أفكار وآراء

قصة «حقوق الإنسان».. أشتكي إليك منك

22 سبتمبر 2019
22 سبتمبر 2019

أحمد بن سالم الفلاحي -

[email protected] -

يبدو أن وسائل التواصل الاجتماعي، ليس فقط أربكت مجموعة القيم الـ«خاملة» في مجتمع ما، بل عجلت في ثورتها، وفي حلحلتها، وفي حركتها، وفي تصادمها مع الواقع كذلك، ولذلك بقدر ما ينظر البعض إلى هذه الوسائل على أنها المنقذ من الحالة الخاملة هذه، ويشير إليها بالفضل، ينظر إليها البعض الآخر، بشيء من الخوف والارتباك، ويرى فيها الواقع المقلق غير المتحكّم في نتائجه.

ولذلك يكيل إليها التهم، وانطلاقا من هاتين الصورتين المتناقضتين تبدأ، على ما يبدو، حالة جديدة تعلي من سهم الأول، وتزيد من قناعاته التي يؤمن بها بضرورة إحداث حالة من التغيير القيمي، وتدعو الآخر إلى ضرورة إعادة حساباته، وتحديث برامجه، فمرحلة «اغمض عينيك واتبعن» مرحلة طواها التأريخ بين صفحاته الصفراء، إلى غير رجعة، ذلك أن هذه الوسائل مدت وسائط في الاتجاهات الأربعة، وكل البشر الذين يقطنون في هذه الجهات الأربع تتوغل بينهم هذه الوسائط، وتتداخل معهم في مختلف شؤون حياتهم اليومية من غير حول منهم، ولا قوة، أرادوا أو لم يريدوا، والمسألة مرشحة لكثير من التكاثر، والتناسل، وتعرية ما هو مغطى، وتجلية ما تلبسته الأدران ردحا من الزمن، ومن هنا تأتي النداءات اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى ضرورة الالتفات إلى القضايا الإنسانية بشكل أكثر إلحاحا.

و«قصة» حقوق الإنسان واحدة من الموضوعات التي ران على حقيقتها التهميش، والتضليل، و«غض الطرف أنك من نمير، فلا كعبا بلغت ولا كلابا» كما هو قول جرير المعروف، ذلك أن هذه الوسائل قرّبت الشعوب، وأظهرت الأصوات، وجسدت معاناة ملايين البشر الذين، حتى هذه اللحظة، لم تستطع الحضارة الحديثة بزهوها، ونرجسية صانعيها أن تنصفهم، وأن تعيد إليهم إنسانيتهم المهدرة على أرصفة الموت، والمهانة، والقسوة، وكل ذلك لكي يحافظ هذا الإنسان على تطاوله، وعلى غطرسته، وعلى علوه فكره المشوه، وعلى (أخذته العزة بالإثم) ولا تزال الحياة تسير وفق تراتبيتها المعهودة، يصدق فيها قول ابن السماك، انه وجد الحياة ظالم مستمر في ظلمه، ومظلوم لا ينتصر له، ومن هنا تأتي ضرورة وجود تشريع، ومن هنا تأتي ضرورة أكبر وهي تطبيق التشريع، ومن هنا، ثالثا، ضرورة أن يؤمن الجميع بأهمية التشريع، كمحدد أسما لتنظيم العلاقة بين الناس جميعهم، في أوساطهم، وفي جميع شؤون حيواتهم.

ومن هنا تنيخ (العدالة الاجتماعية) ركابها في كل المجتمعات، فهذه العدالة، وهي المتحقق من شروطها القليل في كثير من المجتمعات، والذاهب في طي النسيان والنكران الكثير من شروط تحققها، تظل هي المعزوفة الأسمى للبحث بين جوانبها عن ما يمسى بـ«قصة حقوق الإنسان» وبالتالي فلا يمكن بأي حال من الأحوال أن يبحث عن «قصة حقوق الإنسان» في أي زاوية أخرى من زوايا المجتمع الإنساني، ويأتي التوصيف هنا بـ«قصة» لأن «حقوق الإنسان» حالة إنسانية شديدة التعقيد، وشديدة الحساسية، فيها لاعبون كثر، ومشاهد وفصول مسرحية أكثر، فصولها مستمرة، وعقدة حلها باقية، واللاعبون في تمثيلها وتجسيدها، كل البشر بلا استثناء، والاستثناء الوحيد، إن وجد، هو ذلك الفرد الذي يستشعر أهمية أن تتحقق فصول هذه القصة على الواقع في جانبها الصحيح والحقيقي، وتعود البشرية إلى مرابضها وقد تحقق لها كل ما تحتويه «قصة حقوق الإنسان» ولأن هذا الأمر مستحيل لأنه لن يكون في يد منظمة، ولا فئة، ولا منظومة سياسية، أو اقتصادية، أو ثقافية، أو اجتماعية، معينة، وإنما في أيدي هؤلاء كلهم، وكلهم يرى تفاصيل هذه القصة برؤيته الخاصة، وينفذه على الواقع انطلاقا من قناعته الخاصة، ويدافع عنها، أو يتناساها انطلاقا من هذه الخصوصية مجتمعة، ولذلك ستتموضع «قصة حقوق الإنسان» كما هو الحالة الآن، وسيظل كل جيل يبحث عنها، كما هي حالة البحث عن «الكنز المفقود» وبالتالي فمن يكتوي بنار عدم تحققها يكون ذلك نصيبه من الحياة، ومن يحصل على الفتات منها، يكون قد نال نصف الرزق، وعليه بالشكر، «وذلك أضعف الإيمان».

