أفكار وآراء

أيديولـوجــيـا الكــراهية وكـيـف نحــاربــهــا

20 سبتمبر 2019
20 سبتمبر 2019

ديفيد بروكس- نيويورك تايمز -

ترجمة قاسم مكي -

يكتب العديدون من القتلة مرتكبي المذابح الجماعية اليوم بيانات سياسية وينشرونها على الملأ. فهؤلاء لا يقتلون فقط لأنهم تعرضوا لدمار نفسي أو لأن شعورا مرضيا بالوحدة يسيطر عليهم أو لعمق تشاؤمهم من مآلات حياتهم. إنهم يستوحون القتل من أيديولوجيا مشتركة ويأملون في انتشارها عبر موجة من الإرهاب.

أوضح تعبير لهذه الأيديولوجيا كتبه المشتبه بارتكابه مذبحة بلدة كرايستجيرج بنيوزيلندا في بيان (مانيفستو) نوه به إرهابيون آخرون في معرض تبريرهم لجرائمهم. من بين هؤلاء المتهم في حادثة إطلاق النار في الباسو بالولايات المتحدة الشهر الماضي.

لم يكن بيانه من النوع الذي يمكن أن تتوقعه تماما. ففي جزء منه يتطرق مؤلفه إلى أسفاره حول العالم ويكتب ما يلي: «في أي مكان ذهبت إليه باستثناء حالات بسيطة وقليلة تعاملوا معي بطريقة مدهشة. فكثيرا ما عوملت كضيف بل حتى كصديق. لقد استقبلتني الثقافات المتنوعة في العالم بدفء وتعاطف واستمتعت كثيرا جدا تقريبا بكل لحظة قضيتها مع (أفراد هذه الثقافات).

الأيديولوجيا التي يناصرها هذا الرجل موغلة في عرقيتها. لكنها ليست أيديولوجيا كلاسيكية مثل نزعة كراهية الأجانب أو تفوق العرق الأبيض.

أول ملمح من ملامحها هو الجوهرانية (الجوهرانية وجهة نظر ترى أن أصناف البشر، كالجماعات العرقية مثلا، لديها خصائص وطبائع وأمزجة مختلفة اختلافا جوهريا فيما بينها - المترجم). إن أهم شيء يمكن أن تعرفه عن شخص ما، بناء على هذا الملمح، هو عرقه. فالأبيض يرى العالم أبيض واللاتيني يراه لاتينيا والهوية عرقية.

الملمح الثاني هو الانفصالية (تعني الانفصالية في سياق هذا المقال الدعوة إلى فصل مجموعة معينة من البشر عن المجتمع العريض الذي تنتمي إليه وذلك على أساس عرقي- المترجم) . فالأعراق في عافية حين تكون نقية وغير مختلطة. والعالم في عافية حين يعيش مختلفو الأعراق في انفصال. ويكون مريضا حين تختلط الأعراق. يعلن المتهم بارتكاب حادثة الباسو حسبما كتب في بيانه أنه «ضد اختلاط الأعراق لأنه يدمر التنوع الجيني ويوجد مشاكل تتعلق بالهوية».

الملمح الثالث هو الداروينية العرقية. فالأعراق منغلقة في صراع دارويني تحاول فيه التفوق على منافسيها عن طريق التكاثر. وفي الوقت الحاضر فإن الأعراق الداكنة أقوى من العرق الأبيض. وهي على وشك القضاء عليه من خلال الغزو. كتب المشتبه به في ارتكاب جريمة كرايستجيرج أن المهاجرين « جاءوا من ثقافة لها معدلات خصوبة عالية وتضامن اجتماعي قوي وتقاليد متينة وراسخة. وهي ثقافة تسعى إلى احتلال أراضي شعبي والحلول محله عرقيا».

سبب هذا المنطق، إذا سمحنا للمهاجرين ذوي البشرة الداكنة بالدخول إلى بلدنا سيتغلبون على البيض، تماما كما تغلب الأوروبيون على الأمريكيين الأصليين (الهنود الحمر) قبل قرون مضت. وكما أوضح المتهم بتنفيذ مذبحة الباسو في بيانه « لم يتعامل الوطنيون مع غزو الأوروبيين بطريقة جادة والآن فإن ما تبقى منهم ليس أكثر من شبح للماضي». فالهجرة تعني الحلول محل البيض. والهجرة إبادة جماعية للبيض.

