أفكار وآراء

يقال: الوقاية خير من العلاج

10 نوفمبر 2019
10 نوفمبر 2019

أحمد بن سالم الفلاحي -

[email protected] -

بالإشارة إلى مفهوم «الديون الغارقة» وعلاقة ذلك بـ «الوقاية خير من العلاج» في مفهوم «الديون الغارقة» والفهم ذاته لا يبتعد كثيرا عن العلاقة القائمة بين الوقاية؛ كمصدر مهم، وبين العلاج كمتطلب مهم للحد من الدخول، أو السقوط في معترك تداعيات أخرى، ومفهوم «الديون الغارقة» هو تراكم ديون لاحقة على ديون سابقة.

من الأمثال المتداولة: «درهم وقاية خير من قنطار علاج» إذن- وفقا لهذا المعنى الظاهر على الأقل- الوقاية لا تكلف أثمانا باهظة، مع أنها مرحلة تأسيس، ومراحل التأسيس- غالبا- ما تكلف كثيرا، بينما يكلف العلاج أكثر، سواء من المال، أو معاناة جسدية، ونفسية، وبالتالي فليس من الحكمة أن نترك مرحلة التأسيس، بأثمانها الزهيدة، ونذهب إلى مرحلة النتائج، بأثمانها الباهظة، وأي فرد ذو لب، ينحاز إلى الاختيار الثاني؛ إلا من كان في ذهنه شيء من التشويش، المفضي إلى الإرباك والتخلف، خاصة اليوم في ظل تنامي المعرفة، ولم تعد المعرفة ذاتها حكرا على أحد من الناس، دون آخرين.

اعتاد الناس على أن مفهوم « الوقاية خير من العلاج» متعلق بالصحة فقط، أي يطغى على المفهوم الجانب الصحي من الأنشطة الإنسانية الكثيرة، ويتناسون أن المفهوم يذهب إلى كل الأنشطة الإنسانية الخاصة؛ منها؛ والعامة؛ لأن كلا النشاطين: العام والخاص، معرض بصورة أو بأخرى للمفاجآت، والظروف الطارئة ، وبالتالي يستدعي الأمر، وجود حاضنة تخطيطية للخروج من مأزق الارتباك الذي عادة ما يرافق مثل هذه المفاجآت التي نتعرض لها في حياتنا اليومية، ومعنى ذلك أن الرجوع- دائما- على استحداث الحلول الآنية «العلاج» التي غالبا؛ ما يصاحبها الارتجال، والعشوائية، ليس من الأساليب الحديثة في معالجة القضايا، والمشاكل، سواء تلك الفجائية، أو تلك الممتدة عبر ممارسات الحياة اليومية، وهذا المعنى يجرنا إلى طرح التساؤل التالي: هل « الوقاية خير من العلاج» شأن تخطيطي «ديناميكي» أم أنه مفهوم ذهني معنوي فقط؟ وكيف يمكن الانتقال من الحالة الذهنية إلى التوظيف المادي؟

وللإجابة عن هذا السؤال؛ يمكن القول: إن مفهوم « الوقاية خير من العلاج» مفهوم تخطيطي ديناميكي من الدرجة الأولى، وهو مرتبط بكل الأنشطة التي يمارسها الإنسان في حياته اليومية، وليس مقتصرا على الجانب الصحي، كما هو ظاهر من المعنى المباشر للجملة، فالمسافة التي تفصلنا بالأخذ بالوقاية قبل الوصول إلى مرحلة العلاج، هي تلك المرحلة التي يتم فيها الأخذ بجميع الأسباب، ووضع الخطط والبرامج، ووضع الحسابات الدقيقة التي تؤمن لنا قدرا كبيرا من النجاح «الوقاية» دون الوقوع في مطب الخسارة «العلاج» ولذلك يمكن القول أيضا: إن الوقاية هي المنطقة «الخضراء» الآمنة، والعلاج هي المنطقة «الملتهبة» الخطرة، فالعلاج كما هو معروف، يتم قبوله كيفما تكون وصفة الطبيب، قاسية، أو رحيمة، فبتر عضو من الجسد، ليس يسير أمره، ولكنه يظل علاجا لإنقاذ الجسد، وما تبقى فيه من أعضاء أخرى مهمة ومهمة جدا، وبالتالي قبل الوصول إلى مرحلة العلاج – كيفما تكون تكلفته الباهظة – لماذا لا نطيل المكوث في مرحلة الوقاية، وطول المكث هنا يتطلب الكثير من المقومات المهنية، والمعرفية، والمادية، وتنظيم ذلك كله ليؤدي في نهاية الأمر إلى نتائج سليمة، وغير مرتبكة، ومعبرة عن وعي تخطيطي سليم.

