1367695
1367695
المنوعات

«بوح المبدعين» .. حوارات كاشفة في الفن والفكر والحياة

12 نوفمبر 2019
12 نوفمبر 2019

روائيون وشعراء وسينمائيون يتحدثون عن تجاربهم -

الشربيني عاشور:

يتلمس القارئ في كتاب «بوح المبدعين» للقاص والكاتب الصحفي أسامه الرحيمي ذلك الفيض المعرفي الذي يحتويه الكتاب؛ ففيه من الأسماء التي تمثل رموزًا في مجالاتها الإبداعية ما يضعه في منطقة بالغة الثراء والعذوبة، وفيه من الإفضاء والمكاشفة ما يجعله كتابًا ممتعًا، بل واحدًا من الكتب التي لا تملُّ.

الكتاب صدر حديثًا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، وتضمن ثلاثين مقابلة صحفية موفورة المتعة والفائدة. سبق أن أجراها الرحيمي مع مبدعين كبار في الأدب والنقد والسينما والمسرح والفن التشكيلي والتلاوة القرآنية من بينهم نجيب محفوظ وإبراهيم عبد المجيد وصنع الله إبراهيم وإبراهيم أصلان وبهاء طاهر ومحمد المخزنجي وفتحي إمبابي وأحمد عبد المعطي حجازي، وقاسم حداد، وجابر عصفور، ومنى الشيمي، وسعيد شيمي وداوود عبد السيد ومحمود حميدة وشريف حتاتة، وآخرين من الأعلام في مجالاتهم الفنية والفكرية والأدبية.

استلهم الرحيمي أسئلته لهؤلاء المبدعين ـ على حد تعبيره ـ من «لحم» أعمالهم؛ فهو لم يلتق شخصًا لمحاورته «إلا بعد قراءة أعماله، أو أغلبها على الأقل، والتنقل بين مراحله الفنية، وهضم أهم المقالات النقدية التي تناولت إبداعاته». وبذلك يؤكد أهمية هذا الإجراء الذي لا غنى عنه لأيِّ صحفي يحترم نفسه وقارئه، بعد أن أصبح فضيلةً غائبة على يد سارقي الأسئلة في كثير من الأحاديث الصحفية المكرورة حدَّ الملل.

وفي مقدمته الضافية للكتاب يستعرض الرحيمي منهجه المهني في عمل الحوارات، وهو منهج يلتزم الصدق والموضوعية وأمانة النشر بعيدًا عن أيَّة إثارةٍ قد يجني من خلفها شهرة زائفة؛ كأن ينشر ما قاله أو صرح به بعضهم من إساءة للآخرين في حالة بوحه أو انفتاح شهيته للكلام. مثلما حدث مع رئيس «هيئة ثقافية كبرى» كان مقربًا من زوجة رئيس جمهورية سابق وقال «رأيا سلبيًا قاسيًا» في تلك الزوجة. لم يستغله الرحيمي ولم ينشره، بل إنه أتلف الشريط الذي سجل عليه الحوار؛ كي لا يقع في يدٍ غير أمينة فتستغله، مؤكدا بذلك شرفه الصحفي الذي هو امتداد لشرف المهنة ذاتها.

وكما هو معروف في الدراسات الإعلامية فإن الحوار الصحفي ينقسم إلى ثلاثة أنواع بحسب المقصود منه، فيصبح حوارًا خبريًا أو معلوماتيًا يستهدف الحصول على تصريحات خبرية أو معلومات حول واقعة أو مشروع بعينه، أو يصبح حوارَ رأيٍ، يسعى لمعرفة وجهة نظر المحاوَر في قضية أو قضايا معينة، أو حوارَ شخصية يتوجه نحو كشف جوانب من شخصية المحاوَر ممثلةً في سيرته الذاتية وعاداته وعلاقاته.

وإذا كانت هذه الأنواع الثلاثة تحصر نوعية الحوار الصحفي وتحدد أهدافه ومعالمه، فقد جمع إسامة الرحيمي بذكاء بينها في حواراته، بل دمجها أحيانًا في حوار واحد. فتَأَتَّى له ولقارئه الحصول على آراء ومعلومات وجوانب من السيرة الذاتية من شأنها إضاءة شخصية المحاوَر، والصلاح كمدخلٍ لقراءته وفهم أعماله أو بعضها، وكذلك أسلوبه أو طريقته في التفكير والعمل.

في الكتاب نحن أمام زخم من المبدعين، يتحدثون بأريحية وبوح عن حياتهم، وأفكارهم، وأعمالهم؛ فالمخرج داوود عبد السيد يصف هزيمة مصر العسكرية في عام 1967 بدبابةٍ مشت على أحلامه وقناعاته. والفنان محمود حميدة قرأ «الحرب والسلام» لتولستوي في سن الثانية عشرة من عمره، ولا يزال مفتونًا بالشاعر الكبير فؤاد حداد، وأمضى أحد عشر عامًا في دراسته الجامعية بين كليتي الهندسة والتجارة، وهو يعتبر نفسه «مسليًا للجمهور». والمصور السينمائي سعيد شيمي يؤكد أن السينما حببته في دراسة التاريخ بكلية الآداب، وكان يرى الملك فاروق من نافذة منزله المجاور لقصر عابدين، كما أنه عمل في محل حلويات، وظل يطارد حلمه بالعمل في السينما كمصور سينمائي بصبر ودأب حتى تحقق الحلم، وأصبح واحدًا من الكبار في التصوير السينمائي. ويوافق أحمد عبد المعطي حجازي على أن موقفه من قصيدة النثر يشبه موقف عباس العقاد من قصيدة التفعيلة، ولكنه يصر على التفريق بين تيار النثر وتيار التفعيلة. أما الناقد الأدبي جابر عصفور فقد أنقذته تحريات الأمن في شبابه باعتباره «شابا طائشا» من تهمة المحاكمة في قضية «سيد قطب». ويرى القاص محمد المخزنجي أن «الأشكال الأدبية لابد أن تتحرر من ربقة الترويج والتسويق والثبات النقدي، لأن هذا يضيق مواضيع الأدب ويصيبها بالنمطية» . ويكتشف القاص إبراهيم أصلان مبكرًا أن «الظاهرة الإبداعية واحدة وإن اختلفت الوسائط ... وأن التجارب الكبيرة تكون زادًا للعمل وليست موضوعًا» فعذابات فان جوخ موجودة في العلاقات اللونية بلوحاته، ولكنها لا تشكل موضوعا للوحات ذاتها. ومن رأي الروائي إبراهيم عبد المجيد أن الحياة من دون كتابة أو إبداع «جحيم ومملة ورتيبة»، وأن المبدعين «لا يتوافقون مع المجتمع بطبيعة روحية، لذلك ظلت المدينة الفاضلة أحد أحلام البشرية». وهذه قطرات قليلة من عطر تلك الحوارات التي فتحت فيها أسئلة الرحيمي الموجهة بعناية شهيةَ التدفق والبوح لدى المحاوَرين.

«بوح المبدعين» كتابٌ ممتع يمكن قراءته في جلسة أو جلستين، لكن ما يتركه من أثرٍ سيبقى دائمًا في ذاكرة من يقرأه بحكايات أبطاله وتجاربهم وآرائهم في الحياة والإبداع.