1357289
1357289
المنوعات

ألبير قصيري.. ذلك المتمهل لم يكن كسولا !

01 نوفمبر 2019
01 نوفمبر 2019

في ذكرى ميلاده الـ 106 -

الشربيني عاشور -

مَن يقرأ «ألبير قصيري» تستوقفه لغته المقطَّرة بعناية أو المتقشفة كما يسميها آخرون، فالرجل كان أبعد ما يكون عن التزيِّد والحشو. روايته الأخيرة «ألوان العار» ـ مثلًا ـ صدرت ترجمتها في مائة وإحدى عشرة صفحة فقط! وقد قال هو عن نفسه: «تقريبًا لم أكن أقوم بشطب أي كلمة. كي أكتب كنت أنتظر إلى أن أجد الكلمة المناسبة».

هذا المتمهِّل في الكتابة كما في الحياة، كان بوسعه أن ينفق أيامًا في البحث عن كلمةٍ واحدةٍ للتعبير عن مراده. ورغم ملاحظة إيهاب صبحي في تقديمه لرواية «طموح في الصحراء» لتكرار بعض الكلمات والأفكار في أجزاء من الرواية على لسان أبطالها، إلا أن قصيري يؤكد بثقة المتمكن: «لا توجد عبارات فائضة عن الحاجة في كتبي»... على النقاد إذن أن يبحثوا في ذرائع التكرار إن وجد.

ليست اللغة المكثفة وحدها هي ما يميز كتابة «ألبير قصيري» المصري الذي كتب أعماله بالفرنسية، والذي تحل في الثالث من نوفمبر الجاري الذكرى السادسة بعد المائة لميلاده (1913 ـــ 2008 ). هناك أيضًا ذلك المحيط الشعبي الذي استقى منه أبرز شخصياته الروائية. محيط المهمشين والبائسين الذين ألبسهم تعاطفه وتفهمه، وأنطقهم بأفكاره ووجهة نظره في الحياة ورؤيته للعالم. فكان واحدًا منهم لا كاتبًا عنهم كما نعته «هنري ميلر». هؤلاء الذين اكتفوا من الحياة بالقليل، ولم يمنعهم البؤس من المرح والسعادة، نظرًا لقدرتهم على مقاومة أوجاعهم وأوضاعهم المزرية بالسخرية، سلاحهم الأمضى في مواجهة ازدراء العالم. ذلك أن «الثورة الوحيدة الممكنة هي السخرية» ـ كما يقرر قصيري ـ وهي مقولة تتسق مع قناعته بأن رحيل طاغية لا يعني زوال الطغيان.

هناك أيضا «الكسل» كمفردةٍ وصفةٍ، تنطوي على كثيرٍ من المغالطة، ألصقها النقاد بالرجل كماركةٍ مسجلة استنادًا إلى مجريات حياته: الإقامة في غرفة فندق لم يغيرها لأكثر من خمسين عامًا، عدم ممارسته لمهنة، قلة إنتاجه الأدبي بالنظر إلى عمره الطويل (عاش 94 عامًا). كما قرؤوا من خلالها بعض شخصياته استنادًا إلى مقولاتها أو تكوينها النفسي.

لكن أخطر ما في الأمر هو تلك الحمولة السلبية للكلمة، التي سرت مسرى الرماد في يوم عاصف عند الحديث عن قصيري و «فلسفة الكسل» التي اعتبروا الرجل نموذجها الحي، وفيلسوفها الأوحد. شاهرين تلك الجملة التي علَّق بها في حديث صحفي للدلالة على ما يقولون: « أكتب لكي لا يذهب من يقرؤني اليوم إلى العمل في الغد». دون معرفة إن كان الرجل يسخر أم لا، ودون وضعها في سياق الكسل كمفهومٍ يعنيه الرجل لا بهذه البساطة والسطحية التي يتحدثون بها، ولكن بأعمق من مجرد ظاهر القول أو الفهم. فالمسألة كما يراها أنطوان جوكي: « تتجاوز بكثير تلبية الرغبات السهلة، كالتمدد على كنبة وتدخين الحشيش أو الثرثرة بلا انقطاع أمام كوب من الشاي». وهي أيضًا وفقًا لمقاربةٍ بيار أبي صعب المهمة «فلسفة حياة مختلفة، تذهب إلى عمق الأشياء وجوهرها بعيدًا عن السباق الأعمى الذي فرضته الحضارة الحديثة، إنه الثبات في مواجهة الأزمنة المعاصرة، والبطء بحثًا عن الإتقان والجودة والنوعية واللذة».