لذلك ينظر إلى «الوقاية» على أنها حالة تخضع للاختيار، أكثر من أنها حالة لأزمة، وهذا الأمر يعود إلى الفرد نفسه في كيفية تدبير أموره، وكما هو الفهم العام الذي يأتي في السياق نفسه «أن الإنسان مخير، كما هو مسير» ولكن نسبة التخيير في ممارساته اليوم تصل إلى (90%) من جملة ما هو مسير فيه، والذي؛ وفق النسبة السابقة لا يزيد عن (10%) فقط، وبالتالي هنا تظهر أكثر الحنكة والدراية، في تسيير الأمور، ومن هنا أيضا يظهر تقدم الأفراد والشعوب، وقوة تمكنها وإنتاجها الملموس في واقع الناس، ونسبة الـ (90%) نسبة كبيرة جدا جدا تركت لهذا الإنسان لأن يمارس كل قواه الذهنية والمادية، لتوظيف كل ما من شأنه أن يعلي من رصيده الإنتاجي، ولا يكون له عذر التلكؤ فـ (10%) نسبة ضئيلة جدا جدا؛ أيضا؛ لا تتيح للفرد لأن يشتكي، ويتخلى عن دوره، ويقول: «أنا مضغوط، وملزم، وغير قادر على التنفس» وفي المقابل نظر إلى «العلاج» على أنه مرحلة حرجة وملزمة، وليس فيها مجال للاختيار ، كما سبق توضيح ذلك أعلاه، وبالتالي فليس من الحكمة أن ينتظر أحدنا في آليات عمله الوصول إلى مرحلة العلاج، وهي غالبا ما تقفز لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وهناك الكثيرون منا، لا تستوقفهم مرحلة «الوقاية» كثيرا، فيقفزون إلى مرحلة «العلاج» وهذه قضية؛ أظن أنها توعوية، قبل أن تكون معرفية ، وهي حالة - غالبا- ما ترافق صغار السن، وقليلي التجربة في الحياة، وهي المرحلة التي يمتزج فيها الخطأ بالصواب، بكثرة، وهي مرحلة مربكة لصاحبها، ولذلك ينصح دائما بالعودة إلى كبار السن للاستشارة، والتنوير بالأفكار والنصيحة، وذلك للحد من استفحال الأخطاء، وتقويض مجموعة العوامل الداعمة لحياة مستقرة للفرد والمجتمع، على حد سواء.

فالشاب الذي يبدأ حياته الاجتماعية للتو، معرض أكثر من غيره القفز إلى مرحلة «العلاج» فهو يريد أن يكون له منزل، وأسرة، ومركبة، ومنصب، ويريد أن يزور كل بلدان العالم، وأن يكون له رصيد مالي كبير، كل هذا في وقت زمني قصير، ولذلك تراه يلقي نفسه في مصيدة الديون «العلاج» كأول خطوة، متجاوزا الخطوات المرحلية من التأسيس «الوقاية» «خطوة بخطوة وثابت الخطوة يمشي ملكا» كما يقول بيت الشعر ، وبالتالي يغرق نفسه في مجموعة من الالتزامات التي لم يكن يتوقعها أصلا، فينطبق عليه المثل: « لا هو طائل بلح الشام، ولا عنب اليمن» ولتقريب المعنى أكثر ينظر إلى أن من هيأ أرضا قبل زراعتها، لا شك أن محصوله وافر، ومردوده المادي كبير، ومن أعد ولدا (ذكرا/‏‏‏‏أنثى) خلقا وعلما، عزز أحد أعمدة المجتمع ، كما راكم من القيمة المضافة «ماديا ومعنويا» للأسرة، ومن نشر الأمن والعدالة والمساواة؛ من قبل أفراد المجتمع أنفسهم، أعفى الجهات المعنية من بقاء الحالة الطارئة للمحاكم، وأعطى القضاة إجازة ممتدة، وكذلك يمكن إسقاط المفهوم ذاته على بعض الممارسات اليومية، فمثلا؛ قبل الانطلاق في رحلة ما، علينا أن نأخذ بكل مقومات الرحلة، فهذه الاستعدادات كلها في طرف الوقاية، أما الوقوع في ظرفية «الطارئة» والطارئة وقتها قصير ، فهنا تبدأ معركة «العلاج» وأصفها بالمعركة لأنها تتمثل فيها الضدية: الفوز أو الخسارة، النجاح أو الرسوب، الصحة أو المرض - في معناها التجريدي - الخطأ والصواب ، وغير ذلك من المتضادات الواقعة في المسافة بين ضروريات الوقاية، وحتميات العلاج، ويأتي في السياق ذاته أيضا أنه كلما تم وضع الخطط والبرامج الضابطة للمشروعات، والتأكد من نتائج دراسات الجدوى للمشروعات، ولم يقف فقط على التنظيرات، والتأملات، ولم يعتمد القرارات الارتجالية لمسابقة الزمن فقط، بغض النظر عن النتائج، كلما استطاع أن يحقق مستويات عالية من الكفاءة في الأداء والإنتاج، وأرخ الديمومة والاستمرار لمجمل المشاريع، وأتت بنتائج طيبة، استطاع توفير الكثير من الجهد والمال، وقس على ذلك أمثلة كثيرة في الحياة.

نختم هنا؛ بالإشارة إلى مفهوم «الديون الغارقة» وعلاقة ذلك بـ «الوقاية خير من العلاج» في مفهوم «الديون الغارقة» والفهم ذاته لا يبتعد كثيرا عن العلاقة القائمة بين الوقاية؛ كمصدر مهم، وبين العلاج كمتطلب مهم للحد من الدخول، أو السقوط في معترك تداعيات أخرى، ومفهوم «الديون الغارقة» هو تراكم ديون لاحقة على ديون سابقة، وعند ربطها بمفهوم الوقاية خير من العلاج، فالعلاج هو خير من يمثل الديون الغارقة، عندما لا يؤخذ بمبدأ «الوقاية» كمحدد مهم للخروج من مستنقع العلاج، فتراكم حالة العلاج في كل مرة، سيؤدي إلى إنهاك الجسم، بلا شك، ويمكن قياس ذلك على حالة المريض، الذي يتناول الكثير من العلاجات، مضطرا بعد أن فقد العلاقة مع الوقاية، فتراكم العلاج هنا يؤدي إلى مشاكل صحية أخرى، فيحتاج الجسم إلى علاجات إضافية، لأعضاء أخرى تدخل قائمة العلاجات السابقة، فينهك الجسم، ويوهن العظم، حتى يصبح أسير علاجات لا أول لها ولا آخر، ظنا أن ذلك سوف يسرع من استجلاب الصحة في أقل زمن قصير.