هذه الإيديولوجية شكل متطرف لحركة أوسع نطاقا هي «العداء للتعددية» التي تتخذ الآن عدة أشكال. من بين نسخها العديدة القومية الترامبية والشعبوية المستبدة والداعشية. هذه الحركات ردود أفعال للتنوع والسيولة (انمحاء الحدود بين الهويات) وطبيعة الاعتماد المتبادل للحياة الحديثة. فأعداء التعددية يتطلعون إلى العودة للحدود الواضحة والحقائق الراسخة والهويات المستقرة. إنهم يقتلون في سبيل « فانتازيا» ومن أجل عالم يلمع في خيالهم لكنه لم يوجد أبدا في الحياة الواقعية.

إن الصراع بين التعددية والعداء للتعددية أحد صراعات «الموت» العظيمة في زماننا ويجري خوضه في كل الجبهات.

نحن التعدديين لا نعتقد أن البشر يمكن تقليصهم إلى صنف عرقي وحيد. فكل شخص يشكل بمفرده (سيمفونية) من الهويات وحياتنا غنية لأن كل واحد منا يحتوي على كثرة. يؤمن التعدديون بالتكامل وليس بالانفصال. نحن نكتنز بالضبط ذلك التكامل الذي يرعب أعداء التعددية.

قبل نصف قرن كانت هنالك قلة من «الزيجات» بين الأعراق المختلفة أما الآن فحوالي 17% من الزيجات الأمريكية «متداخلة» الأعراق. والتعدديون دائما يوسعون من تعريف كلمة «نحن» ولا يقلصون معناها.

قبل ثمانين عاما لم يكن الكاثوليك والبروتستانت واليهود على وفاق وتوادد. لذلك تم إيجاد تصنيف جديد هو «اليهو- مسيحي» أدرج من كانوا يتطاحنون في السابق في «نحن» جديدة. وقبل ثلاثين عاما كانت دواعي التنافس تتعزز بين السود وذوي الأصول الإسبانية. لذلك استخدم تصنيف «الملونين» لإيجاد «نحن» أوسع نطاقا.

يؤمن التعدديون بأن التثاقف أو امتزاج الثقافات كان دائما هو الوضع البشري السوي ويجب أن يكون كذلك. فكل الثقافات تعرف نفسها وتجددها من خلال احتكاكها. والثقافة النقية هي ثقافة ميتة أما الثقافة (المزيج) فثقافة مبدعة. والحضارة التي يسعى الانفصاليون البيض للحفاظ عليها كانت هي نفسها نتاجا لموجات هجرة مبكرة.

أخيرا، التعددية هي مغامرة الحياة. فالتعددية ليست فقط تعايش بين أناس مختلفين في مكان واحد. إنها الخروج من الذات والدخول في حياة الآخر «المختلف». إنها حوار دائم ليست له نهاية لعدم وجود إجابة وحيدة للكيفية التي يجب علينا أن نعيش بها.

إن الحياة في مجتمع تعددي «دوامة» في حركة دائمة. فهنالك أعداء التعددية الذين يمزقون هذا المجتمع إربا. وهناك النساجون الذين يجمعون أطرافه. ولا توجد لحظة راحة بل تحول وسيولة وحركة.

يحلم الإرهابيون بعالم نقي وثابت. لكن الشيء الوحيد الثابت هو الموت وهذا هو السبب في انجذابهم المرضي نحو الموت. التعددية تتعلق بالحركة والاعتماد المتبادل والحياة. والصراع أمامنا يتعلق بقيم متنافسة بذات قدر تعلقه بالسيطرة على انتشار استخدام السلاح ومعالجة النفوس المدمرة . التعددية تزدهر عندما نسمي ما يكرهه الإرهابيون فينا ونمارسه في حياتنا.

  • الكاتب مؤلف كتاب (الطريق إلى الشخصية) ومؤخرا جدا «الجبل الثاني»