في كثير من التجارب الدولية ينظر إلى «قصة حقوق الإنسان» على أنها حالة من التوازن في العلاقة بين الدولة والمجتمع، ولأن المجتمع متعدد المشارب، والأفكار، والقناعات، والرؤى لأفراده الكثر، ولأن الدولة مكّون محدود تمثله «الحكومات» فإنه يبقى من السهل أن ترمى الكرة في سلة الدولة، وبالتالي يشار إليها بالكثير من التقصير، وتصوب السهام نحوها، فعلى، سبيل المثال، عندما يتم الحديث عن مجموعة الإخفاقات التي تقع على منصة العدالة، فإن السهام تتجه مباشرة إلى القصور الذي تمارسه السلطة القضائية فقط؟ والسلطة القضائية هي جزء من الحكومة، وعندما تكتشف مجموعة «مثالب» في القانون، فإن القانون يتهم بالضعف، والقانون مصدره السلطة التشريعية، والسلطة التشريعية هي جزء من الحكومة، وإن حدث في تطبيق التشريع ممارسات متعمدة، فإن السهام سوف تتجه إلى القائمين على السلطة التنفيذية، وهذه السلطة هي جزء من الحكومة، وفي هذه الأمثلة الثلاثة لن يكون التشريع هو الوحيد الموكول إليه صناعة العدالة الاجتماعية، وتحقيق أكبر لمساحة الحقوق الإنسان، حتى وإن أحكم هذا التشريع بنصوص لا يمكن النفاذ منها مهما كان، لأن هناك بشر، وأن الحكومات الممثلة للدول، هي ذات هؤلاء البشر الذين يمثلون المجتمع، وهم ذات البشر الذين ينادون بحتمية وجود حقوق الإنسان على مختلف مناحي الحياة الاجتماعية، وهم أنفسهم الذين يخلّون بهذا الشرط في ممارسات حيواتهم المختلفة، إنها معادلة تحتاج إلى كثير من المراجعة، والمراجعة في يد هؤلاء كلهم، بلا استثناء، لأنهم هم من يضعون التشريع، وأنهم هم الذين من يخونون التشريع في عدم قناعتهم بتطبيقه بصورة مطلقة، هل هو تناقض سلوكي، أو مفاهيمي «توعوي» أم أنها معاندة متعمدة؟ كل ذلك صحيح، ومع ذلك يبقى النداء بأهمية تحقق «قصة حقوق الإنسان» وتحولها من قصة معروضة على مسرح المجتمع، إلى تطبيق يؤمن به كل فرد في المجتمع، لأن الحقوق الإنسان ليس معنيا به أحد دون آخر، وإن كان هناك فهم آخر يقال فيه «أن الحقوق تنتزع، ولا تهدى» ولكن من ينتزع من؟ هذا هو السؤال.

السؤال المطروح هنا أكثر، هو متى سيكون الفرد في مكوّن الدولة طرفا محوريا مع باقي الشركاء الاجتماعيين والسياسيين والاقتصادين والثقافيين في صناعة «قصة حقوق الإنسان»؟ وبدلا ما يكون ناقدا على طول خط التطبيق لمفهوم حقوق الإنسان، يكون مشاركا، ومساهما، ومتعاونا، ومنطلقا من قناعاته وأمانته بأهمية أن تكون حقوق الإنسان أمرا محوريا في حياته؟ هذه مسألة ليست يسيرة، على كل حال، فهي بقدر ما هي مهمة، هي في الوقت نفسه ضاغطة على انفلاتات الأنفس، وحب سيطرتها، وتفريغ شهواتها، ومن هنا تواجه كل القيم الإنسانية نفس هذه المعضلة، وهي الصراع بين الإنسان ونفسه، ففي الوقت الذي يريد أن يحقق نظاما مثاليا تكامليا في حياته، تراه يركن إلى نزاعات ذاتية لا تتيح له فرصة الوصول إلى هذا السمو الجميل لأفق الحياة الأجمل، ولذلك تواجه التطلعات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، سواء للأفراد، أو لمكونات الدولة ككل، هذه الصراعات الثانوية، وكما هي موجودة عند الفرد، هي موجودة عند المجموع على مستوى الدولة، ذاتها، وإلا ما كنا نسمع عن قضايا السرقات، وهتك الأعراض، وجرائم القتل، وتعذيب الأنفس، بين جدران المنازل، وحالات الاغتصاب، وحالات الطلاق لأتفه الأسباب، وحالات الضرب المبرّح لمواقف تافهة، وحالات الاستهزاء، والسخرية، وخائنة الأعين، واستغلال المواقف، ومواقف «لي الذراع» وغيرها الكثير مما يدمي القلب، قبل العين، إلا صور حية لانتهاك حقوق الإنسان، وما زالت البشرية تستمرئ فعلها المشين، وتريق الدماء على أرصفة الفوضى.

لذلك تبقى النداءات مستمرة إلى ضرورة إيجاد أو صناعة أرضية خصبة للعدالة الاجتماعية، من حيث تقبل الآخر، احترام فكره، ونوعه، وعرقه، ودينه، ورأيه، وتوجهاته، ومتى خرج في كل هذه المناخات عما هو معقول يعاد تصويب مساره من خلال القانون، وليس من خلال انتهاك حقوقه الإنسانية، لأن القانون يبقى الوحيد الذي يحمل روحا تبقى كل الكائنات حية على سطح هذه البسيطة.