أفكار وآراء

حروب «الواتس آب» في مجتمعاتنا!

16 أكتوبر 2019
16 أكتوبر 2019

محمد جميل أحمد -

ثمة شيء غير طبيعي في استخدام ظاهرة وسائل التواصل الاجتماعي، في هذا الجزء من العالم المسمى عربيا؛ فتلك الظاهرة، إذ بدت أثراً من أهم آثار ثورة المعلوماتية والاتصال، بما قد يتعذر علينا اليوم إدراك الهوية الكلية لها أو تكييفها الذي يفسر معناها، فذلك، في وجه منه، لأننا لانزال جزءاً من الظاهرة، بحيث يمكن القول؛ إننا بالنسبة إلى تلك الظاهرة الرقمية في أيامنا هذه، نمثل ذاتاً وموضوعاً في الوقت نفسه، ما يعني، أن القدرة على الانفكاك من مناخ تلك الظاهرة وتكوين رؤية مستقلة عنها قد لا يكون متاحا في الوقت القريب، فمن كان ترسا في عجلة لا تكون له القدرة على الاستقلال برؤية العجلة من خارجها بطبيعة الحال.

بيد أن عجزنا عن توصيف حقيقة وسائل التواصل الاجتماعي (فيسبوك، ـ تويتر ــ واتس آب) وإدراك كنهها الكلي (الذي سينكشف في يوم من الأيام) لا يجعلنا عاجزين على رصد آثارها الخطيرة، في سياق مجتمعات شفاهية كمجتمعاتنا، مما يعني أن اشتباك ظاهرة وسائل التواصل الاجتماعي مع مجتمعات المشافهة سيفرز بالتأكيد نمطاً آخر لا علاقة له بسوية وسياق التطور الطبيعي للمجتمعات.

ذلك أن الشفاهة التي يتم تعويمها، شكلانيا، بأسوأ النماذج المتصلة بعادات «النميمة» وعشوائية الكلام المجاني في مجتمعاتنا، تبدو في ظل وسائل التواصل الاجتماعي، ولاسيما عبر التسجيلات الصوتية (للواتس آب) كإحدى أبرز المعضلات التي يمكن أن تتفاعل مع العادات السيئة لمجتمعاتنا، ولاسيما إذا واتت أوضاعا غير مستقرة، مما سينتج عنها صدمات خطيرة تتجاوز في تفاعلاتها داخل تقاليد مجتمع الشفاهة، إلى مستويات يصبح معها احتمالات الانحدار إلى قاع مظلم أمراً لا شك فيه.

إن تفاعل التسجيلات الصوتية لظاهرة (الواتس آب)، في اللحظات الحرجة من حياة مجتمعات الشفاهة هي بمثابة قنابل أشد فتكا، لأن ردود الفعل المتقابلة هنا ستكون عبارة عن موجات لا يمكن معها أبدا الاحتفاظ بأي محدودية لأسرار المجالس. المفارقة في تلك الظاهرة، هي أنه لا وجود (أقله في المدى القريب) لأي إمكانية للتحكم في تلك الأصوات الطائرة، بما يعني أن الأفق المفتوح للتأويلات والرسائل التي يضمنها البعض للبعض في مجتمعات الشفاهة ويريد بها شراً، سيكون جزءاً من عمليات لا متناهية ولا يمكن وقفها أبدا.

هذا يعني أن الاستيهام المتوحش للتكنولوجيا في مجتمعاتنا المتخلفة سيعكس أوهاما وتشكيكات مضللة عن طبيعة استعمال أجهزة الاتصال؛ حين تعجز (وفق ذهنية مجتمعات الشفاهة)؛ عن توصيف المقاطع الصوتية الشريرة بأنها «نميمة طائرة» و«فتنة جوالة» ومساوية في حقيقتها لكلام المجالس الخاص وراء الحيطان، والحال هذه، تصبح التسجيلات الصوتية لـ (الواتس آب) في مجتمعاتنا الشفاهية شيئا لا يسوغ لها أي استعداد للتواطؤ المجتمعي في وصفها «نميمة طائرة» باعتبارها نفس النميمة وكلام الحيطان الذي كان.

إن عمق هذا الإشكال الذي يعجز عن التعامل مع ظاهرة النميمة الإلكترونية» (كنميمة لا تختلف من حيث نوعها عن سابقتها التقليدية) يكمن في تقديرنا، من عجز مجتمعات الشفاهة عن التفريق «بين الكتابة والكلام» بحسب مجاز بليغ لمحمود درويش. فاستعداد مجتمعات الشفاهة الذي يتسامح مع قول الأشياء الحساسة بلغة عربية فصحى، هو ذاته الذي لا يتسامح مع قول تلك الأشياء في الفضاء العام بالعامية.

ويمكن إسقاط دلالة المثال آنف الذكر على تسجيلات (الواتس آب)، من حيث إن اعتبار تلك التسجيلات، في حال كونها نميمة تقليدية، هي جزء من طبيعة مجتمعية لا يعول عليها العقلاء، في حين أن هؤلاء العقلاء، لا يمكنهم أن يتسامحوا مع تلك النميمة ذاتها حين تتحول إلى نميمة إلكترونية طائرة عبر مقاطع الواتس آب ؟!

وفي تقديرنا، أن هذه الحالة التي تعكسها أزمة تسجيلات (الواتس آب) في اللحظات الحرجة وغير المستقرة لمجتمعاتنا؛ هي حالة عيانية بامتياز للكشف عن طريقة اشتغال آليات التخلف بصورة واضحة جداً.

إن كل تطور هو انتقال أرقى في استخدام وسائل للمعرفة ودخول في مرحلة جديدة أفضل من المراحل السابقة للتطور الجديد.

وللقياس والمقارنة، أيضا، هل يمكن القول إن ظاهرة كهذه يمكن أن تحدث في مجتمعات العالم المتقدم؟

في تقديرنا، أن نظام مجتمعات الشفاهة (الذي أثبتت دراسات واستطلاعات علمية، أنه نظام نقيض لنظام مجتمعات القراءة والكتابة) هو الذي يعكس هذه الأزمات المسطحة في تعاطيه مع متغيرات العالم الرقمي.

فمجتمعات القراءة والكتابة، أي المجتمعات التي تجعل من القراءة أولوياتٍ في عاداتها اليومية ليس فقط كهواية، ولكن كنمط لسلوك حياة لا يمكن تعقُّل مفرداتها في النظام والقانون والمعرفة والأسلوب العام للعيش إلا بالقراءة والضبط.

فمجتمعات القراءة والكتابة، عبر التفاعل بين فعل القراءة كضرورة لممارسات الحياة اليومية في كتاب المعرفة، وبين رؤية تلك المجتمعات لذاتها ولمجتمعها وللعالم، لا تجعل من منطق الشفاهة حاكماً عليها أبداً، أي لا تكون الفوضى والبلبلة، وهما نمطان يحكمان عالم مجتمعات الشفاهة، جزءاً من تعبير تلك المجتمعات المتقدمة عن الحياة والعيش الكريم.