إجمالًا، كان «ألبير قصيري» وجوديًا، حياته هي مشروعه الخاص واختياره، وقد عاش كما أحب واشتهى. ولعل ذلك هو ما دفعه في الاتجاه نحو التخفف من أحمال العالم وأوزاره، ومن ثم تجريد الحياة من زينتها: «المال والبنون»، والتمتع بها في الوقت نفسه دون حرق النفس في العمل من أجل التملك، الذي نأى الرجل عنه طوال حياته، بما يقترب من حد الزهد الصوفي لكائنٍ بات قاب قوسين أو أدنى من فهم حقيقة وجوده ومآله.

كان ألبير قصيري غنيًا باستغنائه «لست في حاجةٍ إلى سيارةٍ جميلةٍ لأثبت وجودي على الأرض»، وفي تحديده مسبقًا لما يريده من الحياة لنفسه، وقد أدرك باكرًا كنهه فيها «مبكرًا جدًا قررت أن أكون كاتبًا». ومن ثم فإن الرجل الذي قال: «بالنسبة لي الكسل هو التأمل»، لا يمكن أن نطمئن إلى أن مقصده من الكسل قد يكون سلبيًا، وإلا كان تأمله ذاته فعلًا ذميمًا، ومضيعةً للوقت. وهو الذي لم يضيع وقته في غير المتعة وإتقان عمله.

وبالنسبة لكاتب لم تفارقه أبدًا مفكرته الصغيرة التي يدون فيها ملاحظاته، يتخذ الكسل مفهومًا آخر. إنه التمهل الذي نطرحه كبديلٍ لكلمة الكسل سيئة السمعة بتاريخها الدلالي. إذ كيف لرجلٍ ظل إلى الخامسة والثمانين من عمره يكتب أن يكون كسولًا بالمعنى السلبي للكلمة؟ لقد أصدر آخر رواياته عام1999، كما أنه شرع في عملٍ آخر بعدها غير أنه توقف بسبب اعتلال مفاصله التي لم تمكنه من الإمساك بالقلم أو الجلوس طويلًا إلى طاولة الكتابة.

وعلى الرغم من أنه ليس صحيحًا تمامًا أن الرجل لم يعمل في حياته كما يقال. فقد مارس قصيري في شبابه العمل كبحارٍ بإحدى البواخر التجارية بين عامي 1939 و1943، كما كتب ـ باعترافه ـ عددًا لا بأس به سيناريوهات الأفلام. وعلى الرغم أيضًا من أنه لا يوجد ما يُلزم إنسانًا ما بممارسة حرفةٍ أيًا كانت، إذا كان في حياته ما يغنيه عن ممارستها، فإن القراءة والكتابة والتفكير والتأمل أشياءُ لا يمكن التعامل معها على أنها ترف، أو رفاهية، أو تبطُّل، ولا ترتقي إلى منزلة العمل. وإلا كانت جموعٌ هائلة من المفكرين والأدباء والفلاسفة والرسامين والموسيقيين قطعانًا من الكسالى لمجرد أنهم لا يعملون في متجرٍ لبيع الملابس الداخلية، أو يقودون حافلةً في شوارع المدن وصخبها، أو يركضون صباحًا باتجاه وظائفهم حتى لا تفوتهم البصمة أو التصبح بوجوه مديريهم الكريمة! لذلك فإن الكتابة عمل، وعملٌ مضنٍ، و»عمل دؤوب» كما وصفها قصيري في أحد حواراته الصحفية.

