أفكار وآراء

في خطاب الصـــــــورة

13 نوفمبر 2019
13 نوفمبر 2019

محمد جميل أحمد -

لم تكف الصورة، يوما ما، عن تأويل معناها سواء أكانت صامتة أم ناطقة. فهي دائما كانت تنطوي على هذا القدر أو ذاك من التعبير عن موضوعها. بيد أن ما نشهده الآن مع الثورة الرقمية أعطى معطيات الصورة دلالات أيدلوجية أبعد ما تكون عن محايثة المعنى الأيديولوجي.

فدلالات الصورة هنا لا ترتهن إلى قياساتها التقنية وأبعادها الضوئية فحسب؛ بل تنبع أساساً من المشهدية الدرامية المختزنة في طبيعتها الذاتية كتعبير عن الحدث، أو تلك المستندة إلى عناصر ومؤثرات من تدبير المصور أو المخرج، ربما، فيما هو يحاول أن يكون محايداً مهما كان ذلك الحدث أو نوعه، فالحياد أصلاً ربما كان نوع من تدوير زوايا الكاميرا أكثر منه التزاماً مهنياً . لا سيما في صناعة الخبر وعمليات المونتاج التي تصاحب البرامج الإخبارية خصوصاً في الفضائيات العربية .

إن ما يصاحب البرامج الأخبارية و النشرات والتقارير من صور هو، في معنى ما، تأويل بصري لجهة ما يتم التعبير عنه بلغة الخطاب، وهو بالطبع لن يكون محايداً مهما أدعى الحياد إلا على نحو نسبي.

وإذا كانت الصورة تكتسب الشحنة الدرامية من الحدث التي تعبر عنه غالبا، بما يمكن أن يكون تعبيرا مكتفياً بذاته ، بعيدا عن حيثيات الأدلجة؛ فإن ما تكشف عنه تقنيات الاتصال الحديثة وقنوات الإعلام الرقمي المتعددة، قد يحيل تأثير الصورة إلى نوع من الحدث النمطي.

فالتكرار المتعدد لصورة الحدث تقلص لدى المتلقي مشهديته الصادمة. وليس ذلك لأن المعنى الأيديولوجي التقني، إن جاز التعبير، مضـّمن في موضوعها، بل لأن مجموع التأويلات التي تسبغها المادة الإخبارية على هكذا صور (عبر التنميط والنمذجة والاستهلاك لصور سابقة، أو متخيلة) تخلق مثالاً مكرساً لما سوف يأتي من صور لجهة تأويلها المسبق ذاك.

وربما كان للمخيلة السينمائية سبق، ظل مندرجاً في إشباع المتعة، وشحذ أقصى ما تستوعبه الذاكرة البشرية المنفعلة بصور الهول والخراب، دون أن يكون هناك أدنى شعور بإمكان أن يتحول بعضها إلى واقع قيامي في يوم من الأيام.

والحال أن ما حدث في 11 سبتمبر 2001 في نيويورك كان من اللحظات المشهدية النادرة التي يختلط فيها الإحساس بالواقع والمتخيل في حدثيتها وواقعيتها وخياليتها المفترضة والمختزنة في ذاكرة السينما.

فقدرة الصورة على انتزاع التأثير؛ نابعة من انفكاكها عن كل ما هو خارجها، وقدرتها على إعادة تجديد اللحظة الزمنية باستمرار. ذلك أن طبقات التأويل التي تتخفى في استعراض الصور أكبر بكثير مما يظن المشاهد ، كما أن مواضع الخطاب الجسدي والعقلي والوجداني للصورة تتعرض لما يشبه القطيعة مع ما تختزنه تلك المواضع حين تتعرض لتأثير الصور بفعل ضغط اللحظة التصويرية والمؤثرة في الشعور .

فالكثير من صور العنف ، والفنتازيا ، قادرة على صدم وعي المتلقي لحظة تأثيرها فهذا التأثير ينطوي في تلك اللحظة على إيحاء الصورة بكل ما تبدو عليه من إثارة ، فيما هي تسجل ضربات لا شعورية في وجدان وعقل وجسد المشاهد؛ ضربات تحويلية فاعلة في الوعي والسلوك .

وربما كان الإحساس المبهم في تأويل الصورة لدى استخدامها إعلامياً يؤسس حالات من النمذجة التي تبدو أحيانا تسويقاً للعنف دون الانتباه إلى مفاعيله خصوصا إذا كانت اللقطة جارية في سياق حدثي راهن.

فمن أكبر عناصر الربط الخطيرة التي أدت إلى أن تكون بعض الصور أدوات مرجعية للعنف والعنف المضاد، هو محايثة الصور العنيفة للبث الإخباري المباشر حين وقوع الحدث، كعمليات التفجير والنزاعات المسلحة، والأحداث الساخنة والعجيبة ما يكون كافياً لأصداء وردود فعل عنيفة في مكان آخر من العالم متأثر بذلك الحدث.

والحال أن صيرورة الحدث عبر مزامنة الصورة أصبح العنصر الجديد الذي شكلته الثورة الرقمية في تسريع نقل المشاهد التي تأتي غالباً في سياق السبق الإعلامي ، أو في التوثيق للحدث ولو كان في مكان ناء، فيما تظل هوامش الحدث المصور ومفاعيله تعيد إنتاج العنف الذي يتحول فيما بعد إلى لحظة زمنية مراكمة للحظة الصورة الأولى؛ بفعل التأثير والتأثر لخطاب الصورة.

على أن عالم الصور الذي يتقاطع مع الواقع ويقتطع منه لحظاته المتفجرة ، ينزع مع تكرار الاستعراض، عبر مختلف قنوات الميديا، إلى أن يكون بديلا افتراضياً لذلك الواقع .

وهنا تستثمر الايديولوجيا العالم الافتراضي للصور . بحيث تكون تلك الصور في كمها المتوالي والسريع على شاشات العرض ما يشبه قناعاً لذلك الواقع المحجوب، وبحيث يتحول ذلك القناع إلى قناعة مشهدية ترتهن المخيلة بطبيعة الاقتران الشرطي في لاوعي المشاهد.

فخداع الصور قائم أصلا على أن موضوعها الذي تعبر عنه مشهدياً في شاشة بحجم محدود يبدو كما لو أنه حجم يختزن العالم الذي تملأه الصور في تلك الشاشة. فيبدو ذلك العالم (المعد سلفاً بفاعليات مقننة ومدروسة عبر الكاميرا والمونتاج والإخراج) عالماً موازياً في واقعيته لما يحدث في الواقع الحقيقي.