أفكار وآراء

«الأمــور طـــيبة».. أهي «هامش للمناورة» أم «لا شيء يهم»؟

27 أكتوبر 2019
27 أكتوبر 2019

أحمد بن سالم الفلاحي -

تنجز بعض المفاهيم التي تعبر عنها الكلمات، بقدر الوعي العام لدى الناس في بيئة معينة، على الرغم من أن كثيرا من هؤلاء الناس- ربما- لا يعون ما تذهب إليه هذه الكلمات من معان كبيرة، ومهمة، وضرورية، وإنما يأتي استخدامها هكذا، انطلاقا من ما تعارف عليه الناس، أو يتعارفون.

من أن هذه الكلمة تذهب إلى المعنى الضمني، وتفسيره كذا، وكذا، وغالبية الناس، لا يهمهم هذا الـ «كذا وكذا» ولكن ما يهمهم، في لحظة تداول الكلمة، أنها تؤدي الغرض المقصود، وكفى، لأن كثيرا من الناس لا تستوقفهم التفاصيل، ولا هم يريدون أيضا أن يدخلوا أنفسهم في هذه التفاصيل، من الأساس، ويكتفون بالفهم العام، سواء ارتبط الفهم العام، بكلمة، أو ممارسة، أو إيماءة، أو بقيمة سلوكية يعتمدها الوسط الاجتماعي الذي يحتضنها، دون غيره من المجتمعات.

وفي الحياة اليومية كثيرة هي هذه المفاهيم التي تأخذ هذا المنحى المفاهيمي المعروف بين الناس في المجتمع، سواء كانت هذه المفاهيم مادية ملموسة، كالكرم، وكالوفاء بالوعد، وكالتضحية بشيء ما، أو مفاهيم معنوية، كالصدق، والأمانة، وحسابات الضمير الخفية، وأيضا مع متضادات، أو تقاطعات هذه المفاهيم كلها، فالكرم يتقاطع مع البخل، والتضحية تتقاطع مع الأنانية، والصدق يتقاطع مع الكذب، والأمانة تتقاطع مع الخيانة، وقس على ذلك أمثلة كثيرة في الحياة. فـ «الأمور طيبة».. هي واحدة من المفاهيم - أعتبرها الحديثة - في مجتمعنا، طغت على سطح المفاهيم الاجتماعية في وقت متأخر، حيث لم تكن معروفة من قبل، ولا متداولة بشكل مكثف؛ كما هو حالها الآن، حيث تسمع تداولها اليوم بين الصغير والكبير، المرأة والرجل، سواء بسواء، وهي متداولة هكذا بوعي أو بغير وعي، حيث أصبحت سهلة على اللسان، حاضرة في كل مناسبة ومكان؛ ولأنها تتعلق كثيرا بجوانبها الاجتماعية على وجه الخصوص أرى أنه من المفيد الوقوف عند بعض ما تذهب إليه معاني هذه الجملة «المفهوم» سياقاتها المفاهيمية هو ما يذهب إليه الفهم العام عند الناس، أم أن هناك شيئا من التناقض، أو شيئا من التضاد، أو شيئا من المؤازرة؟ والذي أتصوره - وأنا أهم بهذه المناقشة - أن كل هذه السياقات المفترضة لمعنى هذا المفهوم هي حاضرة في كل مناسبة يأتي ذكر «الأمور طيبة» وعاها الناس، أم لم يعوها، استحضروها «مفاهيميا» في لحظة نطقها أو لم يستحضروها، قصدوها أو لم يقصدوها.

«الأمور طيبة».. هل تنقلنا من المراحل الحرجة للموقف ذاته إلى المرحلة أكثر اتساعا ومرونة؟

لأنه عندما تضيق الدائرة، أو المساحة المتاحة للحوار بين الشخصين، سريعا ما تجد أن يقول لك الطرف الآخر: «الأمور طيبة» أي لا تهتم، فكل الإشكاليات المتوقفة عند هذه النقطة ستجد طريقها للحل، وهذا في حد ذاته إلزام مباشر لصاحب المقولة، ويترتب على ذلك الكثير من الواجبات، فهل يدرك من يقول ذلك في لحظة تفاعلات الحوار وسخونته أنه ألزم نفسه بهذه الواجبات؟، ولذلك وفي هذه المواقف يرى بعضهم أن في ذلك هروبا فجائيا عن الاستمرار في الموضوع ذاته، وذلك خوفا من زيادة التبعات، وتحمل المسؤوليات، ولذلك هناك من يلجأ إلى «الأمور طيبة» وفقا لقاعدة «الأمر إذا ضاق اتسع» مع خطورة عدم الوعي اللحظوي للالتزام في الموقف الحرج نفسه، حيث يترتب على ذلك كثير من الواجبات والمسؤوليات؛ كما جاء أعلاه.

تحت عنوان: (كيف تكمل طريقك نحو النجاح رغم العثرات؟) كتبت الباحثة ماريسا شريف - أستاذ مساعد في إحدى كليات جامعة بنسلفانيا الأمريكية - قائلة: « إن إفساحك لنفسك «مساحة للمناورة» عندما تكون بصدد وضع أهدافك، يجعلك تضرب عصفورين بحجر واحد. أول هذين العصفورين، هو استفادتك من حقيقة أن وضع هدف ليس من السهل تحقيقه، يشحذ قدراتك للوصول إليه، أما الثاني فيتمثل في أن وجود «هامش للمناورة» وضعته أنت لنفسك، يحول دون أن تشعر مع أي انتكاسة محتملة، بأن «لا شيء يهم»، ما يجعلك تفقد السيطرة على تصرفاتك، وتمضي في اتجاه معاكس تماما، لمسارك المنشود» وتضيف: «غير أنه يتعين عليك إدراك ضرورة توافر عنصر مهم في «هامش الطوارئ أو المرونة» الذي ستحدده لنفسك، ألا وهو أن تشعر بالذنب إذا لجأت إلى استهلاك ما هو مُدخر فيه، وهو «تكلفة نفسية يجب على المرء أن يتكبدها، إذا استخدم الموارد التي يُدرجها في خانة ما هو مخصص لوقت الطوارئ».

