوا ردة الفعل الطبيعية لأي موجة تشدد أو تطرف تظهر على أراضي القارة الأوروبية، بل إن أخطاء البعض من أنضار اليمين الأوربي بلغت حد النفخ في الرماد القديم جدا، فقد كتب احدهم بعد الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 مقالا عنوانه: «استيقظ يا شارل مارتل»، في إشارة لا تخطئها العين إلى الرجل الذي قاد معركة بواتييه ضد العرب والمسلمين في منتصف القرن الثامن الميلادي وأنهى زمن الفتوحات العربية لأوروبا.

مثل هذا المقال في واقع الحال عاد بالعالم إلى دائرة جهنمية رسم ابجدياتها في تسعينات القرن المنصرم عالم الاجتماع السياسي الأمريكي «صموئيل هنتنجتون»، وان كان الأضل في تجذير تلك الرؤية يعود إلى «برنارد لويس» والذي وضع لبنات تلك المواجهات الفكرية في ستينات القرن الماضي، الأمر الذي يجعل من أوروبا اليوم تعاني من حالة تمزق في روحها، وتعود إلى دائرة تكافء الأضداد التي تعاني منها الأمة الأمريكية.

من بين الخسائر الأوروبية التي تتسبب فيها النزعات اليمينية، تأتي معضلة تمزق النسيج الاجتماعي الداخلي، وعودة إلى عالم مليء بظاهرتين خطيرتين: الاسلاموفوبيا من ناحية، والعداء للسامية من جانب آخر.

أما عن الاسلاموفوبيا فهي باتت حديثا موصولا لا سيما في ظل الترويج لفكرة أسلمة أوروبا، ومن هنا يضحى من الطبيعي أن تستشعر الجاليات الإسلامية في أوروبا وفي دول المد اليميني بنوع خاص مخاطر مستقبلية محدقة بهم.

على سبيل المثال فان إحصائيات وزارة الداخلية الألمانية تشير إلى انه تم رصد 910 جنح ذات خلفية معادية للمسلمين، وفي المقابل ارتفع عدد الهجمات ضد أشخاص اذ أصيب في عام 2018 في هجمات معادية لمسلمين 40 شخصا بجروح في الوقت الذي وصل عددهم في السنة التي سبقتها إلى 32 شخصا.

والملاحظ هنا أن تلك الإحصائيات ولا شك لا ترصد جميع التجاوزات ولا تعكس إلا جزئيا الوقائع فهناك فجوة كبيرة، لان المعنيين يتخلون في الغالب عن رفع الشكاوى، وتزداد أحداث العداء للمسلمين في ولايات المد اليميني الألماني مثل تورينغن وساكسونا حيت ترتفع النسبة إلى 70%.

أما الظاهرة الثانية الأكثر إقلاقا للأوروبيين فهي معاداة السامية والتي تذكرهم بما ارتكبته الأيادي النازية ضد اليهود وقد كان الهجوم الاخير في مدينة «هاله» في شرق ألمانيا مؤخرا جرس إنذار مخيف، لا سيما وان المهاجم شاب ألماني اعد هجومه الإرهابي بدقة، ولحسن حظ عشرات المصلين في كنيس يهودي أن سلاح الجاني تعطل أثناء محاولته تنفيذ المجزرة، وان راح ضحية الحادث سيدة كانت تمر أمام الكنيس بالصدفة، ورجلا بعد هجوم الجاني على مطعم شاورما، وكانه يستهدف اليهود والمسلمين معا.

هل على أوروبا أن تستيقظ؟

أغلب الظن أن ذلك كذلك.