وإذا كان هناك عمل يرفضه الكاتب فهو ليس عملا بعينه، ولكنه العمل الذي يحول بين المرء وبين تمتعه بالحياة. فجوهر العيش هو إحساس المرء بأنه حيٌ مستمتع بحياته، تلك هي الهبة الكبرى، ولن يحدث ذلك إلا برفض الإنسان للتحول إلى ترس في ماكينة عالم استهلاكي يستلبه، ويفوت عليه استمتاعه بالحياة. أو يستنزف طاقته في الركض وراء شهوات الاقتناء ومغرياته، بما لا يدع له فرصة للتأمل والصفاء الذاتي. فالحياة كما يراها «قصيري» من مفهوم شرقي بسيطةٌ جدًا، وغير معقدة كما ينظر إليها الغربي. وفي هذا السياق يمكن فهم تعليله للعائلة التي تمضي الوقت نومًا في روايته «كسالى الوادي الخصيب» بقوله: « يسمح لنا النوم بالتفكير على نحو آخر، أن لا نعمل شيئًا هو عملٌ باطني. العاطلة ضروريةٌ للتأمل».

وهنا تبدو جزئية أخرى جديرة بالملاحظة وهي أن العيش من دون عمل مقترنٌ لدى «ألبير قصيري» بما يمكن أن نسميه «الوسع»، أو بقدرة المرء على ذلك. وكما يقول فإن «الثروة الحقيقية هي أن يكون بوسعك العيش دون عمل». إنه شيءٌ ليس على إطلاقه. ولكنه مرتبط بمفهومك للعمل وبنوعيته، وبالمهمة التي تحددها لذاتك، وبالحياة التي تختارها لنفسك، ومن قبل بوسعك ورؤيتك الخاصة لوجودك فيها. ومن ثم فإن إلصاق الكسل بالرجل كتهمة لمجرد أنه عاش في غرفة واحدة لأكثر من خمسين سنة، أو لأنه لم يمارس مهنة معينة، وأخيرًا لأنه أنتج سبع روايات ومجموعة قصصية وديوان شعر في حياته كلها، هو إهانةٌ للرجل وعبطٌ من أنفسهم. لأنهم يغضون النظر عن مفاهيم مثل الجودة والنوعية والتكثيف، وما يستوجبه ذلك من قراءات وتأملات وتفكير بالنسبة لكاتب يأخذ الحياة (هونًا) لا على عجل. كاتب لا يسأل: كم بقي من الوقت؟ لأنه لا يهمه من البداية أن يسابق الزمن ليملأ أرفف المكتبات بالورق المجلد.

وبمقدورنا أن نتأمل أعظم الكتَّاب من ذوي الإنتاج الغزير لنتساءل: كم بقي منهم أو كم يبقى من أعمالهم؟ ولن نجد أكثر مما انتجه ألبير قصيري الذي لم تكن أولويته الكتابة من أجل الكتابة. حتى أنه سخر من هؤلاء الذين يكتبون يوميًا. فالعبرة ليست أن تكتب، وإنما عن ماذا تكتب؟ وبالنسبة له فهو يكتب « لأن لديَّ شيئًا أقوله ضد هذا العالم، ضد عفنه وضد البلهاء». ولذلك فقد أجاب عندما سئل إذا ما كان مستمرًا في قراءة كتَّاب معاصرين، قائلًا: « لا، لأنهم يكتبون بغض النظر عن ماذا؟». وهو الذي قرأ في ما قرأ، وما رشح عن سيرته الذاتية من تصريحات: فولتير، وموليير، وبلزاك، وستندال، وفيكتور هوجو، و بومارشيه، ومالرو، وجان جينيه، ودوستويفسكي، ونيتشه، وسارتر، وألبير كامو، و آخرين لا نعلمهم هو يعلمهم.

إن الحديث عن «الكسل» بمفهومه السطحي، حتى وإن قرنه البعض بكلمةٍ فخمةٍ مثل «فلسفة» تمجيدًا للشأن، ما هو إلا إهانةٌ لرجلٍ ظل يكتب ويقرأ ويتأمل ـ أي يعمل، وإن ببطء وإن بتمهل ـ إلى السنوات الأخيرة من عمره. من ثمَّ لم يكن كسولًا ولا داعيةً لكسل، ولكنه كان مُتعَويًا ومتمهلًا داعيًا للمتعة والتمهُّل. وهكذا أحب «ألبير قصيري» العالَم، وهكذا ينبغي للعالم أن يحبه، وأن يعيد قراءته واكتشافه.