إضافة؛ حسب الشرح؛ «وأظهرت الدراسات التي أجرتها أن الإخفاقات قصيرة المدى تعرقل محاولات الكثيرين منّا لتحقيق أهدافهم. وتلعب ظاهرة «فليذهب كل شيء إلى الجحيم» هذا دور لا يستهان به في هذا الصدد، إذ تبين كيف تؤدي أي انتكاسات -نُمنى بها- إلى التأثير علينا سلبيا بشكل كبير للغاية» - وفقا لموقع الـ بي بي سي - زمن دخول الموقع: الأربعاء 23/‏‏10/‏‏2019م، الساعة: 11:50 صباحا.

«الأمور طيبة».. عندما تتخلى عن التزاماتك في أمر، قد تقول لنفسك: «لا يهم، فسأعوض ذلك لا حقا» مع أن هذه المهادنة النفسية بينك وبينها قد تفضي إلى كثير من التقصير مع الآخر، وقد ينظر إليك بشيء من الاستخفاف، ومع ذلك تمضي، وفق هذه الأمور؛ لأن الطرف الآخر- كما تظن أنت- أيضا يحاسبك وفق هذا المفهوم، ولذلك فلا بأس أن تجتر مجموعة الأرصدة الموجودة بينكما من المودة والإخاء، ولكن هذا مذهب لا يركن إليه من يحاسب نفسه، ومن يرى في تقصيره تجاه الآخر شيئا عاديا تغفر له عبارة «الأمور طيبة» وأن التفكير دائم هو وجود «هامش مرونة» يمكنك تعويض ما فقدته في لحظة زمنية قادمة، أو في موقف مماثل قادم مع آخرين، إن لم يتسن تحقيق ذلك مع من كان قبلهم، ، أعتقد أنها مناورة لكسب ثقة النفس فقط، ليس إلا، فالناس؛ في المقابل؛ يفهمون ما تحت السطور، والقليل منهم من يتسامح؛ ولذلك لا تستبعد عندما يكون أسلوب تعاملك معهم وفق منهجية هذا المفهوم؛ أن يقابلوك بالمثل، وعندها عليك أن لا تتذمر، أو يخالجك الشعور بالزعل؛ لأن تاريخك في سلوك «الأمور طيبة» هو الذي يرسخ عند الآخر صورة نمطية عنك بأنك لا تبتعد كثيرا عن سوء تقدير المواقف، وأن كل شيء عندك وفق مفهوم «فليذهب كل شيء إلى الجحيم».

«الأمور طيبة».. ربما تفرض أيضا تساؤلا، وهو كيف لها أن تعكس واقعا تسامحيا- ربما- يغفله كثير من الناس في ظل تسيّد مفهوم الـ «سوق» القائم على الربح والخسارة، فمفهوم السوق يقتضي أن يكون هناك مقابل لكل شيء، ولا تمر الأحداث دون أن يدفع لها ثمنا مقبوضا، فإذا أخطأت لا يكفي أن تبرر خطأك بـ «الأمور طيبة» فهذه «لا تسمن ولا تغني من جوع» إذن فلا بد أن تحاسب، فتكلفة الخطأ ليست هينة، لأنه يضر بالطرف المتلقي، وبالتالي فمن يجبر هذا الضرر؟ «الأمور طيبة».. يقول لي حارس الأمن المنظم لعمليات دخول الزائرين عند إحدى غرف العناية المركزية؛ حيث ترقد عمتي: «حتى لو تأخرت عن موعد الزيارة ربع ساعة، يمكنك الدخول فـ «الأمور طيبة» استثقلت منه هذه الخدمة على أهميتها بالنسبة لي، ولكن هذه الفسحة الخارجة عن القانون، قد تفضي إلى مشاكل كثيرة، ليست في صالح المريض، كأن يدخل أناس كثيرون؛ مجرد معرفة؛ لا أكثر، وهذا يخالف التعليمات الطبية التي؛ غالبا؛ ما توصي بأهمية تقليل الزيارات، خاصة للمرضى في مثل هذه العنايات الخاصة والمركزة، لخطورة حالاتهم، وتأثير كثرة الزائرين لهم على أوضاعهم الصحية، وهذه «الأمور طيبة» قد تتيح التخويل؛ وفق هذه الصورة أيضا؛ لأن يأتي زائرون كثر قبل أو بعد الزيارة المقننة من قبل إدارة المستشفى، بما في ذلك من إحراج للطاقم الطبي المعالج، الذي يرتبك بوجود هذا الكم من الزائرين في غير الأوقات المحددة للزيارة.

ختاما؛ يمكن القول إن «الأمور طيبة».. تظل مقاربة مفاهيمية بينها وبين «هامش احتياطي الطوارئ» أي أن تضع لنفسك «خط رجعة» فبعض ممارسات هذه المقاربة تؤول إلى التضاد، وحسب رأي الباحثة ماريسا شريف: «إن وجود» هامش للمناورة» وضعته أنت لنفسك، يحول دون أن تشعر مع أي انتكاسة محتملة، بأن «لا شيء يهم»، ما يجعلك تفقد السيطرة على تصرفاتك، وتمضي في اتجاه معاكس تماما، لمسارك المنشود» فهل نستطيع استحضار هذه المقاربة مع ترديدنا المستمر لـ «الأمور طيبة»؟